ذهب مع صديقه زياد إلى الأردن، هناك رآها لأول مرة، كانت فتاة غاية في الجمال، شعرها الأسود الطويل، وعيناها الساحرتان، وجسمها الممشوق .. فتاةٌ خلبت لبه منذ أول وهلة.
رغم كثرة تجوال تركي ورحلاته التي شاهد فيها الكثير من النساء لم تنجح إحداهن في أن تستوقف قلبه كما فعلت فادية أخت زياد التي وقع نظره عليها في تلك الزيارة لمنزل العائلة.
عاد إلى بلده ومضت به الأيام والمشاغل، لكنه لم يستطع الهروب من طيف فادية أبداً، فكر أكثر من مرة في أن يفتح الموضوع مع صديقه أو أن يُلمِّح له برغبته في خِطبتها، لكن عدم استعداده للزواج حينها وقف حائلاً دون أن ينطق ببنت شفه.
وفي أحد الأيام كانت الصاعقة حيث دخل عليه زياد ببشاشةٍ واضحة وقال له وهو يناوله بطاقة في يده: لابد أن تحضر زواج أختي، هذه الدعوة أوصاني والدي بإيصالها لك شخصياً، وإذا لم تحضر أنا الذي سأغضب منك، أنت صديقي وأكثر من أخي لابد من حضورك.
نزل هذا النبأ على نفسه كأقسى ما يكون، أحس بأنه افتقد شيئاً يملكه أو ربما افتقد جزءاً من جسده، لم يستطع النوم تلك الليلة وليلتان تلتاها.
بين وقتٍ وآخر كان زياد يحدثه عن زوج أخته.. عن شخصيته المرحة وعن طيبته وكرم أخلاقه، لم يكن يطيق سماع هذا الكلام مطلقاً، ولم يكن يستجيب لما يرويه له من طرائف ومواقف مضحكة عن ذلك الرجل، رغم أنها حكايا طريفة ومثيرة للغاية.
استمرت وتيرة الحياة به حيث تزوج بعد سنتين وأنجب أطفالاً، لكنه رغم ذلك لم ينسها، كان يفكر فيها باستمرار، وكانت فكرة رؤيتها تشغله على الدوام، يتمنى أن يراها ليكحّلَ عينيه بمشهدها الجميل الفاتن ولو لمرة واحدة، كي تهدأ نفسه وينجح في اسكاتِ أنين الأشواق التي تصرخ في أعماقه.
لم يزل قلبه يصارع الحسرات عندما يتأمل زوجته وأطفاله، ويسأل نفسه – صامتاً – لو كانت هي أم أولادي، أفكانت تنقصني أي أمنية في الحياة بعد؟؟
خلال هذه السنوات كان يزور الأردن بصحبة صديقه وكان يحرص على زيارة بيت العائلة لكنه لم يرها أبداً حيث أنها تقيم مع زوجها في إربد - خارج مدينة عمان - حيث يعمل.
مضت سبع سنوات على ذلك اللقاء الذي شكّل نقطة ارتكازٍ للفرح والألم معاً في حياته.
ومثلما جرت العادة كان في رفقة زياد إلى الأردن لقضاء أيام إجازته، فاجأه خبرٌ لم ينتظره من زياد – عندما كانا في الطائرة – قال له بأن أيمن انتقل من إربد إلى عمان مع زوجته وأولاده، كان شوقه يستعجل الزمن للوصول إلى مطار عمان.
ذهب مع زياد إلى بيت العائلة، كان يبحث عن أي حجة للسؤال عن أيمن وأحواله، ليعلم أنه لم يكن وزوجته في البيت وقتها، وفي المساء جاء أيمن للزيارة وللترحيب بزياد وضيفه، شعر بعدم الرغبة في مصافحة أيمن وكأنه عدو له بينما كان أيمن يتبسم وهو يبادره : أهلاً يا تركي، كنت مشتاق لرؤيتك لكثرة ما حدثني زياد عنكَ وعن مواقفك الطيبة وشخصيتك، كم اشتقتُ للقائك.
سهروا سهرة جميلة تلك الليلة، وقبل أن يغادر أيمن قال : لابد أن تزورني في بيتي غداً على العشاء، وافق تركي فوراً، حتى أنه أحس بسرعة استجابته، بينما لم يشعر أحدٌ بما كان يعتمل في نفسه.
لم تكن ليلة في حياته أبطئ من تلك الليلة، يحدث نفسه بما كان ينتظره طيلة هذه السنوات، هل من المعقول أنه سيراها ؟ .. يسترخي على المقعد رافعاً رأسه ليطلق ظفرةً ساخنة ويفكر "بعد هذا الانتظار الطويل سأراها .. ياه .. كم كان انتظاراً متعباً".
في بيت أيمن صار تركي يعالجُ ارتباكاً وتوتراً قاهرين في صمت، بينما أيمن وزياد يتضاحكان ويتجاذبان الأحاديث، كان معهما بجسده بينما تجول الأفكار بهِ بعيداً، انتفض منتبهاً حينما قام أيمن ينادي زوجته: فادية أين الشاي ؟ وجاء صوتها الذي أحسه في داخله : طيب .. طيب.
رمى تركي ببصره إلى الأرض - مخفضاً رأسه - عندما سمع خطواتها تقترب، بلغ التوتر والاضطراب مبلغهما من نفسه، أحس بدخولها وكان يرفع رأسه ببطء شديد ويفتح جفنيه بتثاقلٍ مرتعش لينظر إلى قدميها، ويرتفع ببصره إليها ولم يزل يختلس النظر في خوفٍ شديد، وسرعان ما تبدل خوفه إلى دهشةٍ وتوتره إلى استفهام، وصمته إلى تبسم.. لم تكن هي .. لم تكن هيَ فادية التي يعرفها أبدا.. !!
.. عاد يتفحصها بعينيه متسائلاً .. "العينان هما ذاتُ العينين، الملامح ذاتها.. لكن يا إلهي.. ما الذي حدث لها ؟ .. كيف أصبح ذلك الشعر الطويل المنسدل كالحرير متجعداً مقرفا.. كيف أصبحت عيناها الضاحكتان بهذا الخمول وكيفَ اعترتهما هذه الحمرة.. كيف تحول ذلك الجسم الممشوق إلى بدانةٍ مترهلة.. أين هذا الإهمال من تلك الأناقة .. كيف تحول الجمال إلى قبح.. ما علاقة هذا الذبول الكريه بتلك الوردة اليانعة؟"، وخرجت الكلمات منه دون وعي: يا الله .. معقولة، وانفرطت منه ضحكةٌ – لا مبرر لها – بينما هو في شروده يضرب كفيه، حتى انتبه إلى زياد وأيمن ينظران إليه باستغراب، فبرر موقفه بقوله : آسف .. تذكرت موقفاً أضحكني.
في عودته إلى وطنه.. إلى زوجته.. إلى أبنائه.. إلى حياته التي يشعر أنه غاب عنها طيلة سنواتٍ سبع، كان يتأمل مشهد السماء الملبدة بالغيوم من نافذة الطائرة وهو يحدث نفسه "يا لها من سذاجة تملكتني وأخذت عقلي، لقد سرق هذا الحلم الكاذب حياتي، على مدى سبع سنوات كنت متعلقاً بصورة ثابتة في أعماقي أنا فقط، الواقع يختلف تماماً عما يبدو لنا، ليست الحقائق أبداً كما نظنها"، أحسَ بأنه كانَ نائماً طيلة المدة التي أمضاها في ترقبِ رؤيتها، وتمتم وهو يخط بسبابته - نزولاً - على سطح نافذة الطائرة: من يعيد إليَّ أيامي ؟