قصتان حدثتا مع امرأتين فقيرتين بنفس المستوى وهما مختلفتين سوف أسردهما لكم لما فيهما من معاني كبيرة وارتباط وثيق بخلقنا مع رب العالمين وشكر نعمته سبحانه، والصبر والرضا بقضاؤه
الأولى
بائعة خضار في الشارع، شكلها متواضع جدا، قصيرة وضئيلة ومنحنية الظهر، ويظهر عليها تعب سنين مع أنها في الثلاثينات من عمرها، ذهبت اليها لأول مرة لاشتري منها شيئا فاشتكت لي أن زوجها متزوج عليها وأنه لا يعاملها بنفس القدر وأن ضرتها معها في البيت ويظل زوجها يضحك مع الثانية طيلة الليل ويتركها وهي تبكي وكلها حسرة، قلت لها هذا ابتلاء من الله واصبري فإن الله إذا أحب عبدا ابتلاه كي يرجع له ولا يتلهى عن ذكره سبحانه بمتاهات الدنيا، ولن تشعري بلذة العبادة إلا مع شعورك بالاحتياج الشديد لله عز وجل، وإن كان هذا هو ابتلائك فإن وراء هذه الشرفات التي تنظرين اليها ابتلائات أخرى لا طاقة لك بها، فاحمدي الله على ذلك، وتضرعي له فليس لكِ غيره ..
وظلت شكواها تتكرر في كل مرة اشتري من عندها شيئا
وأعيد لها ما سبق وأقول لها لا تشتكي لأحد إلا لغرض أنه سيساعدك ولكن أنت بذلك تشتكين ربك، اتركي مسألة زوجك والجئي لله، ناجيه طوال الليل قولي له ما تريدين فأنا لا أملك لك شيئا ولكنه هو سبحانه من يملك.
وأحاول اثنائها عن تركيزها مع زوجها ومع شكواها لي وأن تتجه بهذه الطاقة إلى الله ولكن بلا فائدة، حتى أصبحت تنتظرني لتقول لي كم صلت وماذا فعلت في صلاتها وكأنها تصلي لي، فلفت نظرها لذلك ولكن بلاجدوى، حاولت أن أريها كم من نعم أنعمها الله عليها وهي على نفس النبرة، حتى أن ابنائها يسمونها مجنونة فلان على اسم أبيهم (ولكني نسيت الاسم) وهم يستنكرون عليها ما تفعله،
حتى قابلتني بعد شهور طويلة من المحاولات المستميتة معها، قابلتني في وقت متأخر من الليل كنت وقتها قد نسيت شيئا في السيارة وخرجت أحضره وكانت عائدة إلى منزلها، ولكن بدأت أعصابي تتفلت مني، وقلت لها بنبرة أعلى مما كنت أتحدث به، احمدي الله على صحتك فقد عافاك الله أنت وأولادك من المرض، احمدي الله أنك أنت وابنتك طول اليوم في الشارع ولم يتعرض لكم أحد، احمدي الله أن لديك وظيفة تعملين بها غيرك لا يجد شيئا يعمله، احمدي الله أن زوجك لا يؤذيكي فهناك من الزوجات من تتمنى ان يبعد عنها زوجها حتى تنئى بنفسها عن أذاه وأنت كل مشكلتك أنه لا يقول لك كلمة طيبة ..
فقال لي وبصوت صارخ ""أنا من حقي جوزي يعاملني كويس"
فرددت عليها بنبرة أشد لمن تقولين "أنا من حقي"، نحن في الثلث الأخير من الليل وثالثنا الله وتقولي له "أنا من حقي"، حرام عليكِ، أنت تقذفين بنفسك إلى التهلكة، من تتحدي؟ من يقف أمام الله ويقول "أنا من حقي"
ثم هدأت وناديت ابنتها ولطفت الجو حتى ابعد، فقد بدات أفقد صبري معها ..
وزرتها بعدها فوجدت ما اشتريه منها لم يعد مثل ذي قبل فهو يصيبه العفن سريعا بعد أن كان يظل في البيت مدة، فشعرت بأن هناك شيئا يحدث لها، وبعد أسبوع من وقفتنا في هذه الليلة وجدت الحي وقد أزال الهيكل الذي كانت تبيع تحته الخضار والفاكهة ولم أراها منذ ذلك الوقت.
الثانية
امراة سمراء طويلة في نفس حدود سن الأولى ولكنها تبدو قوية البنيان متواضعة الملابس، أجدها كل صباح تعبث داخل صفائح القمامة الكبيرة التي بالشارع، يحميها كلبين من الكلاب الضخمة فهي مصدر طعامهم الذي تجده وهي تبحث عن رزقها في الصناديق .. هي تراني وتعرفني وعرضت علي أن تقوم لي بأي عمل في المنزل، ولكني لم اهتم لأني أحب أن أرعى كل شئ بنفسي، ولكن في مرة أثارت فضولي فقلت لها عما تبحثين في هذه الصناديق، فقالت، عن الأشياء البلاستيكية، فقلت، وماذا عن الكراتين وما إلى ذلك قالت أما بالنسبة للكراتين فاعطيها لرجل على أول الشارع ويعطيني فيها جنيه أو جنيهان ..
ومنذ ذلك الوقت قررت أن أساعدها بأن لا أرمي كل شئ في سلة القمامة وأن أضع لها ما تبيعه في كيس نظيف منفصل بنية التصدق به، ثم رأيتها في الصباح وقلت لها أن تأتي وتأخذ مني الأكياس فعرّفتني بأولادها فقلت لأحدهم هل أنت في مدرسة؟
فردت ببساطة شديدة: هو كان المفروض يبقى في ثانية ابتدائي لكنه الآن في أولى لأن السنة اللي فاتت كان يعالج من جلطة
وقلت لها والثاني؟
ردت علي بنفس البساطة وقالت لي أنه خرج بعد رابعة ابتدائي لأنه كان يعالج من مشاكل في القلب وأُرهق من المدرسة
ثم صعدت معي إلى الدور الثالث وهي تحكي لي أنها تضطر للعمل لأن زوجها قعيد الفراش بمصائب اخرى، وأثناء صعودنا توقفت ووجدتها في حالة ضيق نفس شديد واعتذرت لي على ذلك وشرحت لي أن لديها مرض في الرئة بسبب استنشاقها لما في القمامة ..
وجلست تنتظرني أعد لها الأشياء فسألتني هل اتذكر البنت الكبيرة التي كانت تساعدها واستطردت قائلة أنها ابنتها وكانت 16 عاما ولكنها ماتت منذ عدة أشهر عنما انفجرت في وجهها الموقد الذي يعدون عليه الطعام ..
ثم انتقلت بحوارها معي لشئ غريب، فوجدتها على الرغم من أنها لا تعرف القراءة والكتابة أصبحت داعية إلى الله في المكان المتواضع الذي تعيش فيه، وتحكي لي ببساطة كيف أنها كلما ذهبت المسجد أخذت احد صديقاتها لتعلمها الالتزام لكن بلا فائدة، وأخبرتني أنها دائما ما تقول للنساء من حيِّها لا تجلسوا في الطرقات هكذا وتقول أحاديث الرسول (ص) أو ما حفظته منه أثناء حضورها لبعض الدروس، وتقول لهم أين حق الطريق،
ثم اشتكت لي – وكانت هذه هي الشكوة الوحيدة في مجمل حديثها معي - أن جيرانها يسخرون منها ويطلقون عليها اسم "الشيخة" وأنها تتأذى من ذلك لكنها مصرة على أنها لن تتوقف عن توجيههم لما يحبه الله،
أما أنا فكان كل دوري في هذا الحوار أن أوضح لها جزاء ما تفعله وجزاء الأذى الذي تلاقيه من الدعوة إلى الله ومكانة الذي يقوم بهذا العمل عند الله، ولم أتحدث لها كثيرا بالقدر الذي سمعته منها وتعلمت
هذين النموذجين كنت أتعامل معهما في نفس الوقت ولذا كان التناقض واضحا جليا، وهو الذي دفعني لأن أكتب لكم
كلنا لدينا مصائب وكلنا ما كان ليحتمل مصائب غيره لكن المميز بيننا
هو الذي يرضى عن كل ما فعله الله به
فمن أي الفئتين أنت ؟؟!!
ومع أي المرأتين تريد أن ينتهي بك الحال في الآخرة ؟؟!!
داليا رشوان