كان قد احتدم الخلاف بيني وبين هذا النحيف الدامي ( القلم ) ، حول قدرتي وأهليتي لبسط نفوذي عليه ، أم أنه المسيطر دائما . من يجر من ؟ أناملي تدفعه عصرا ونزفا ؟ أم أنه يجرها قسرا على بساطه الأبيض؟
فقررت التمرد ، بربطه في محبرته ، وطي أصابعي في جيب الصمت . إلا أن الشوق.. يسحبني خلسة إلى ظلال الواحة بين فينة وأخرى ، لأرطب عيني بقطرات من نداها البارد ، وكم رأيته حينها يتقلب في محبرته غاصا بكلماته ، إلا أني كنت أقاومه ألما ودموعا ، استثارتني شجيرات يفوح شذاها عشقا ووطنية وألما عبر أثير الواحة ، كان قد زرعها أخي جوتيار ، وألأخت الأديبة حرة ، وندى الصبار ، وغيرهم ممن يزهو بهم عبير الواحة ، فوجدته يصارعني حقا من أجل إثبات نفوذه ، إلا أني ألما انتصرت عليه لبرهة .
اليوم .. وقبيل صحوة النور المظلم ، وأنا أغسل غبار أخبار منتصف الليل من قناة الجزيرة ، لأنزع وجهي الليلي المبطن بشيء من حقيقة ، وأضع مكانه وجها آخر يشبهه ، وجها لا يرى إلا ما يريد ، عصرته مرارا حتى أضمن جفافه التام ، لم تبق فيه قطرة من ماء . نعم ، الآن أستطيع الخروج إلى عالم الحياة ، حيث توؤد الطفولة ، حيث أشلاء لبنان مبعثرة ، يحملها أطفال يتم ليدفنوها على ضفاف الليطاني ، حيث منارة بيروت القديمة أصبحت ملجأ للغربان والبوم .لقد أصبح جافا ، الآن أستطيع الخروج .
لا زال طنين الطائرات ودوي المدافع ولوحات الدمار التي رسمت بدماء أطفال غزة وجنوب لبنان طرية على غشاء ذاكرتي ، ماذا أفعل لا بد أن قطرة من ماء اخترقت جفاف قناع وجهي ، لا بأس سوف أقاوم قليلا ، أحمل دفاتري البالية ، أسمع أنين سطورها بين الأوراق ، تكاد الأرقام تتبعثر على ناصية الطريق هناك حيث حفظ المكان ملامح أثر قدمي ، لا زال الضوء أحمرا ، يوحي بتوقف الحياة ، أفكار تغلي في زاوية من رأسي ، أحس بلساني معقودا بغصة الحياة ، صورة ابنتي آلاء تملأ المكان وهي تسألني ، بابا .. ماذا يحدث في بيروت ؟ لماذا يقتلون الأطفال ؟ ..
صرخة صاحب التاكسي الواقف خلفي تنزعني من أفكاري " الأشارة خضراء يا نايم " ، السيارة تدفع نفسها بنفسها تسير حيث كل يوم ، لا زال أنين السطور بين الأوراق المتراصة ، مسموعا لدي ، أسمعها تتنفس الصعداء وأنا ألقي بها برفق في درج المكتب ، وصاحبنا مغروس في جيبي ، أحسه يرفس اختناقا بكمامته .
تواصل غريب أحسسته بين بقعة الثرى التي اخترقت جفاف وجهي وبين ذلك الرافس في الجيب ، أنه يعيش في الندى ، يربو في رطوبة المشاعر . آه ، بدأ الألم يعم وجهي بدأت قشور الجفاف تتكسر أمام بقعة الندى الصغيرة ، الجريدة أمامي لا أقوى على قراءتها ، لأنها ستزيد الأمر سوءا ، لقد قررت أن أصبح جافا ، قررت أن لا أعيش إلا في الليل ، حيث العتمة تحجز كل حقيقة ، حيث لا ترى الأشياء بوضوح تام ، فقط تتسرب إليك آهات الثكالى ، وأنين أطفال بين أنقاض بيروت ، ونابلس . لكنك لا تراهم ، لا ترى مشاهد الدماء ، ومناظر انتزاعهم من بين الأننقاض .
ازداد الأمر سوا ، أخذ الوجه رطوبته ، لقد عاد كما لم أرده أن يكون ، كم أمقتك أيها القلم ، إنك تعرف كيف تنتزع الألم مني ، أرجوك ، أتوسل إليك لقد تعبت .. تعبت ، دعني وشأني ، إلا يكفيني ما أنا فيه في الليل ، الأوراق تتسلل من أدراج المكتب ، صاحبنا يلقى بكمامته في وجهي ، أحس بيدي تدمي وهو يشدها إليه ، يسحب مداده الأحمر من شرايين أناملي ، لقد عاد .. لقد عاد .. بسوطه الجارح .. فليرحمني ربي .