طالما راودني خاطر الكتابة عن فنّ تحقيق المخطوطات، هذا الفنّ الذي ابتُذل في زماننا، فخاض غماره كلُّ من لا دراية له ولا قدم راسخة في العلم، حتى كاد يُنسى أن التحقيق لا يليق إلا بعالم حصيف، بصير بتراث الأمة، عليم بمناهجه، خبير بأدواته، لا يزجُّ بنفسه فيه من لم يتأدّب بعلوم الآلة، ولم يشرب من معينها الصافي.
اليوم وقفت في كتاب (ربيعيّات) للصديق الأديب ربيع السملالي على كلمات عبّرت ببلاغة عمّا كان يعتمل في صدري من همّ ما نراه من التهاون في هذا الفنّ الجليل الذي لا يليق به التساهل ولا يحتمله.
وهاك ما قال الربيع:
ذكر علامة المحققين عبد السلام هارون في كتابه تحقيق النصوص أنه قرأ كتاب الحيوان للجاحظ سبع مرات حين أراد أن يحققه!
كتاب الحيوان يقع في سبع مجلدات! فانظر –يرعاك الله- إلى همة هذا الرجل، وصبره على سبر أغوار هذا الكتاب الدسم! كان العلم يجري في دمهم هو وأمثاله من علماء التحقيق في ذلك الوقت الذي لم يمر عليه الكثير! وهذا كتاب واحد فقط، وإلا فله عشرات التحقيقات على عشرات الكتب لا يتسع وقتي الآن لذكرها!
أما اليوم فأصبح كل من هبّ ودبّ يبحث عن مخطوطة مصوّرة فيقرأها قراءة سطحية كلّ همّه أن يرى اسمه (النكرة أبو فلان الأثري السلفي) على جلدة الكتاب متربعاً تحت عرش اسم صاحب الكتاب الأصل، لعله يقرن به أو يسير في ركابه ولو عن طريق الوهم!
ثم يخرج الكتاب بعد ذلك مشوّهاً خديجاً لا علاقة له بالتحقيق، ولا وشيجة بينه وبين هذا العمل الذي كان العلماء ينفقون في سبيل القيام به الليالي والأيام والشهور والأعوام!
وصدق أستاذي بلبصير حين قال لي يوماً: في هذا العصر أصبح بعض أدعياء التحقيق يفعلون كما قيل قديماً: خذ من هنا ومن هنا وقل هذا كتابنا!