قراءة في " ترنيمة البوح "
للاديب مجدي جعفر
بقلم د. محمد حسن السمان
في كل مرّة اعود , لاقرأ هذه الترانيم , تفتح امامي مصاريع , ومعالم جديدة , واقول في قرارة نفسي , لابد من قراءة جديدة , واكاد لااستقر على راي , فقد صيغت , بخيوط ساحرة ماهرة , وفي كل خيط , كان هناك مشوار من اعماق انسانية , يلامس الاحساس والرغبة والفكروالايمان والتقلب النفسي .
جاءت الترنيمة الاولى , قوية مقتضبة , كأنها تعلن البدء بالمراسم , وتفتح اولى الابواب :
""رغم الضباب ، ورغم الغمام ، رغم غلالة الحزن الكثيف وانكسارات الرؤى
وحدك .
الشامخة كالنخلة ، السامقة كالنخلة ، لكِ طلعٌ نضيد .
" وأطلق حمائم رُوحي ، تحلق حولك ، تعانق خاصِرتك ، تقبل جيدك ، وهذا الفم الجميل00 " "
ثم جاءت الترنيمة الثانية , لترسم بعض معالم الصورة , وتجسد الحالة , باداء ادبي متقن :
"" اراكِ
في " شرنقات " الزمن مسافرة / تبحثين عن أرضٍ جديدة 0
" فحلي بأرضي ، فراشة بيضاء تحوم ، وتسَّاقطي على قلبي مطراً خصباً طاهراً ، فإني انتظرتك كثيراً – وفوق جسدي الناحل أحكمت الرداء – وسرتُ طريقي ، وحيداً ، منفرداً ، إلا من صُحبة قلبي الأجوف ، .... " " ويرتقي النص , ليأتي على ملامسات صوفية حاذقة :
"" فدعيني: أمسك بتلابيب اللحظة العبقرية ، وأفترش الخُضرة ، في عينيك " مصلى " ، وأتوضأ من شُهد فيكِ ، وأسجد لله سجدتين ""
ثم تنطلق الرغبة بقوة , في الترنيمة الثالثة , لتأتي بكل دقيقة , وكأنها سيل او ريح صارخة , بشكل ابداعي معبّر , ومطلقا العنان للافكار الحائمة , في لحظات العشق والرغبة :
""حلمتُ بكِ امرأة ، صدرها لا يحده حد !!
باتساع المدى ، يسع أحلامي ، أحزاني ، نزفي ، تمردي ، عصياني 0
أتوسده كطفلٍ برئٍ خالي الهموم ، كمراهقٍ مشاكسٍ عنيد ، كشابٍ عفيٍّ عتيد ، كشيخٍ وقور .
أطلقي يمامتيّ صدرك ، يلجان ، الحَبَّ / الحُبَّ ، في منقاري – كفرخ صغير لم يكسه الزغب .
وإذا ما جن الليل ، والمطر ، والزمهرير ، فضميني ، ودثريني ، وأوقدي النار، والحطب .
فإني أحلم بك ،امرأة " جنية" ، تشعل الليل في جسدي ، امرأة " وحشية " ، " أسطورية " : سهام جسدك ناراً ، تفتتني ، تجعلني أتشظي ، أتناثر كراتا من لهب ، فلملميني : رغبة ، نزوة ، اشتهاء ..." "
ثم يدخل الحالة الصوفية من جديد , برؤيا ايمانية واضحة :
""دعيني أحفر ملامحي على فضاء جسدك البض ، السامق ، الشاهق , وأترك بصمات شفتيّ على خديك ، علي شفتيك ، وأذوِّب أبعاضي فى أبعاضك ، ذراتي فى ذراتك ، وأصير أنا أنت ، وأنت أنا واحداً ، " لا إله إلا أنت سبحانك ...الواحد الأحد ، الفرد الصمد .." ، ونصير غنوة ، تتردد فى وشوشات النسيم ، لحناً ..في ابتسامة الفجر النديم ." "
وفي الترنيمة الرابعة , ارى الكاتب وقد خرج من عقال الرغبة , ليرتقي الى عالم ادبي روحي حالم :
""دعيني أحلق فى سماء عينيك " الخضراوين" الجميلتين ؟
وإذا أخذتني سنة من نوم أو نعاس ، فأطبقي الجفنين ، والأهداب ، وأحكمي الغلق ، ولا تجعلي أحداًً يزعج نومي ، فإني أبحر في شرايينك ، أتدفق دماً نقياً ، أتشكل كريات دم ، ، أصير نبضات لقلبك ." "
ويتوّج الكاتب صحوته الروحية , باستعارات دينية , وملامسات صوفية :
أصيخي السمع لكل نبضة / تسبيحة ، فالنبضات لضمتها في يدي مسبحة أهديتها : للناسك والعابد والزاهد والعارف ، لضمتها عقداً من لألئ أطوق به جيدك .
أنا أنفاس دافئة تتردد في صدرك
ازفريني " مسيحاً " : حراً ، طليقاً ، ضاحكاً ، مستبشراً ، أمسح خطايا الخُطاة ، وذنوب العُصاة ، ألملم جراح البشر، وبقايا الإنسان 0
ازفريني " مسيحاً " : أنشر المحبة ،.... " "
واخيرا , يختم الكاتب , ترانيمه , وكأنه عائد من حلم ساحر جميل , يهدهد بقايا جميل الحلم , بطريقة شاعرية ألقة :
"" يا ..................
يا من شهقتني بشراً ، وزفرتني نبيا*!!
من " خُضرة " عينيكِ : اكتسي الكون ، وتزيا .
ومن ماء عينيك : كان النهر " أقسمت ألا ألوث ماء النهر "
وكانت الأشجار ، والغيطان ، والأسماك ، والحيتان .
ومن لون وجهك : كانت الشموس، والأقمار ، والنجوم .
ومن رائحة عرقك : كان عبير الورد ، وشذا الفل والريحان والياسمين ." "
ثم تجيء القفلة , انهاء للترنيمة الخامسة , لتقرر رؤيته الراقية , وهو يغادر مراسم الترانيم :
"" انتظرتك:
امرأة " كونية " ، امرأة " أسطورية " ، فافتحي لي باب كهفك ، قلبك ، خزائن أسرارك ، وألهمي قلمي الرؤي الجديدة : شعراً ، نثراً ، نغما ، رقصاً ، حكايا . " "
حقاً , ان ترنيمة البوح , عمل ادبي , متميّز بجدارة , وقد وظّف له الكاتب الاديب مجدي جعفر , عالما من الثروة الثقافية , والمهارات الادبية , والحس الابداعي , بطريقة مشوّقة , تستحوذ على اهتمام القارىء , وتحلّق به , في مساحات من الابعاد الانسانية , محفّزة لديه تجوالا غير محدود , من التخيلات والافكار والاحاسيس .
الكويت 10/09/2006