طلب محلّي
تقدمت سحابة لها طول الأرض وعرضها فبللت الشارع المزدحم وأغرقته في دقائق، والتجأ بعضهم إلى المحلات المثبتة كالأسنان على الأرصفة. ولج المطعم سبعة رجال من جنسيات مختلفة واحتلوا المقاعد وطلبوا عصيرا رخيصا، الأمر الذي دفع مديره الخرتيت مفتول العضلات إلى النظر إليهم باستياء. ووجه نظرة أخرى مشابهة -كالتي كان يوجهها في طفولته إلى القطط الطفيلية- إلى المطر الذي لا يزال يترع جنبات الطريق ويداعب بلمساته المبشورة قسمات الواجهة الزجاجية. وحين همّ بإغلاق الباب من الداخل ليحول بين المارة واقتحام كهفه غير المجاني دلف شبح رجل ثلاثيني نحيل ممصوص الجسم جاحظ العينين، مرتعش الأوصال، مبلل بكامله، وسمرته لا تشي بأي أمل فضلا عن هندامه المبعثر، مسكين بالمختصر. وجلس يسكب أطماره المبللة على آخر بقعة متاحة. قادت المدير خطاه –تحت تأثير الغضب- إلى آخر مقعد في الزاوية الضيقة القصيّة ووقف على رأسه وسأله عن طلبه لعله يستفتح به مشروع طرد الهاربين من الماء.
-ما طلبك؟
-أي شيء.
هز الآخر رأسه وجهز له سندويتش شاورما وعصيرا، فأكلها وطلب مزيدا، وأكل ثم طلب ثالثة. شرع معلم الشاورما في تقطيع الساق الريانة التي تنضج وينضج معها وجهه فأشار الزبون بيده مستدعيا الخرتيت مفتول العضلات الذي أقبل في شبه استنكار، واحتاج إلى إعادة مكررة من الحنجرة الضعيفة ليتأكد أنها تريد ثلاثين شاورما بالتمام والكمال. خمن أنه يريد طلبا خارجيا، وسيغادر عما قليل، وأحس بأن عليه إظهار قليل من الاحترام، وقد فعل، وكاد يعض شفته ندما على إساءته، واستحضر ذهنه تصورا بديعا لرجال فضلاء غدر بهم الزمن. ظل الماء يواصل دغدغته لآباط الأرصفة الظمأى ويتلاطم على خد الطريق الأسود، فيما أخذت أطمار الزبون الجاثم تجف تدريجيا وهو لابد في مقعده لا يتزحزح، وأما الذين جاؤوا قبله وبعده فقد غادروا بعد ما يئسوا من انقطاع السيل، وخرجوا يبحثون لأنفسهم عن مخابئ أخرى أو اعتزموا الدخول في حومة التجديف ليستطيعوا الوصول إلى مهاجعهم مهما يكن الثمن. لكن شيئا فشيئا أخذت الساق المتأججة تضمر وتضمحل حتى اختفت بين أسنان الأسمر بهدوء ودون ضجة ولا علامة من علامات الشره أو الجشع أو الكيد، في حضرة دهشة عارمة استبدت بالمكان. باخت نفس الخرتيت وضاق صدره –كما كان يفعل في مراهقته كلما وجد نفسه متلبسا بخيبة في التخمين- واشتد الهطول، فقطع دبيب السابلة إلا بضع سيارات خاطرت ورمت بنفسها في المعمعة، وأضواؤها ومسّاحاتها تقاتل حتى الرمق الأخير. وارتجف من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه: عندما أدرك أن الدخيل إذا استمر على هذا الوضع فسوف يأتي بمعجزته الابتلاعية على آخر الاستعدادات الجادّة للمطعم. لم يكن بد من كسر حاجز عدم التصديق، اصطفّ هو وبعض معلّميه يلغون ويهمسون ويهمزون دون أي التفات من الآكل الأسطوري ذي المظهر الشيطاني الخادع. ولم يمض وقت طويل حتى استيقنوا أن الجاثوم قد جثم: نفدت آخر شطيرة من الهمبرغر وقُطع دابر البيتزا، والسلطات، والبروستد، واختنقت سطول النفاية بالعُظيمات والنتف ونشارة الخبز وأكواب وماصّات العصير البلاستيكية، وفرّغت مرة بعد أخرى، واضطرهم ذلك إلى تكويم الأكياس أمام البوابة، حتى جاع جوف المطعم وعاد قاعا صفصفا وهم بدورهم يعانون أسوأ كوابيس الإرهاق العملي. خلا بعضهم ببعض وتحلقوا حول المعلم الكبير –الذي جف وجهه واستغرق في سرَحان طويل وكأنه يحاول أن يتذكر اسما قديما ضاع منه- يتداولون الشورى بين الاعتداء على شبح شيطاني أو الهروب منه للسبب ذاته، فيما لم تند من الدخيل أي إشارة عدوانية أو سلوك غير مهذب في تناول وجباته ولا أي وشاية بالجوع أو الشبع. وفجأة أفاق المدير ناطقا بحكمة أثيرة إذ قال: "إنه يتلقى الطعام كما تتلقى الأذن والعين الأصوات والمناظر". ولأنه لا بد لكل شيء من نهاية فقد خف الهطول أخيرا ثم توقف. نهض خفيفا هادئا، ومشى إلى المغسلة فتمضمض وغسل يديه وعطرهما بالكولونيا، ثم توجه إلى طاولة الحساب. توجس الخرتيت مفتول العضلات من مراوغة للتهرب من الدفع وأضمر شرا، وحشد في نفسه كل حقد المواقف المهينة التي لم ينتقم لها، وتجلد لتعويض كل المزالق التي زلت فيها قدمه، وشجع نفسه على الدخول في شجار عنيف مع "هذا الشيطان" لو لزم، ورغم حزمه القاطع إلا أن قلبه أبدى ترددا، فتصاعدت ضرباته . تقدم إليه الرجل على مهل، واتكأ بيده الرخصة على طاولته الزجاجية، وسأله بالحنجرة الميتة والوجه الشاحب: "كم الحساب؟"، ذكر له المبلغ المهول مبهوتا، فأدخل يده في جيبه ووضعه على الطاولة، وغادر كما دخل: نحيلا، أسمر، ممصوصا، مشعثا، جاحظ العينين، مسكينا بالمختصر. وانعطف عن الباب يمينا، تشيعه النظرات الذاهلة وهو ينعرج مرة أخرى ليبتلعه زقاق قريب. عندئذ فقط: سقط الضخم بكل ثقله في مقعده، وأجهش بالبكاء.