أحدث المشاركات
صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12
النتائج 11 إلى 19 من 19

الموضوع: بعثة التجديد المقبلة في ظل الاجتياح العولمي ( موضوع في غاية الأهمية )

  1. #11
    قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Jul 2004
    الدولة : غزة فلسطين
    العمر : 72
    المشاركات : 2,005
    المواضيع : 323
    الردود : 2005
    المعدل اليومي : 0.28

    افتراضي

    ( 11 )
    ثالثاً: يسر الدعوة وبساطة المفهومات:
    إن من أهم معالم البعثة النبوية؛ أنها تميزت باليسر، والسهولة في الخطاب، وفي التكليف، وهذا أمر مهم جداً لضبط الاتجاه الدعوي المعاصر؛ ذلك أن بعض الحركات الإسلامية إنما انغلقت على نفسها بسبب عسر مفهوماتها، وتنطع فهمها، وما جرت عليه من حمل الناس على العنت، وقد تواتر في الدين مفهوم (رفع الحرج)، وما تعلق به من قواعد كلية، فالنصوص القرآنية والحديثية مجمعة على هذا المعنى؛ بما يجعله كلية قطعية من كليات الدين؛ دعوةً، وتكليفاً. فالخطاب القرآني صرح بذلك تصريحاً، ونص الحـق ـ جـل وعلا ـ على اليسر بإطلاق، فقال ـ سبحانه ـ: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر: 32]، وقال ـ تعالى ـ: {فَإنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان: 58]، وقال ـ جل وعلا ـ في الآية الجامعة المانعة، على سبيل الشمول والاستغراق: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، إلخ.
    وأوصى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مبعوثيه إلى اليمن جابر بن عبد الله ومعاذ بن جبل ـ رضي الله عنهما ـ فقال لهما: «يَسّرا ولا تُعَسّرا، وبشّرا ولا تنفّرا»(14)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «إنّ هَذَا الدّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادّ الدّينَ أَحَدٌ إلاّ غَلَبَهُ، فَسَدّدُوا، وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَيَسّرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرّوْحَةِ وَشَيْء مِنَ الدّلْجَة»(15). ومثله قوله -صلى الله عليه وسلم-: «يَا أَيّهَا النّاسُ، عَلَيْكُمْ مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ؛ فَإِنّ الله لاَ يَمَلّ حَتّى تَمَلّوا، وَإِنّ أَحَبّ الأَعْمَالِ إِلَىَ الله مَا دُوِمَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلّ»(16)، وروى الصحابي الجليل أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: «جاء ثلاثة رَهْط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما أُخبروا كأنهم تَقَالُّوهَا، وقالوا: أين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر! قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً! وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر! وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً! فجاء رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- إليهم، فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله! إني لأخشاكم لله وأتقاكم له؛ لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني»(17)، ومثل هذا في السُّنة كثير جداً؛ مما يفيد استقراؤه كليةً قطعية من كليات الدين، فوجب إذن أن يؤخذ على هذا الوزان؛ تكليفاً وتعليماً، ودعوةً وتزكيةً، وما خالفه فإنه يُرَدُّ إليه.
    ولذلك قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية ـ رحمه الله ـ من بعد ما سرد عدداً من أدلة اليسر والتيسير في الشريعة: «وهذا وأمثاله في الشريعة أكثر من أن يُحصر! فمن قال إن الله أمر العباد بما يعجزون عنه ـ إذا أرادوه إرادة جازمة ـ فقد كذب على الله ورسوله، وهو من المفترين»(18).
    ولقد التقط أبو إسحاق الشاطبي هذا المعنى العظيم، فجعله أصلاً من أصول المقاصد، حيث استعمل مصطلح (الأمية) في وصف الشريعة، لكن ليس بمعنى الجهل، وهذا أمر غلط فيه كثير من طلبة العلم، ممن قرأه في كتاب الموافقات؛ فمن السذاجة أن يفهم عن أبي إسحاق ـ رحمه الله ـ أنه يصف الشريعة بالجهل، أو أنها غير صالحة إلا للعوام! كيف وهو شيخ المقاصد المجدد لعلم أصول الفقه؛ ولكن بمعنى السهولة والبساطة واليسر في الفهم وفي التكليف؛ على ما أصلنا آنفاً.
    وقد نقل المصطلح من دلالته اللغوية، الدالة على الجهل بالحساب والكتاب، ليستعمله في وصف الشريعة نفسها، لكن بدلالة أخرى اصطلاحية، على مفهوم منهجي، متعلق أساساً بمعنى اليسر المشترك في التكليف، وفي تطبيق الشـريعة، قال ـ رحمه الله ـ في المسألة الثالثة من كتاب المقاصد في الموافقات: «هذه الشريعة المباركة أمية»(19). وهو ما فسره في موطن آخر بقوله: «ربما أُخِذ تفسير القرآن على التوسط والاعتدال، وعليه أكثر السلف المتقدمين، بل ذلك شأنهم، وبه كانوا أفقه الناس فيه، وأعلم العلماء بمقاصده وبواطنه. وربما أُخِذ على أحد الطرفين الخارجين عن الاعتدال؛ إما على الإفراط، وإما على التفريط، وكلا طرفَيْ قَصْدِ الأمورِ ذَميمٌ! فالذين أخذوه على التفريط قصروا في فهم اللسان الذي به جاء، وهو العربية، فما قاموا في تفهم معانيه ولا قعدوا! كما تقدم عن الباطنية وغيرها. ولا إشكال في اطراح التعويل على هؤلاء، والذين أخذوه على الإفراط أيضاً قصروا في فهم معانيه، من جهة أخرى. وقد تقدم في كتاب المقاصد بيان أن الشريعة أمية، وأن ما لم يكن معهوداً عند العرب فلا يعتبر فيها»(20).
    وهذا معنى عظيم؛ إذْ عدم اعتباره أدى بكثير من الناس إلى الزيغ عن جادة المنهج النبوي، في الدعوة والتكليف، وإنما الأصول قائمة على حمل الناس على الوسط والتوسط، والاعتدال، لا على الغلو؛ سواء في ذلك: الفهم أو التكليف.
    فالداعية قد يؤدي به التمسك بآحاد الأدلة ـ دون اعتبار كلياتها الأصولية ـ إلى الانحراف في المنهج. كما أن مراعاة بعض الجزئيات في الفهم والإفهام لا ينقض ما تقرر قطعاً في الكليات الاستقرائية، فقد تقرر مثلاً أن الدعوة يجب أن تقوم على منهج التيسير والتبشير؛ قصد التمكين من عموم التطبيق والتنزيل، فإذا وجد ما يخالفه حمل عليه وأرجع إليه. وعدم مراعاة ذلك يوقع في إشكالات منهجية، ويؤدي إلى مناقضة الفروع للأصول وهو محال.
    فليس كل شيء يتناوله البحث، ويصح في التحليل والاستدلال؛ يصلح ليكون مادة للدعوة والتربية، ومقصداً شرعياً يخاطب به عموم الناس. إن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم على منهجهم؛ إنما كانوا على (عقيدة سلفيةٍ موضوعاً؛ تربويةٍ منهجاً)، لا على (عقيدة سلفيةٍ) موضوعاً، (جدليةٍ) منهجاً، وفرق بينهما كبير!
    إن (العقيدة السلفية موضوعاً؛ التربوية منهجاً)؛ هي التي وردت في كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهي التي خرّجت جيل الصحابة والتابعين، وسائر العلماء الربانيين، وهي التي أطاق الجمهور من المسلمين اعتقادها والعمل بها، وكانوا بها صالحين.
    فلم تكن البعثة المحمدية إلا بسيطة وسهلة، وميسرة تيسيراً في الفهم والعمل، ولا نجاح لعمل دعوي يخرج عن هذا المنهج، ولذلك كان هذا مَعْلَماً من معالم (بعثة التجديد)، فحاجة العالَم اليوم إلى الدين شديدة، وعودة الناس إلى الله رغبة أكيدة، وهي كامنة في الوجدان الإنساني، تنتظر أهل البعثة ليكتشفوها، وينزلون عليها كلمات الله طريةً ندية. وأما التعقيد فلا يجعل ماءها إلا غوراً، فلا يستطيع المعنتون له طلباً.
    البعثة اليوم ـ بعد ما حفره رجال الصحوة والدعوة، من أهل الحركات الإسلامية وغيرهم ـ هي على عمق صخرة واحدة، قريبة ورقيقة، تحتاج إلى من يكشف عنها شقاً واحداً؛ لتتدفق جداول وأنهاراً.
    يتبع
    اللهم يا من تعلم السِّرَّ منّا لا تكشف السترَ عنّا وكن معنا حيث كنّا ورضِّنا وارضَ عنّا وعافنا واعفُ عنّا واغفر لنا وارحمنا

  2. #12
    قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Jul 2004
    الدولة : غزة فلسطين
    العمر : 72
    المشاركات : 2,005
    المواضيع : 323
    الردود : 2005
    المعدل اليومي : 0.28

    افتراضي

    ( 12 )

    رابعاً: التنظيم الفطري:

    وأحسب أن هذا المَعْلَمَ هو من ألطف حِكَم البعثة المحمدية، فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منظماً في عمله كله، لا ارتجال فيه ولا فوضى، ولا اضطراب ولا عبث، بل كل خطوة من خطواته -صلى الله عليه وسلم- كانت بحسابها؛ إذ «كان خلقه -صلى الله عليه وسلم- القرآن»(21). والقرآن نظام بديع، بل هو أبدع نظام؛ مبنىً ومعنىً، عقيدةً وشريعةً، لغةً وجمالاً، وهو الذي فيه قول الله ـ تعالى ـ: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْـحَمِيرِ} [لقمان: 19]، كما أن سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- نظام كلها، وحكمة جميعها. ومن هنا كان إنكار تنظيم الدعوة إلى الله، والعمل الإسلامي التجديدي؛ غباءً وجهلاً بالدين، وانحرافاً عن سنن الله في الكون وفي المجتمع، وهي المبثوثة في الكتاب والسنة، أو ربما كان موقفاً سياسياً مريباً؛ للتشويش على الحركة الإسلامية، وإرباك عملها الدعوي الجهادي، ليس إلا!

    لكنَّ التنظيم ذا الطبيعة الميكانيكية، كما اعتمدته أغلب الحركات الإسلامية المعاصرة؛ صار إلى ما ذكرناه من الحزبية الضيقة! وهو ابتداع شنيع، وخطأ فظيع! إذ آل أمره إلى محاصرة الدعوة الإسلامية حصاراً ذاتياً، فصار كثير من (الإسلاميين) بذلك يعيشون في منفى اختياري، بين شعوبهم ومجتمعاتهم! بسبب الغلو في بناء التنظيمات، والمبالغة في تسوير الجماعات، على طريقة المنظمات الغربية. كيف الحل إذن؟ إنه الوسط، الوسط دائماً حل لكل انحراف سبَّبه الغلو، ولذلك جعلنا تسمية هذا المعلم بـ (التنظيم الفطري)؛ تحرزاً عن (التنظيم الحزبي) الذي أهلك الدعوة وحاصر الدعاة، وأجبرهم على الإقامة داخل أفكارهم وهياكلهم!

    إن (التنظيم الفطري) هو النسق الجميل الذي ينظم العبادات في الإسلام، وهو أكثر ما يتجلى في صلاة الجمعة والجماعة، وهو الذي طبع السيرة النبوية في حركيتها ومراحلها، فالقيادة الشرعية يفرزها علمُها وورعُها، وتصنعها تجربتُها، فتنتصب للناس هنا وهناك بلا حرص، وتـؤم المجتمع بصـورة طبيعيــة، بلا تحيل، ولا تشنج، ولا قتال! لا تفرض نفسها فرضاً، ولا تسعى إلى ذلك قصداً، وإنما الناس هم الذين يطلبونها؛ لما فاض عنها من العلم والهدى، ولما انبعث عنها من أخلاق النبوة، وكذا لما تحقق فيها من برهان (الإرث النبوي)، (فالعلماء ورثة الأنبياء) كما سبق بيانه بأدلته ومقاصده.

    هل وصل أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد إلى إمامة الناس بانتخابات حرة أو مقيدة؟ وقبْلَهم قياداتُ التابعين، ثم قبلهم أصحابُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤه الراشدون؛ ألم يكن الوجدان الإسلامي مجمعاً عليهم قبل توليهم، وبعد توليهم؟ ألم يكونوا أئمة في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ أليسوا هم أهل شوراه -صلى الله عليه وسلم-، وأهل الحل والعقد عنده؟

    إن أئمة بعثة التجديد لا تصنعها الانتخابات الراجعة إلى أصوات العوام! ولا الديمقراطيات التي قد تُغَلِّب الغثَّ على السمين، وتنصر الباطل على الحق؛ بمجرد كثرة الغث، وغلبة أهل الباطل عدداً، من الفاتنين والمفتونين.

    ولقد رأينا في بعض الظروف من تجاربنا الدعوية، كيف أن ذلك المنهج الهجين قدَّم ـ في الولايات الدعوية للصف الإسلامي ـ السفهاءَ على الحلماء، والأشقياءَ على الأتقياء، وذلك لعمري هو غاية الفساد! وإنما الحَكَمُ في إمامة بعثة التجديد، أو (حركة الإسلام) هو قاعدةُ المحدثين المشهورة: (إن هذا العلم دين؛ فانظروا عمن تأخذون دينكم»(22).

    ركنان عظيمان في الشخصية الإسلامية القيادية، لا يجوز تخلفهما، كلاهما أو أحدهما؛ فيمن انتصب لإمامة التجديد: (القوة والأمانة)؛ فهما أساس الولايات الشرعية في الدين، قال ـ تعالى ـ: {إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ } [القصص: 26]. وقال ـ سبحانه ـ على لسان يوسف ـ عليه السلام ـ: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]. وصار ذلك مرجع المحدِّثين في تقويم الشخصية الإسلامية، في خاصيتي (الضبط والعدالة). وكل ذلك إنما مآله إلى ذينك المفهومين: (القوة) و (الأمانة) في الإنسان المسلم.

    ذلك إجماع السابقين، في التأمير والتقويم، ولا خير في بدع اللاحقين!

    كيف التنظيم الفطري إذن؟ إنه شبكة بسيطة من العلاقات العلمية والتربوية، يشرف عليها مجموع مُتَنَامٍ من العلماء الربانيين، ينتصبون للاشتغال بالقرآن العظيم ومفاهيمه؛ تداولاً تربوياً واجتماعياً، فمرجعه إذن إلى عنصرين:

    الأول: مجموع من (الأئمة المنتصبين) للبعثة ـ باصطلاح الشاطبي الآنف الذكر ـ، كل منهم محور للعاملين والمتعلمين، يقومون فيهم مقام النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما حدده القرآن، بلا ابتداع ولا تضليل، ولا ترسيخ لوساطات الأشياخ والأقطاب والأبدال، وإنما هم الربانيون وُرَّاثُ النبوة، كما سبق وصفهم بأدلته، تتحدد علاقاتهم جميعاً في ذلك ـ علماء ومتعلمين ـ بقول الله ـ تعالى ـ: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّـمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران: 164]. فـ (التعليم والتزكية) هما مناط (القوة والأمانة) اللذين يقوم عليهما بناء الأمة الإسلامية في بعثة التجديد، تماماً كما قام في البعثة الأولى.

    ولمفهومي (التعليم والتزكية) تفصيل بيناه في غير هذا المكان، فلا حاجة للتكرار(23). فالعلماء الربانيون، أو الوُرَّاثُ المنتصبون، هم الركن الأول لكل بعثة حقيقية، بوجودهم وبانتصابهم ينتصب الدين ويقوم، وبغيابهم تنتصب المحن والفتن! وتدبر قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً؛ اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسُئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا!»(24) وترجم الإمام البخاري في كتاب العلم من صحيحه: (باب: كيف يقبض العلم؟ وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاكتبه، فإني خفت دُروسَ العلم(25) وذهابَ العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولتُفْشُوا العلمَ، ولتجلسوا حتى يعلـم مـن لا يعلم، فإن العلـم لا يهــلك حتى يكـون ســراً).

    وإن من أخطر ما تواجهه الأمة اليوم فعلاً من المعضلات، في هذه المرحلة الحرجة من الاكتساح العولمي الصهيوني؛ هو هذا الموت المتواتر، والمستحر بالعلماء، مع ضعف نتاج الخلف! فهذا مما يجب الانتباه إلى خطورته الشديدة، وإلى الضرورة الاستعجالية التي تقضي بتفرغ شباب الصحوة الإسلامية لطلب العلم الشرعي، بشروطه المذكورة قبل؛ قصد إنتاج علماء البعثة المنتصبين لها، وإنما الموفق من وفقه الله.

    الثاني: الاشتغال التداولي بالقرآن العظيم؛ تربوياً واجتماعياً؛ بناء على مناهج القرآن الدعوية، كما سبق بيانه في (المَعْلَم الأول) من معالم البعثة؛ وذلك لتجديد بنية الدين في المجتمع.

    فهما عنصران إذن كما ذكرنا: الأئمة العلماء بشروط البعثة ومعالمها، ثم المنهجية القرآنية المنظِّمة لفقه الدعوة، هذا الفقه الذي ينتج بذاته تلقائياً، وذلك بمجرد تنزيل نصوص القرآن على واقع النفس وواقع المجتمع. وهو سِرٌّ ـ لمن تدبره ـ من أسرار الإعجاز القرآني في الدعوة والتربية، وذلك يغني عن كثير من المحركات الإدارية التي لا تفيد إلا في إثقال حركة الإنتاج الدعوي، وتقييد المبادرات، كما هو علم الميكانيك والنظام الحزبي الذي يمنع كل حركة لم تنتج عن حركته، وهو ما تعتمده كثير من الحركات الإسلامية اليوم مع الأسف، فنظامها الميكانيكي الصرف يفـــرض عليها قتــل التجـــديد والمبادرات، لا إحياءه وإنتاجه، ومثل هذا لا ينتج بعثة، ولا تجديداً، وإنما قد يحفظ للأمة بعض المصالح إلى حين. كما قد يجر عليها من المفاسد ما يفوق تلك المصالح في بعض الظروف! أما أفكار البعثة التي تنظم العمل الدعوي بشكل تلقائي؛ فإنما هي منهج الاشتغال بالقرآن تداولاً كما بيناه.

    إن (التداولية القرآنية) هي التي صنعت المجتمع الإسلامي الأول على يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهي التي حضَّرت جيل الهجرة، وخرجت رجاله (الأقوياء الأمناء) من مجالس القرآن، من دار الأرقم بن أبي الأرقم، ومن بين شعاب مكة، وهي التي صنعت الدولة الإسلامية الأولى؛ انطلاقاً من مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة المنورة.

    إن بث بصائر الآيات في المجتمع، عبر شبكة العلماء الربانيين، المنظمين؛ لكن بمنهجية القرآن الدعوية؛ يكفيك ويغنيك عن تأمير الأمراء بصورة ميكانيكية، وانتخاب النقباء، وإنشاء الخلايا المعقدة، الحية والنائمة! فالقرآن وحده نظام البعثة وتنظيمها؛ لكن لو كان له مهندسون مبصرون! فالتنظيم الحزبي له مصالحه وله مفاسده، والتنظيم الفطري يجلب تلك المصالح، ويدرأ تلك المفاسد، وإنما الموفق من وفقه الله.

    ولا يصلح للدعوة غير ذلك؛ إذ كان المقصود الاستجابة لداعي بعثة التجديد، فتدبر سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بث الإسلام بين الناس، وفي تربيتهم على مبادئه، إنما كان يُؤَمِّر (القراءَ) ويرسلهم إلى الأمصار، ويختار من أصحابه أعلمهم وأحكمهم؛ للمهمات القيادية، والأمور الصعبة. وجاهد بذلك المنهج السهل والبسيط، يكتشف القيادات، وينوط بها رسالة القرآن؛ لتدور في (تداولية) شاملة، بصورة حلزونية تستوعب المجتمع شيئاً فشيئاً؛ حتى نزل قوله ـ تعالى ـ: {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1 - 3]، فما كان لتنظيم حزبي معقد أن يعيد الناس إلى دين الله أفواجاً من بعد ما خرجوا عن كثير من حقائقه أفواجاً!

    إن المراهنة على التنظيمات الإسلامية ذات التركيبة الحزبيـة الميكانيكية لإقامة الدين بصورة كلية؛ لهي مغامرة خاسرة! نعم يمكنها أن تدافع عن الإسلام بصورة جزئية، ويمكنها إذا وصلت إلى السلطة أن تستصدر بعض التشريعات؛ لحفظ الدين وحمايته، وهو شيء مهم وحسن؛ ولكن لا يمكنها أن تحمل الناس عليه حملاً، ولا أن تجعله حركة وجدانية في المجتمـع، ولا هي قادرة أن تستوعبهم دعوياً ولا تربوياً. فتنظيمها الحزبي هو بطبيعته نموذج تجزيئي، فلم يضعه الفكر البشري ليستوعب الجميع، بل ليستوعب فئة محدودة جداً من الناس، ويبقى المجتمع بعيداً عن هموم الحركات، وصراعات الأحزاب، ذات الأبواب والألقاب! ويتوب الله على من تاب!

    فدع بصائر القرآن العظيم تصنع خلاياها الطبيعية في المجتمع، كل المجتمع، وتبسط هندستها العمرانية بين شرائحه، كل شرائحه.

    وإنما خلايا التنظيم الفطري هي (مجالس القرآن)، وإنما رأيه العام هو (التداول الاجتماعي) الطبيعي للآيات والسور، وإنما مقراته هي المساجد! وإنما قياداته هم العلماء الربانيون المنتصبون للبعثة والتجديد.


    --------------------------------------------------------------------------------

    (*) مراسل مجلة البيان، رئيس قسم الدراسات الإسلامية، جامعة المولى إسماعيل، مكناس، المغرب.

    (1) رواه أحمد، والترمذي، وابن حبان، وصححه الألباني: حديث رقم: 702 في صحيح الجامع.

    (2) متفق عليه.

    (3) رواه مسلم.

    (4) انظر: بلاغ الرسالة القرآنية، للكاتب، ص 101 ـ 105.

    (5، 6) متفق عليه.

    (7) الحلية، لأبي نعيم: 1/ 256.

    (8) السابق: 1/ 257.

    (9) جزء من حديث رواه أحمد، والأربعة، وابن حبان. وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، رقم: 6297.

    (10) الموافقات: 3/ 317.

    (11) الموافقات: 4/ 250.

    (12) انظر: صحيح البخاري، كتاب العلم، (باب العلم قبل القول والعمل).

    (13) الموافقات: 4/ 190 ـ 191.

    (14) متفق عليه.

    (15) رواه البخاري.

    (16، 17) متفق عليه.

    (18) مجموع الفتاوى: 8/ 440.

    (19) الموافقات: 2/ 69.

    (20) الموافقات: 3/ 409.

    (21) رواه مسلم.

    (22) هذه القاعدة في علم الجرح والتعديل، رويت عن غير واحد منهم. فقد أخرجها مسلم بسنده عن محمد بن سيرين، بمقدمة صحيحه: (باب بيان أن الإسناد من الدين). كما أخرجها ابن عبد البر عن مالك رحمهما الله. التمهيد: 1/ 47.

    (23) انظر: كتابنا: بلاغ الرسالة القرآنية، 101 ـ 105.

    (24) متفق عليه.

    (25) دروس العلم: يعني انقراضه، دَرَسَ الشيءُ يَدْرُسُ: انقرض.

    يتبع

  3. #13
    قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Jul 2004
    الدولة : غزة فلسطين
    العمر : 72
    المشاركات : 2,005
    المواضيع : 323
    الردود : 2005
    المعدل اليومي : 0.28

    افتراضي

    ( 13 )

    بعثة التجديد المقبلة في ظل الاجتياح العولمي:

    تجديد العمران الديني للإنسان هو القضية الأولى لبعثة التجديد:

    ليس المقصود بالعمران في اصطلاح هذه الأطروحة هو تخطيط البناء المادي وهندسته، كلا! وإنما المقصود به هندسة المذهبية الحضارية الكامنة في الإنسان، والتي كان بمقتضاها كما كان.

    العمران إذن: هو الإنسان؛ بما هو عقيدة وثقافة، وبما هو حضارة وتاريخ، وبما هو فكر ووجدان، وبما هو نفس ونسيج اجتماعي.

    وكما يكون فكر الإنسان وتصوره للحياة تكون عمارته، فالمادة في هذا تبع للفكر. وكما كانت بعثة محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- تقوم على نظام أولويات؛ فكذلك كل بعثة تجديدية يجب أن تقوم على ذلك النظام من الأولويات، بلا حرفية ولا ظاهرية، وإنما بمنهجية مقاصدية؛ حفاظاً على سر الإرث النبوي، وطلباً للصواب في المنهج، ورغبةً في استجابة النتائج بإذن الله.

    ودورنا اليوم هو تجديد ذلك العمران؛ بدءاً بتجديد الإنسان حتى تجديد السلطان.

    الإنسان هو أول عناصر العمران، وأول مرتكزاته، فهو الذي يعطي للبناء معناه العمراني، وقصده الكامن فيه هو الذي يجعله مسجداً أو خمارة! قال ـ عز وجل ـ: {إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْـمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18]، الإنسان إذن هو أساس العمران، ولذلك كان محل خطاب الرحمن بالقرآن.

    و (العمران القرآني) له أصول رئيسة في بناء النفس والمجتمع، إليها تستند هندسته، وعليها يقوم بناؤه، فهي التي كانت تمثل اللبنات الكبرى في بناء (البعثة المحمدية) وعمارتها، عليها كانت تدور أولوياتها التي نحسب أنها ثابتة، لا تتغير بمصر، ولا تتبدل بعصر، وهي: التوحيد، والعبادة، والمجتمع، والعلم. وغاية ذلك كله هو إقامة العمران الوجداني والمادي؛ لعبادة الله الواحد القهار. وبيان تلك اللبنات ـ على الإجمال ـ هو كما يلي:

    1 - التوحيد: وذلك بالدعوة إلى عقيدة السلف الصالح، كما قررها العلماء، وكما كانت في الصدر الأول من الإسلام، عند الصحابة والتابعين، لكن ليس بالمنهج الجدلي الكلامي الذي آلت إليه عند المتأخرين الجدليين، كلا! فذلك هو أيضاً ابتداع في المنهج. وإنما بالمنهج القرآني التربوي الذي يقوم على التعرف على الله والتعريف به؛ تربيةً وتزكيةً؛ لتحصيل الخوف والرجاء، والرغبة والرهبة؛ عبادةً لله الواحد القهار، وذلك من خلال استغلال المقاصد التعبدية، والأهداف التربوية للأسماء الحسنى والصفات العلى.

    وليس بالجمود على استظهار الحدود والتعريفات لمفهومات الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، على وزان فصول المناطقة ورسومهم! فذلك منهج عقيم لم يزد الأمة إلا خبالاً! وإنما باستثمار ذلك عقيدةً تربوية، تملأ القلب علماً وورعاً، وتنتج خلقاً قرآنياً في النفس وفي المجتمع(1)، والبناء القرآني للتوحيد هو الكفيل بتكوين الشخصية المسلمة الجامعة لصفتي (القوة والأمانة)، واللتين بهما يكون الإنسان المسلم ـ كما سبق بيانه ـ فاعلاً في التاريخ أو لا يكون؛ إذ إن (التوحيد) من حيث هو منهج القرآن في التعرف إلى الله والتعريف به، والذي هو جوهر المنهج السلفي الأصيل لا الجدلي الدخيل؛ يُخَرِّج من العامة: أجيالَ الربانيين، ومن القادة: الفقهاءَ المجاهدين. واجتماع العامة والخاصة على هذه (الثنائية التربوية) العظيمة؛ هو خير ما يقوم عليه النسيج الإسلامي السليم، ومن لم يراع ذلك كان عمله مخروماً من إحدى الجهتين، وغـراس (التوحيد) ـ بالمفهوم الذي وصفنا من التخلق بأخلاق القرآن ـ هو الكفيل بالجمع بينهما في التربية القرآنية.

    ولنا ها هنا كلمة ذهبية جمعت بينهما، رويت بأسانيد صحيحة عن عدد من الصحابة، منهم الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود، في أثر صحيح مليح، قال ـ رضي الله عنه ـ: «المتقون سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة!»(2).

    يتبع

  4. #14
    قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Jul 2004
    الدولة : غزة فلسطين
    العمر : 72
    المشاركات : 2,005
    المواضيع : 323
    الردود : 2005
    المعدل اليومي : 0.28

    افتراضي

    ( 14 )



    2 - العبادة: وأهم رموزها فريضة الصلاة: فالصلاة هي عماد الدين، وهي العهد الذي بين الرسول وبين المسلمين! لكن تجديد الصلاة إنما معناه بعث مضمونها في الأمة، وإحياء دورها العظيم الواصل بالله، الناهي عن الفحشاء والمنكر، والحافظ لحدود الله. وإحياء عمارتها ومركزيتها، من المساجد والجوامع، وإظهار ما تبثه من مقاصد في المجتمع. ومهم جداً أن تعلم أن أول عمل في الإسلام - بعد الإيمان - أُمِرَ به رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- هو الصلاة! وأول عمارة بناها النبي -صلى الله عليه وسلم- في الإسلام هي المسجد! فتدبر هذا ثم أبصر! واقرأ مقاصد الحديث العجيب؛ إذ قال -صلى الله عليه وسلم-: «أتاني جبريل في أول ما أوحي إلي، فعلمني الوضوء والصلاة، فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من الماء فنضح بها فرجه»(3).

    الصلاة مفتاح صلاح المجتمع، وأول أعمال التجديد فيه، وبقدر إقبال الناس عليها يكون تقويم مراحل البعثة، ومعرفة ما قطعته من أشواط. نعم؛ الصلاة من حيث هي عبادة؛ لا من حيث هي عادة يمارسها المسلم كما يمارس عادة شرب القهوة، أو قراءة جريدة الصباح والمساء! بل الصلاة بما هي رباط وجداني، وحركة فردية وجماعية تصل الناس بالله عقيدةً وشريعةً، وتصنع عمارتهم الإيمانية في طريق بعثة التجديد(4). ولك أن تتدبر حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات! إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة.. فذلكم الرباط! فذلكم الرباط! فذلكم الرباط!»(5). فمن ها هنا البدايات والمنطلقات؛ لعمران الوجدان وبناء الإنسان؛ لمن يدرك حقاً: كيف تقوم أركان بعثة التجديد في المجتمع.

    3 - المجتمع: ونواته الأولى إنما هي (الأسرة) بالمفهوم الإسلامي، فالأسرة مفتاح فريد لكل تجديد، الأسرة هي أساس المجتمع، والخلية الأولى من نسيجه الكبير. بتماسكها يتماسك المجتمع كله، وبتمزقها يتمزق كله، ثم ببقائها سليمةً معافاةً يَسْلَمُ التدين ويستمر، وبفسادها أو خرابها يفسد ويخرب، ألم تر أن الله ـ عز وجل ـ قد أعطى للأسرة أولوية الأولويات في التشريع القرآني؛ بينما أحال كثيراً من بيان تفاصيل التشريعات الأخرى ـ بما في ذلك أركان الإسلام وفرائضه الكبرى ـ على بيان السنَّة، أو استنباط الاجتهاد؟! وإنما اكتفي في القرآن بتشريع مبادئها وأصولها؛ بينما تولى ـ جل وعلا ـ بنفسه ـ سبحانه ـ تفصيل قضايا الأسرة في القرآن العظيم، وبَيَّنَ فيه أحكامها الكلية والجزئية؛ إلى درجة من التفصيل لم تكد تبقي للسنة من ذلك إلا قليلاً، ولم تكد تبقي للاجتهاد بعدهما شيئاً!

    إن هذا الصنيع الرباني في حد ذاته خطاب منهجي؛ لمن فكَّر في تجديد العمران.

    ولقد شهد التاريخ أن الدين في كثير من البلاد؛ لم تحفظه لا هيأة كبار العلماء، ولا وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ولا الجمعيات والجماعات الإسلامية القديمة والحديثة. وإنما حفظه الله بالأسرة! هذه الخلية الدعوية العجيبة التي بقيت على فطرتها الدينية، وأساسها الإسلامي، كما كان الشأن في الجمهوريات الإسلامية التي بقيت ردحاً من الزمن ليس باليسير، تحت الحصار الحديدي لدولة الإلحاد الكبرى: (الاتحاد السوفياتي) البائد! وكذا صنوه (الاتحاد اليوغوزلافي). لقد انبعثت الحياة الإسلامية في تلك الجمهوريات من جديد في غياب المؤسسات الدينية الممنوعة، وغياب كل أشكال التدين السنّي والبدعي سواء! ولم يبق لديهم من الإسلام إلا نظام حياتهم الخاص بالأسرة، وثقافتها الدينية المتوارثة، وكان ذلك وحده كفيلاً بحفظ جمرة الإسلام متوقدةً عدة أجيال، تحت رماد الكفر والإلحاد! لذلك كان التشريع القرآني يحصن أحكام الزواج والطلاق والمواريث، وما تفرع عنها جميعاً، بترسانة عظيمة من الحدود، جعلها الله من حماه ومن محارمه. وإنما تقوم بعثة التجديد بإعادة بناء كل المفهومات الإسلامية المتعلقة بالأسرة في النفس وفي المجتمع، وإغفال تجديد هذه المعاني في الأمة لن ينتج عنه بعثة شاملة كاملة.

    يتبع

  5. #15
    قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Jul 2004
    الدولة : غزة فلسطين
    العمر : 72
    المشاركات : 2,005
    المواضيع : 323
    الردود : 2005
    المعدل اليومي : 0.28

    افتراضي

    ( 15 )

    وللأسرة في الإسلام قيمتان أساسيتان، لا بد من الانتباه إليهما عند التجديد:

    الأولى: قيمة العِرض: وذلك على ما قرره علماء المقاصد في أصول الضروريات الخمس. وإنما العِرض قيمة خلقية، ترجع إلى أخلاق إسلامية كثيرة؛ من أهمها: الحياء والغيرة، فأما الحياء ففيه من النصوص ما يكفي؛ لجعله كلية من كليات الأخلاق في الإسلام، ومن أجمع ما ورد في هذا حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الحياء والإيمان قُرِنَا جميعاً، فإذا رُفع أحدهما رفع الآخر»(6). وأما الغيرة فيكفي فيها حـديثه -صلى الله عليه وسلم- أيضـاً: «إن الله ـ تعالى ـ يَغَارُ، وإن المؤمن يغار. وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه»(7). وشرع لحفظ ذلك عدداً من التشريعات؛ مما يتعلق بأركان الزواج وعقوده وآدابه، وكذا بعض الحدود الراجعة إلى صونه من كل لوث، كحد الزنى وحد القذف.

    الثانية: قيمة النسل: على ما قرره علمــاء المقاصــد أيضاً. و (النسل) مفهوم كلي في الدين، يقوم عليه عدد كبير من الأحكام الشرعية التي تنظم الحياة الزوجية؛ بما يضمن استمرار هويتها الإسلامية، وانتسابها الديني في ذريتها إلى يوم القيامة! قال ـ جل وعلا ـ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإيمَانٍ أَلْـحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21]، وقال ـ سبحانه ـ: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 34]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه. كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء؛ هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِـخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30]»(8).

    واستمرار (الأسرة) بمفهومها الإسلامي؛ هو الذي يضمن بقاء ثقافة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) على المستوى الشعبي، ذلك أن التحصينات الأسرية تربي ذوق الجيل؛ بما ينكر كل ما خالف (معروفه)، وينتصر لكل ما وافقه.

    4 - العلم: مشهورة جداً (ترجمة) الإمام البخاري، في كتاب العلم من صحيحه، وهي باب: (العلم قبل القول والعمل؛ لقول الله ـ تعالى ـ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ} [محمد: 19]. فبدأ بالعلم)(9). والعلم باعتباره قضية من قضايا (بعثة التجديد) ركن من أعظم أركان البعث والإحياء؛ غايةً ووسيلةً، فبالعلم كانت الأمة، وبه تكون مرة أخرى بحول الله. إلا أن لطبيعة العلم المجدد خواص، نفردها بالدرس لأهميتها فيما يلي:

    يتبع

  6. #16
    قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Jul 2004
    الدولة : غزة فلسطين
    العمر : 72
    المشاركات : 2,005
    المواضيع : 323
    الردود : 2005
    المعدل اليومي : 0.28

    افتراضي

    ( 16 )

    تجديد العلم كامن في تجديد مناهجه:

    لسنا في حاجة إلى تجديد قضايا العلم؛ بقدر ما نحن في حاجة إلى تجديد مناهجه، وإنما قضاياه تَبَعٌ لمناهجه، فإذا تجددت هذه؛ تجددت تلك بالضرورة. والعكس ليس بصحيح!

    وتجديد المناهج هو الكفيل بتأطير بعثة التجديد، وإسنادها على المستوى العلمي الذي هو الوعاء الجامع لحركتها تأصيلاً وتوجيهاً، ومناط التجديد المنهجي يكون بإحياء الصناعة الفقهية المقاصدية بضوابطها الشرعية؛ بعثاً وتجديداً.

    إن مشكلة العلم والعلماء اليوم إنما ترجع إلى ضمور هذه الصناعة وندرتها.

    والمقصـــود بـ (الفقـه) هنــا: المعنـــى المصــدري للفــظ، لا الاسمي؛ أي الفقه من حيث هو حركة عقلية، ونشاط ذهني بالقصد الأول، ينتجها (العقل المسدَّدُ)، لا (العقل المجرَّد). فالفقه عـن الله ورسـوله إنما يقع بعقـل العالـم الـرباني الحكيم ـ والعقل مناط الفهم والتكليف ـ بما كان عبداً لله خاضعاً لسلطانه، وذلك هو (العقل المسدَّد). وأما (المجرَّد) فعقل متمرد على الله، متجرد عن تسديد الوحي وتأييده! وهو عقل الفيلسوف الذي يركّب المقولات على ما يمليه فهمه هو للكون والحياة دون استناد إلى الوحي، وربما ناقضه ولا يكترث لذلك؛ ما دام عقله قد حكم به!

    وفقه (العقل المسدَّد) هو المقصود في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: «نضَّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها، ثم بلغها عني. فَرُبَّ حامل فقه غير فقيه! ورُبَّ حامل فقه إلى مَنْ هو أفقه منه!»(10) إلخ.

    والفقه المقاصدي كان أهم ملامح بعثة التجديد في القرون الهجرية الأولى، مع الإمام الزهري، وربيعة، وأبي حنيفة، ومالك، والأوزاعي، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد وغيرهم.

    نحن اليوم في حاجة ـ على مستوى تجديد الفقه ـ إلى ثلاثة أعمال منهجية:

    الأول: بعث الثقافة الفقهية القديمة:

    ومن الحِكَم المأثورة عن بعض العلماء قولهم: (أول التجديد قتل الماضي بحثاً!)، وإنما المقصود ببعث الثقافة الفقهية: بعث المفهومات والمصطلحات الضرورية في العلم، وتجديد تداولها؛ ذلك أن دروس معاني المصطلحات الفقهية وضياعها، هو مما يسبب غاية الاختلال في الفهم، والانحراف في التطبيق؛ مما قد ينتج غلواً في الدين، وخروجاً عن مقاصده الشرعية؛ فتنزل أحكامه على غير منازلها!

    ذلك أن بعض أعلام الدعوة اليوم ـ مثلاً ـ لا يعرفون من نصوص القرآن والحديث إلا حكمين شرعيين اثنين: الوجوب والتحريم! فكلما ورد الأمر عندهم حملوه على أصله من الوجوب! وكذا يحملون النهي مطلقاً على أصله من التحريم؛ ليس لأنهم يجهلون القاعدة المدرسية المشهورة: (الأصل في الأمر الوجوب؛ إلا أن تصرفه قرينة إلى الندب أو الإباحة. والأصل في النهي التحريم؛ إلا أن تصرفه قرينة إلى الكراهة)، كلا! فهو يحفظها، لكنه لا يفقهها! فهو ـ بكل سهولة ـ (حامل لدليل الفقه) وليس (بفقيه)؛ وبينهما فرق كبير، وهو ما عبّر عنه الحديث النبوي السابق ذكره: (فرُبَّ حامل فقه ليس بفقيه!)؛ إذ لا يعرف مثلاً كيف يراعي عناصر السياق الثلاثة: من القرائن، والسوابق، واللواحق. ولا كيف يراعي قواعد الدلالة ويوظفها، ولا ما يُعْمِلُ من مناهج الاستدلال وما يُهْمِل، حسب طبيعة الحكم الشرعي ومجاله، من العبادات أو العادات! فحملوا الناس على العنت جهلاً بصناعة الفقه، ومالوا عن الوسط والاعتدال، وخرجوا عن حد الإجماع الذي جعل الأحكام التكليفية موزعة على الخمسة المعروفة: الوجوب، والندب، والإباحة، والكراهة، والتحريم. لقد كانت هذه الأمور معلومة من الدين بالضرورة، بل كانت ثقافة شعبية يوم كان (الفقه) إمام الأمة، ومنهج تلقيها عن الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.

    إن الفقه صناعة لا بد من إحيائها بالبحث في مناهجها؛ حتى تصبح في متناول (التداول الثقافي) للأمة.

    ويمثل المصطلح الفقهي عنصراً من أهم عناصر الإحياء الثقافي، وقناة من أخطر قنوات التداول المفهومي لمنهج التفكير الفقهي، ولذا فهو يعتبر من أهم أولويات البحث العلمي لمن رام القبض على العلم من صلبه لا من مُلَحِه وحواشيه. وللأسف فإن غالب البحوث العلمية اليوم في الدراسات الأكاديمية تعاني من الهزال الشديد في المنهج؛ ذلك أنها تعاني أزمة في الاستراتيجية العلمية، وأزمة في الشروط المنهجية.

    أما الأزمة الاستراتيجية؛ فهي تتمثل في غياب القصد العمراني في البحث الذي يراعي حاجات الأمة الكبرى في بناء التفكير المنهجي، وتوفير مادة علمية صالحة لبناء المستقبل العلمي في المجال الشرعي، وذلك لما طغى على أغلب تلك البحوث من الارتجال ونفسية ردود الأفعال، فكلما ألقى الإعلام على الأمة شيئاً من القضايا، أو كلما أثار (الآخرون) شيئاً من الشبهات؛ رأيت البحوث على عرض العالم الإسلامي وملء جامعاته ومعاهده؛ تنصبُّ على موضوع الشبهة بالبحث لبضع سنين! بينما كان يكفي ذلك أن يصدر فيه (تأليف) فقط، أو حتى عدة (تآليف) لا (بحث). وفرق عندي بين مفهوم (البحث) ومفهوم (التأليف)، فالتأليف: جمع لما هو موجود من العلم، وتصنيف له، ثم عرض له بمنهج إنشائي. فالمؤلف يجمع الأفكار أو يعيد إنتاجها، ثم يعرضها عرضاً حسناً في كتاب. أما (البحث): فهو كشف عن مجهول(11)، إنه تجديد في بناء العلم، أو زيادة - مهما قلت - في صرحه وعمرانه. وما أدق كلمة لأبي بكر ابن العربي المعافري ـ رحمه الله ـ في هذا، قال: «ولا ينبغي لحصيف أن يتصدى إلى تصنيف؛ أن يعدل عن غرضين: إما أن يخترع معنى، وإما أن يبتدع وضعاً ومبنى. وما سوى هذين الوجهين فهو تسويد الورق، والتحلي بحلية السرق!»(12).

    وبالمناسبة؛ فقد رأيت عدة (بحوث) أُنجزت في موضوع المرأة في السنوات الأخيرة، أو سُجّلت لنيل بعض الشهادات، وبالاستقراء كانت القضايا المدروسة في أغلب هذه البحوث هي هي! والمنهجية المتبعة هي هي! والنتائج المتوصلة إليها هي هي! لماذا؟ السبب يسير: هو أن موضوع (المرأة في الإسلام) قد قُتل بحثاً من لدن الدارسين. وما بقي فيه مجال إلا (للتأليف) بالاصطلاح المذكور! وما كان ينبغي أن نكون كلما ألقى شيطان الغرب في روع عملائه ومقاوليه شبهةً؛ أن نهب بكل طاقاتنا لإصدار البحوث، وإنجاز الأطروحات!

    إن الأمة اليوم في حاجة إلى البحث في التراث الفقهي، أصوله وفروعه، تحقيقاً وتخريجاً وتجديداً؛ بما يضمن تطوير مناهجه وبث ثقافته. كما أنها في حاجة استعجالية لوقف النـزيف الحاصل اليوم في الجامعات العربية والإسلامية، حيث تهدر الأموال، والطاقات، والأعمار؛ في إصدار وفرة من التآليف باسم البحث العلمي!

    إنه لا بد من بناء (استراتيجية البحث العلمي) لدراسة الجدوى من كل عمل؛ قصد تحقيق بعثة التجديد في الجامعة؛ بما يغطي حاجات الأمة المستقبلية في فقه الدين والدنيا، ومن أجل ذلك؛ لا بد من إنجاز العنصر الثاني من الأعمال المنهجية الثلاثة للتجديد الفقهي، وهو:

    يتبع

  7. #17
    قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Jul 2004
    الدولة : غزة فلسطين
    العمر : 72
    المشاركات : 2,005
    المواضيع : 323
    الردود : 2005
    المعدل اليومي : 0.28

    افتراضي

    ( 17 )

    الثاني: تجديد أصول الفقه ومقاصد الشريعة:

    وليس معنى ذلك عندي إلغاء العمل بالقياس، ومسالك التعليل، على ما يراه بعض الفضلاء(13). كلا! فلا تزال المنهجية الأصولية في أغلب قواعدها صالحة للإعمال والاستعمال، في إنتاج التفكير الفقهي الجديد وضبطه، وإنما هي في حاجة إلى كشف رصيدها العلمي الضخم أولاً، ثم تطوير قواعدها الإجرائية؛ بما يضمن استيعاب قضايا العصر الحديث بشكل مناسب لمقاصد الشريعة ثانياً.

    فهي إذن؛ في حاجة إلى (تكميل) أكثر مما هي في حاجة إلى (تغيير)، هذه حقيقة يعرفها من خبر مناهج الاستنباط الفقهي في مصادرها الأصيلة، وذلك على الأقل في هذه المرحلة من تاريخ الأمة العلمي. قلت: هذا لمن كان يعرف طبيعة المادة الأصولية والمقاصدية حق المعرفة؛ من خبراء الميدان. فالدرس الأصولي غني جدّاً بالتنوع المنهجي، وبالتعدد الإمكاني لمسالك البحث والاستنباط؛ بما يكفل تغطية أغلب الحاجات العلمية للأمة، في العصر الحديث.

    والقياس المعياري ـ ولا أقول (الضيق) ـ وُضِعَ لأسباب حضارية، وحاجات علمية، ما تزال قائمة إلى اليوم. ووضعت له منافذ للتوسعة، تبرز حيث تنتصب حاجتها علمياً. من مثل القواعد المآلية، كقواعد الاستحسان، وسد الذرائع وفتحها، وقاعدة مراعاة الخلاف، وقاعدة اطراد المصالح الكلية... إلخ(14).

    إن الحاجة اليوم هي في تجديد الضوابط الأصولية، والقواعد المقاصدية، فيما يتعلق بفقه الأولويات والموازنات، وكذا قواعد ترتيب الحجاج والاستدلال. فأصول هذه الأمور تكاد تنعدم، فالخبراء يستنبطون مفهوماتها لأنفسهم، ويبقى غيرهم من أهل العلم تائهين في فتنة تعارض الظواهر ومقتضيات الدلالات، فتدخل الأمة بذلك في فتنة ردود الأفعال، من مثـل ما يحصل اليـوم مـن افتراقٍ مفتونٍ، ينشـق بين قـوم لا يشتغلـون بالسـنة مكتفين فقـط بالقـرآن! وبين قـوم آخــرين لا يشتغلــون بالقــرآن مكتفين فقط بالسنة! وبين قـوم آخــرين لا يقبلـون اجتهـــاداً فـي الدلالـة ولا فـي مقاصــد الشـريعة؛ ولا نظراً في تحقيق المناط بين عموم وخصوص! وقوم غيرهم تسيبوا في تفسير الخطاب الشرعي بما يخالف الأصول الكلية والثوابت الشرعية. كل ذلك ردود أفعال لا شعورية؛ بسبب غياب العدل في العلم، والقصد في المنهج.

    إننا في حاجة إلى تكميل أصول الفقه بقواعد، تضمن بناء مراتب التشريع؛ ليس بمعنى الترتيب المعتاد للأصول: الكتاب فالســنة فالإجمــاع فالقيــاس، كلا! فهـذا ترتيب مـدرسـي، لا إشكال فيه ولا خلاف، وإنما القصد منه بيان قوة الحجة الكلية للدليل. وأما قواعد الترتيب التشريعي المطلوب تجديدها؛ فهي المتعلقة بترتيب التفكير الفقهي، والضابطة لمراحله الذهنية؛ بدءاً بمرحلة الفهم للنص: كيف يتم؟ ثم مرحلة الاستنباط منه: كيف تقع؟ ثم مرحلة التحقيق للمناط: كيف تتنزل أحوالها ومآلاتها بين العموم والخصوص؟ وما يعتري كل ذلك من تقديم وتأخير، أو استثناء وتخصيص، للأدلة بعضها على بعض، وبعضها من بعض، إلى غير ذلك من سائر الأحوال، والممكنات الاستدلالية في الدرس الأصولي والمقاصدي.

    ثم أيضاً القواعد المقعِّدة لقوة التحقيق والتطبيق على الواقع الإنساني، وميزان أولوياتها على وزان قوة الحكم الشرعي، وإنما يكتسب قوته بمصدره ومآله، فليس ما شــرع فـي القرآن ـ من حيث القوة ـ كما اشتغلت السنة بتشريعه، ولا ما شرع في السنة كما اشتغل الاجتهاد بتشريعه. وليس ما أجمل في الكتاب كما فصل فيه. هذا ترتيب لا تكاد تجد له في أصول الفقه قواعد إلا قليلاً.

    وعـدم اعتبار هـذه المعاني الكليـة، والترتيبات الاســتدلاليــة ـ مما سبق ذكره إجمالاً ـ يؤدي إلى أحد غُلوّين: غلو في اعتبار القرآن بلا سنة، أو السنة بلا قرآن، أو غلو في اعتبار النصوص مطلقاً بلا فقه، ولا منهج معلوم، وإنما هي الفوضى في المنهج وفي التفكير!

    كما أننا في حاجة - بعد ذلك - إلى تكميل قواعد تحقيق المناط بمعناه العام والخاص(15). وتطوير ذلك من مجال النفس إلى مجال المجتمع، ذلك أن كثيراً من التضارب بين العلماء والدعاة اليوم، في الفتاوى وفي رسم التوجهات الفقهية؛ يرجع في غالبه إلى غياب ما يمكن تسميته بفقه (تحقيق المناط الاجتماعي). وهو صناعة أصولية درج بعضهم على تسميتها اليوم: (بفقه التنزيل). وهذا لا يزال في حاجة إلى تأصيل وتقعيد، وما صنف من هذا في التراث القديم هو فعلاً في حاجة إلى (تجديد) بعض نماذجه؛ خاصة في مجال المعاملات والعادات؛ إذ فقه تحقيق المناط في مثل هذه الأمور مرتبط بطبيعة الزمان وأهله، يتغير بتغيرها، وقد تغير فعلاً منه الكثير الكثير، فلا بد من تجديد ذلك، على شروط العلم، وقواعد المنهج الأصولي والمقاصدي.

    وأما تجديد مقاصد الشريعة من أصول الفقه، فهو ـ أولاً ـ بالصياغة المنهجية؛ لما يوجد منها منثوراً في كتب الفقه وأصوله، ومعلوم أن من فعل ذلك من العلماء الأقدمين والمحدثين في الأمة قليل، فلا يذكر منهم غير الشاطبي في الأقدمين وشراحه من المحدثين ـ كالطاهر بن عاشور والدكتور أحمد الريسوني ـ، المفاهيم المقاصدية لا تزال مبثوثة في كتب الأقدمين ليس فقط في الكتب المشتهرة بذلك كقواعد الأحكام للعز بن عبد السلام، كلا! وإنما في كتب الفقه مطلقاً وفي كل كتب الأصول، بل في كتب التفسير أيضاً وفقه الحديث، وهي تحتاج إلى كشف أولاً، ثم إلى صياغة علمية منهجية على وزان القواعد والأصول.

    ويضاف إلى ذلك ـ ثانياً ـ ما دعت إليه الحاجة المعاصرة؛ من تقعيد القواعد؛ مما يُقَصِّدُ الشارع تقصيداً شرعياً، في تفسير النصوص الكلية؛ لاستيعاب المفهومات الجديدة للمصالح والمفاسد والحقوق؛ بما ينضبط إلى أحكام الشريعة.

    والتفكير المقاصدي ضرورة من ضرورات البعثة، وأصل من أصول التجديد، فبغيره تتيه الأمة بين الظواهر؛ بما قد يرفع شوكة الفكر الخارجي من جديد، أو يدخلها ـ بالضد ـ في متاهات التحليل الباطني، ويبقى الوسط بعيداً عن لسان الميزان! وشيء من هذا وذاك ـ مع الأسف ـ هو حاصل، ولله عاقبة الأمور.

    يتبع

  8. #18
    قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Jul 2004
    الدولة : غزة فلسطين
    العمر : 72
    المشاركات : 2,005
    المواضيع : 323
    الردود : 2005
    المعدل اليومي : 0.28

    افتراضي

    ( 18 )

    ثالثاً: تجديد (أصول الفقه السياسي):

    إن هذا الاصطلاح دال على مفهوم هو في الحقيقة من مفهومات علم أصول الفقه بمعناه العام، لكننا أفردناه بالذكر ها هنا لجهل بعض الناس به؛ بل لإنكارهم إياه مطلقاً! ثم لما له من خطورة في بعثة التجديد، خاصة في زماننا هذا.

    إن (أصول الفقه السياسي) أمر لازم بالضرورة عن فقه تحقيق المناط في أصول الفقه، وأمر لازم بالضرورة أيضاً عن فقه (اعتبار المآل) في مقاصد الشريعة، كما قرره الإمام الشاطبي(16)، ثم هو ـ قبل هذا وذاك ـ ضرورة من ضرورات الاجتهاد المعاصر، لا يكون العالم اليوم مجتهداً بحق؛ إلا بتحصيل درجة الاجتهاد فيه.

    لكن لا بد من بيان أمر:

    لقد قررنا في كتابنا (البيان الدعوي) تأخرَ الرتبة التشريعية للأحكام السياسية في الإسلام؛ بما يعني عدم مفتاحية الشأن السياسي دعوياً(17)، فذلك أمر آخر تماماً ومختلف عما نحن فيه، إن ذلك يتعلق ببناء (البرنامج السياسي) في المجال الدعـوي.

    ونحن نفرق بين (البرنامج السياسي) و (أصول الفقه السياسي)، فالأول فقه جزئي تطبيقي، والثاني كليات وقواعد، بمعنى أن (البرنامج السياسي) ما هو إلا عنصر جزئي من عناصر (أصول الفقه السياسي)، كنسبة فقه المواريث مثلاً إلى مجموع الفقه، بل إلى كلي أصوله. ولذلك رأينا أن (البرنامج السياسي) ـ بما هو علم جزئي ـ ليس هو المفتاح الأساس لبعثة التجديد الإسلامي، وهو ما اصطلح عليه اليوم بـ (المشاركة السياسية) في المجال الحزبي، بل هو أمر مقصود بالتبع، وليس بالأصالة في تجديد العمران الديني للمجتمع.

    أما الثاني ـ أعني فقه الكليات السياسية، أو أصول الفقه السياسي - فهو منهج معرفة سنن التحولات، وسنن التوقعات والمآلات، فيما يتعلق بتدبير شؤون المجتمعات، على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي، وبهذا كان مصدراً من مصادر فقه الدعوة الإسلامية. ومن ظن أن العالم الإسلامي قطعة معزولة، أو بالأحرى يمكن عزلها عن السياسة الدولية؛ فهو ما يزال يعيش خارج التاريخ!(18)

    وبمثل هذه الأخطاء القاتلة، في الفهم وفي المنهج؛ يتم استغفال بعض العلماء وتوظيفهم - على جلالة قدرهم -، والدفع ببعض الجماعات الإسلامية؛ بما يؤدي بها إلى الانتحار في نهاية المطاف! أو إلى زيادة تمزيق مِزَقِ الأمة؛ بما يؤخرها عشرات السنين إلى الوراء!

    إن (أصول الفقه السياسي) ضرورة من ضرورات الاجتهاد اليوم، لا يجوز لعالم أن يتصدى للإفتاء في الشأن الإسلامي العام، المتربط بمصائر الشعوب الإسلامية، وأمنها الاستراتيجي المادي والمعنوي؛ إلا بتحصيل درجة الاجتهاد فيه، فلا بد إذن من إحكامه، وبناء قواعده، واستنباط مناهجه؛ لضمان تفكير فقهي سليم، يبني ولا يهدم، ويرشد ولا يضلل.

    إن أصول الفقه السياسي هو قواعد لفهم ما يجري في العالم، وقواعد لاستنباط ما يناسبه من أحكام وفتاوى على موازين الكتاب والسنة. وأي فتوى تُنَزَّلُ على محلها بغيره؛ فهي رمية من غير رام. وإنما جاء الدين ليتنزل على واقع الناس بما هو موصوف في الزمان والمكان، و (أصول الفقه السياسي) هو الكفيل بذلك الوصف، في مجال تدبير الشأن العام.

    ويمكن أن تستقرئ قواعده ـ زيادة على التراث الأصولي والمقاصدي ـ من قواعد العلوم السياسية والاقتصادية والإعلامية. فهذه ثلاثة مجالات، هي من الخطورة بحيث يُعتبر الخوض في محاولة بناء الأمة، وتجديد بعثتها من دون مراعاتها؛ ضرباً من المغامرة بمصيرها، ونوعاً من المقامرة بوجودها، وقد عُلِم شرعاً تحريم كل عقد بني على الغرر والمقامرة.

    إن تجديد العلم بتلك المواصفات معناه تجديد العلماء؛ لأنهما متلازمان كتلازم الصفة مع الموصوف، فالعالم الفقيه حقاً: إنما هو الذي بقدر ما يجتهد في استنباط الأحكام من النصوص، أو من عللها، أو حكمها؛ يجتهد أيضاً في تربية الجيل بها. ولا يكون ذلك إلا بمعرفة الزمان وأهله، على ما قررناه في (أصول الفقه السياسي)، فذلك هو الإمام المنتصب، أو العالم الوارث، المبعوث للتجديد بإذن الله.

    يتبع

  9. #19
    قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Jul 2004
    الدولة : غزة فلسطين
    العمر : 72
    المشاركات : 2,005
    المواضيع : 323
    الردود : 2005
    المعدل اليومي : 0.28

    افتراضي

    ( 19 )

    خاتمة:

    إن الاستعمار الأمريكي الصهيوني للعالم الإسلامي اليوم، مشرقه ومغربه، سيؤدي ـ بحول الله ـ إلى تحول كبير في بنية الأمة الإسلامية. ويكون ذلك بأحد أمرين:

    الأول: حرب عالمية بين الأمة ـ بعد تجددها القريب ـ وبين أعدائها.

    والثاني: انهيار ذاتي لبنية العولمة والنظام العالمي الجديد. وكلاهما وارد.

    ومن هنا تظهر حاجتنا إلى الفقهاء الحكماء، بما وصفنا وبيَّنا، لإدارة بعثة التجديد، من القرآن إلى العمران.

    فأما الاحتمال الأول؛ فلعله أشد وطأةً، وأكثر توقعاً بمستقبل آت بإذن الله؛ إذْ لا نرى أحداث العالم الإسلامي اليوم إلا ناراً تنضج جيله الحامل لأمره.

    إن العدوان الأمريكي الفظ، المستمر على الأمة الإسلامية، والسرطان الصهيوني بفلسطين، والتطبيع المفروض من قبل الغرب، والتواطؤ المفضوح مع ذلك كله من قِبَلِ الأنظمة العربية، هذا مع استمرار الإذلال للشعوب المسلمة، والتقليل والتذبيح الجماعي، والتمزيق لخرائط العالم الإسلامي، وانتهاب الثروات، كل ذلك يصنع في الأمة أجيالاً مقاتلة، ونفسية جهادية. لكن الله وحده عليم بموعد الإبَّان!

    ومن هنا وجب توجيه تجديد العلم، والبحث الأكاديمي إلى الفقه وأصوله ومقاصده، كما أشرنا قبل. إن الفقيه الحكيم هو القيادة الرشيدة للأمة عبر التاريخ، في محنها وأزماتها؛ تماماً كما كان فقهاء الصحابة عند الفتنة، وكما كان ابن تيمية عند انهيار المشرق ودخول التتار إلى قلب الأمة.

    إن النار الشديدة التي تلهب العالم الإسلامي اليوم؛ بما لم يسبق له مثيل في تاريخه الحديث؛ إنما تنضج فيه أطباق الجيوش المجاهدة، وقيادتها الفقهية الربانية المؤمنة.

    إنها تباشير الخير إذن، لكن طبعاً من خلال الدماء والمعاناة، وتلك سنة الله في التاريخ، فلم ينتصر بنو إسرائيل في عهد موسى ـ عليه السلام ـ على فرعون، وحضارة الفراعنة؛ إلا من بعد تذبيح وتقتيل: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْـمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 4 - 6].

    وكذلك كانت سنة الله في الأمم المستضعفة وطغاتها، وكذلك هي جارية في هذه الأمة إلى يوم القيامة، كما قال ـ تعالى ـ في طغيان بني إسرائيل وإفسادهم: {وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً} [الإسراء: 4 - 5].

    إن الفرعونية هي أوج مرض الطغيان؛ إذ يبلغ مرحلة (المرض المخوف)! حيث يدعي الألوهية والتحكم في مصير الأرض والشعوب، كما سبق قوله ـ تعالى ـ: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَـــــاءَهُـــمْ إنَّـــــــهُ كَانَ مِـــنَ الْـمُفْـــسِدِينَ} [القصـص: 4]، وإنمـــا كان ذلك بمقتضى الوهم الفرعــوني بإدعائه الألـوهية، كما في قوله ـ تعالى ـ: {فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى (25) إنَّ فِـي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّـمَــن يَخْشَــى} [النازعــات: 21 - 26]، وقـوله ـ سبحانه ـ: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْـمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، وهو بالضبط حال الطغيان الأمريكي ـ الصهيوني اليوم في العالم! وقد ثبت في سنة الله الجارية؛ أن الطغيـان بمجرد مـا يصـل مـرحلة تحـدي رب الكـون؛ فإن الله ـ تعالى ـ يأخذه أخذ عزيز مقتدر! وما نحسب النظام العالمي الجديد إلا وصل تلك المرحلة، أو قاربها! وهذا بيّن من خلال لغة إعلامه، ومنهج اقتصاده، وصور حروبه. فالتأله والتعدي على سلطان الله ـ جل وعلا ـ في الأرض؛ هو السمة الغالبة على طبيعة الطغيان الأمريكي، وما نرى إلا أن مرحلة (الأخذ) قد قربت؛ بمعنى ما سبق من قوله ـ تعالى ـ: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى} [النازعات: 25].

    سواء ترجح الاحتمال الأول أم الثاني؛ فإن الاستخلاف لن يكون في هذه الأمة إلا بعد صلاحها، فاقرأ هذا البلاغ القرآني العظيم وتدبر: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِـحُونَ (105) إنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء: 105 - 106]. إن الصلاح بفعل ما ذكرنا آت بالجملة، وعودة الناس إلى دين الله أفواجاً رغبة شعبية عارمة، ومن مختلف الشرائح والطبقات، لكن البداية الحقيقية لن تكون إلا بما بدأ به العهد الأول، والبعثة الأولى، فهي لم تبدأ بالسيف يوم بدأت، ولا بالقتال. وإنما بدأت بالقرآن! إن أول شيء حدث في الأمة لتكون أمةً هو نزول القرآن! فتدبر هذه الحقيقة فإنها غير معتادة تماماً! القرآن الذي بدأ يتنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- فوق مرتفع جبل النور بضواحي مكة؛ كان هو منطلق العمل لبناء صرح هذه الأمة، ثم جعل يسري بين الناس همساً؛ حتى صار (تداولاً اجتماعياً) و (مجالس) بين الدور والشعاب، إلى أن صار حديث المنابر بالمدينة، ونزهة المجالس على ملأ العالمين بالجزيرة العربية كلها، إلى أن عمت أنواره، وغلبت كل أضواء العالمين.

    ولذلك نقول: القرآن أولاً يا دعاة الإسلام! فإن القرآن أول القطر النازل من مطر بعثة التجديد، والله الموفق للخير والمعين عليه، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].


    --------------------------------------------------------------------------------

    (•) مراسل مجلة البيان، رئيس قسم الدراسات الإسلامية، جامعة المولى إسماعيل، مكناس، المغرب.

    (1) انظر: بلاغ الرسالة القرآنية، ص 50 ـ 58.

    (2) رواه الطبراني في الكبير. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله موثقون. كما رواه ابن النجار عن أنس ـ رضي الله عنه ـ بلفظ: (العلماء) بدل (الفقهاء). وقال العجلوني في كشف الخفاء: رجاله ثقات. كما روى نحوه الديلمي عن علي رضي الله عنه.

    (3) رواه أحمد والدارقطني والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 76.

    (4) انظر: قناديل الصلاة، للمؤلف، وبلاغ الرسالة القرآنية، ص 70 ـ 80.

    (5) رواه مسلم.

    (6) رواه الحاكم والبيهقي عن ابن عمر. وصححه الألباني. انظر حديث رقم: 1603 في صحيح الجامع.

    (7، 8) متفق عليه.

    (9) صحيح البخاري، كتاب العلم.

    (10) رواه أحمد، وابن ماجه عن أنس مرفوعاً. وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، رقم: 6765، كما رواه الترمذي والضياء عن زيد بن ثابت مرفوعاً، بسند صحيح كما في صحيح الجامع، رقم: 6763.

    (11) انظر: أبجديات البحث، للمؤلف، ص 24، منشورات الفرقان. الدار البيضاء.

    (12) عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي، لأبي بكر ابن العربي المعافري.

    (13) تجديد أصول الفقه، للدكتور حسن الترابي.

    (14) انظر: الموافقات: 4/ 194 ـ 210.

    (15) الموافقات: 4/ 98.

    (16) الموافقات: 4/ 194.

    (17) البيان الدعوي، للمؤلف، (مخطوط).

    (18) المرجع السابق.


    تم بحمد اللـه تعالى
    مع الشكر الجزيل للدكتور فريد الأنصاري

صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12

المواضيع المتشابهه

  1. قف .. أنت مطالب بالدخول ( موضوع في غاية الأهمية )
    بواسطة محمد حمود الحميري في المنتدى أَخْبَارٌ وَإعْلانَاتٌ
    مشاركات: 130
    آخر مشاركة: 10-03-2018, 01:27 PM
  2. الديانات السماوية والوضيعة قبل بعثة النبي :المستشارحسين الهنداوي
    بواسطة حسين علي الهنداوي في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 02-06-2016, 05:39 PM
  3. (( الماضياتِ المقبلَة !! ))
    بواسطة أبو أحمد الخالدي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 20
    آخر مشاركة: 27-04-2013, 06:45 PM
  4. الاجتياح (1)
    بواسطة حنان الاغا في المنتدى مُنتَدَى الرَّاحِلَةِ حَنَانِ الأَغَا
    مشاركات: 17
    آخر مشاركة: 05-02-2007, 11:41 PM
  5. استكمال موضوع هل الاشباع غاية.........
    بواسطة محمد سوالمة في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 23-12-2005, 12:25 PM