إلى سالومي أو غيارى الراوي
عاشقة كل الأيام.
أصارع رغبة قوية في فتح عينيّ، يصرعني كسلي الصباحي ويلقي بي إلى إغفاءة لذيذة تحضنني بدعة. أعلم أن اليوم أحد، وأني مطالبة بأشياء كثيرة مؤجلة حسب برنامج يضغط علي وأرجئه كل مرة.
تداعب حواسي رعشة خفيفة اقترنت بأصوات بعيدة بدأت تلح على صماخيّ. أتحصن بملاءتي التي تعفو عن رائحة نوم شهية. أقرر أن أعود مرغمة تحت تأثيرها، كما كل مرة، إلى الارتماء في حضن غيبة أخرى. تمنعني تلك الأصوات التي بدأت تصلني أكثر وضوحاً عن السابق. حناجر تردد شعارات تطن في عنان أحد كان من المقرر أن يكون هادئاً صامتاً. خمنت أن لتلك الأصوات أسباب مقنعة دفعت بها إلى تحدي برودة هذا الشهر الصقيع، وصبيحة أحد يبدو الفراش أكثر إغراءً من سواه فيه.
أحاول عبثاً أن أسلك تلك الطرق التي بت أعرفها جيداً كيما أستعيد نعاسي. بتثاقل أفتح عينيّ. هي ذي حجرتي المظلمة أمامي. لا تحمل جديداً عدا تلك الأصوات التي فضلت اختراق كل الحواجز الإسمنتية السميكة للوصول إلي كما إلى آخرين كثر يقطنون الجوار.
أتقلب على سريري الخالي بكسل. يصطدم جسدي بكتاب كان يرقد جواري. أظنها رواية تحسين يوجل (الأيام الخمسة الأخيرة لرسول). تصورت أن الرواية والكاتب ورسول أفاقوا منزعجين مثلي تماماً.
أعشق صبيحة الأحد، وأكره فترة بعد استفاقتي. أحسب أن الزمن يزحف بطيئاً ويكاد يتوقف. وطبعاً كرهت تلك الأصوات التي استمرت تلح على مسمعي مجبرة إياي على فتح عيني وإقفال باب متعة تمنيت لو أنها دامت الصبيحة بأكملها.
لتكسير رتابة الأحد كنت قد وضعت برنامجاً محكماً يقضي بإتمام كتابة رواية كنت بدأتها منذ مدة، وأرغب اليوم في وضع نقطة خاتمتها لأتفرغ لرواية أخرى قد تأخذ مني كمثيلتها خمس سنوات. في كل مرة كان يبعدني عنها عذر طارئ. وضعت إمكانية سقي نباتات حديقتي الأفقية التي اصطفت على شرفة شقتي الصغيرة إن منحني الوقت فرصة لذلك.
أقصد الحمام بكسل باد. أنزع ملابسي بسخط كأني أقوم بذلك مرغمة. زفرت بحنق لما اكتشفت عناد الماء الذي رفض أن يريني وجهه في يومي هذا. عارية أدخل المطبخ علي أفاجئه هناك. أبى إلا أن يتركني وحيدة هو أيضاً ككل الرجال الذين عرفت وأولائك الذين سأعرف. البارحة فقط دعتني رشيدة عندها. وكما كل دعوة مشبوهة تتواطأ وزوجها في البحث عن أحد أصدقائه البلداء الذي، حسب رأيهما، سيطفئ عزلتي ووحدتي. وجدته ثقيل الدم، غارقاً في سطحية لا تقاوم حد أني انصرفت متذرعة بصداع أصاب رأسي، أحسست فعلاً بصداع سببه لي صديق زوج أختي.
صحبتني رشيدة مودعة حتى الباب. همست في أذني وهي تقبلني: إلى متى عنادك؟
رغم أننا انحدرنا من بطن واحدة إلا أنني لا أستطيع أن أعي تماماً لمَ تفكر بتلك الطريقة السمجة. لم أكن أحتاج لكثير من الفطنة وقوة الملاحظة لألمح الحزن الدفين الملقى على ملامحها، وفراغها الداخلي الذي ينط من عينيها. لا أريد أن أكون مثلها، آلة شهوة لرجل تفرخ له أشباهه متى شاء.
مستسلمة استلقي على أول كرسي قابلني. أودع نفساً عميقاً من سيجارتي دواخلي. أفكر أنه علي أن آخذ إفطاري في أقرب مقهى. كنت قد نويت أن أعتكف في شقتي هذا اليوم سعياً مني إلى إتمام برنامجي. لكن لا بأس من مشوار قد يستغرق دقائق فقط. وعند الغداء، إذا استمر الماء في مشاكستي، أمنح نفسي استراحة قصيرة.
تسحبني رنة هاتفي المحمول من وضع التعديلات اللازمة على برنامجي. رسالة قصيرة من رشيدة. ظننت أنها ستطمئن على صداع رأسي وكنت واهمة، إذ أنها سببت لي صداعاً حقيقياً هذه المرة عندما أخبرتني أن خالتنا المشتركة نفيسة تحتضر، وحضوري ضروري في بيت جدتي. لعنت الاحتضار، وخالتي، ورشيدة، والهاتف المحمول، ورنات رسائله القصيرة.
أرتدي ملابس تتفق والشتاء وبوادر الموت. أفضل أن أنزل الطوابق الأحد عشر دون استعمال المصعد علّ ذلك يبعث في جسدي بعض الدفء، يقابلني بياض الشارع وكرم السماء التي استمرت في رشق الأرض بندف الثلج. استغربت الأمر فعلاً، فحتى عودتي البارحة من بيت رشيدة كان الشارع بلا ثلج. أشيح بناظريّ عن أطفال لم ترحمهم المدينة وفصلها البارد، إلى مجموعة تصرخ مهتاجة. حاولت تخليص سمعي من تشوشاته لأتمكن من معرفة ما يقولون. اتضح لي أنهم يعملون. وعملهم يقضي بالتهليل للثلج وللسماء وللحكومة. لعنتهم في سري كما لعنت الأحد، والثلج، والسماء، والحكومة، والماء، ورشيدة، وخالتنا المشتركة نفيسة، وبيت جدتي، وجدتي، والموت.
أنزلق إلى أحياء مجاورة فارة من هذه الأصوات المقيتة، بعضها كان أبيض بالثلج، بينما رأيت بعضها الآخر يلتحف السواد. ألج مقهى منزوية ببؤس في شارع خلفي. يداعبني دفء مفاجئ. أركن إلى طاولة أردتها أبعد عن الباب والزجاج. المقهى خالية إلا من نادل شاب وامرأة بلا ملامح لم تفارقني نظراتها منذ دخولي. أحس ببعض الربكة والانزعاج. أود لو أقوم إليها لأصب عليها جامات حنقي على هذا الأحد العابس. يخيب ظني لما لمحتها تقف، وتقصدني مهرولة قبل أن تنطق اسمي بصيغة السؤال. أنزع نظارتي، أحدق بها، بدا وجهها أليفاً كهذا الأحد. وأنا أهز رأسي هزات خفيفة متواترة، وددت أن أسألها من تكون؟ لكنها سبقتني إلى ذلك مقدمة لي نفسها. اسمها لم يكن يعني لي شيئاً، وذاك ما فهمته بسرعة فأضافت أننا كنا زميلتين في الدراسة الثانوية. تجلس دون إذن. تعد لي أسماء لطلبة وأساتذة وعاشقين طوتهم السنون الكثيرة خلفها ولم تترك لهم أثراً في ذاكرتي. تقول أن سبب تواجدها هنا، أخبار راجت حول وجود مكتبة تبيع الكتب النادرة جداً، وأنها تود البحث عن مجلة ضمت قصيدة لها في بداياتها. تروقني الفكرة، إذ كنت قد أضعت نسخة من مجلة حوت قصة لي كانت أول ما نشر لي ووقعتها باسم مستعار. عاشقة الأحد.
أتناول إفطاري بنهم، محاولة أن أخفي ضيقي الشديد من ثرثرة هذه التي تدعي أنها زاملتني في حياة ما.
تمتطيني اللهفة، ونحن نلج المكتبة لأبصر بالمجلة التي خلت أني أضعتها. وددت أن أعدو إليها لأحضنها. أفاجأ بيد تسبقني إليها، وصاحبتها تقول لي أن انتظارها طيلة هذه السنين، وخروجها في هذا الجو البارد لصبيحة الأحد كانا بفائدة عظيمة. كتمت غبني وأنا أجول بناظري في الرفوف المجاورة عليّ أصادف نسخة لكن عبثاً. سألت عاملاً هناك عن نسخة أخرى فاعتذر أن تلك المجلة عملة نادرة، اشتروها بثمن مرتفع من أحدهم. خمنت أنها ربما نسختي التي بيعت و تعاود الإفلات من بين يدي.
أردت أن أودع زميلتي التي ادعت أن اسمها رشيدة وأننا كنا زميلتين في يوم ما، لكني لم أجدها أمامي، خمنت أنها أحسنت ترجمة نظراتي الشرسة على المجلة التي أخذتها عنوة مني وخشيت أن تفقدها إن ظلت معي، حيلة أو غصباً.
انصرفت مهرولة أسابق الموت الذي جعل بيت جدتي هدفه.
صمتهم ينبئني أنهم ينتظرون الموت كما خالتنا المشتركة نفيسة. أتذكر عدد الرجال الذين أخلفوا مواعيدهم معي، أتساءل إن كان الموت عاشقاً وفياً لها، و إلا فستصاب المسكينة بإحراج شديد كحال عروس يفر عريسها ليلة دخلتها.
أقبل رشيدة التي بدت شاحبة تلتقط أنفاسها، أحسست ببرودة خدها مثلي تماماً، توقعت أنها وصلت لتوها مباشرة بعد أن بعثت لي برسالة قصية تخبرني أن خالتنا المشتركة نفيسة تحتضر. كانت غارقة في تصفح مجلة تسمرت عيناي عليها غير مصدقة. أتراوغني الأقدار كل هذه المراوغة الجميلة لأعثر على نسختي هنا في بيت الموت؟
هممت بأن آخذها منها بيد أنها تشبثت بها بقوة مصرة على إتمام قصيدة كانت قد نشرت لها باسم مستعار كما قالت، سالومي.
تذكرت حافية القدمين وفتنتها، ليس هناك من نقاط تشابه بين المشبه والمشبه به.
أسألها وبداية غضب عاصف يدنو من حدود صبري أين وجدت نسختي. قالت ببرود كأنما لتتخلص مني أنها وجدتها هذا الصباح في مكتبة جدتنا.
جدتنا تملك مكتبة جميلة، تضم خمسة مصاحف وألبوم صور يؤرخ لحياتها العامرة. أبحث عنها فلا أجدها. أسأل أول من صادفت من أقربائي بعدما قبلته دون أن أذكر اسمه أو تاريخ انتسابه للعائلة. ينظر إلي باستغراب مستنكراً ذنبي العظيم أنني لا أذكر أن جدتي ماتت منذ مدة طويلة. رفعت حاجبيّ مستغربة أن أمراً كهذا فاتني. أتذكر ملامح وجهها الناتئ. عيناها الصافيتين، شعرها الأحمر القصير. انطفأت كل الأشياء أمامي بغتة، وبرز وجهها واضحاً صافياً. كانت تبتسم لي بدعة. أصابتني ملامحها بالتخمة. أود أن أمر إلى شيء آخر بيد أني عجزت عن ذلك إذ ظلت تلح علي. أحاول عبثاً أن أفتح عيني. صارعت نوماً مفاجئاً ألح علي. أعلم أن اليوم أحد، وأن الفصل شتاء وربما هناك ثلج، وكنت أكره الآحاد جداً، لكني أصررت على قتل نومي. أفتح عيني لأكتشف وجوهاً كثيرة تحفني بالنظرات. أتعرف على وجه وحيد من بينها كلها، كان وجه جدتي يبتسم لي بدعة. كانت طاعنة في السن، وكانت تملك مكتبة جميلة، تضم خمسة مصاحف وألبوم صور يؤرخ لحياتها العامرة، ونسخة من مجلة هي بيد حافية القدمين رشيدة، كنت قد نشرت بها باسم مستعار، عاشقة الأحد.
عبدالسلام المودني.