الفصل الأول
مدخل
إذا كان مفهوم العبقرية الفنية قد ارتبط في أذهان كثير من النقاد والدارسين بسمات معينة ، تجعل من الإنسان الموهوب والسائر على طريق العبقرية مثلا للفنان الناجح ، وإذا كانت شخصية الفنان قديما وحديثا قد ارتبطت باحساسات وارها فات معينة ، فهل يعني ذلك إمكانية الحكم على الشخصية سيعطي دلالات أخرى غير تلك التي تؤخذ من معين العمل الأدبي الخالص ؟
لقد ذاعت لدى العرب منذ وقت مبكر فكرة تزعم أن لكل شاعر شيطانا يوحي إليه الشعر ، وهذا ما ورد على لسان شاعر :
إني وكل شاعر من البشر شيطانه أنثى وشيطاني ذك
بهذا تمايزت شخصية الفنان الشاعر عن بقية الناس ، بهذا الربط العجيب ، بل ذهب بعضهم إلى أبعد من هذا ، إذ أعتقد أن الشاعر لا بد أن من أن يصاب بمس من الجنون ، وإن كان هذا الوصف لا يعني الجنون العقلي بقدر ما يعني القدرة على الإبداع ، وتحدث علماء التحليل النفسي عن العلاقة السببية بين مرض الفنان روحيا ومقدرته الإبداعية ؛ ذلك أن هناك فكرة قديمة متأصلة تقول : أن الحصول على المقدرة لا يكون إلا بالمعاناة ، ويقول " ترلنج" : إن العقل في المراحل الحضارية الراقية نسبيا يبدو أنه أخذ في بساطة بالاعتقاد في أن الألم والتضحية يرتبطان بالقوة
وإذا كان مجال الشعر هو الشعور ، ولغته هي العاطفة ، فهل على كل شاعر أن يكون في عمله الفني ثائر الشعور ومتقد العاطفة ؟ وإذا كان الشاعر هو الأقدر بين الفنانين على صياغة تجاربه الذاتية ، فهل يعني ذلك توفر نسب من النرجسية في عمله الأدبي ؟ أو توفر خصائص عصابية تقف خلف هذا الأثر المبدع ؟
تساؤلات شتى ، تثيرها الدراسات النفسية حول شخصية الفنان وحول نفسيته وحول طبيعة نشأته وإبداعه ، سأعرض لها ، لكن بعيدا عن الأحكام المسبقة والنتائج الأولية المستقاة من حقل الدراسات النفسية .
لدي سيرة الشاعرة ، فدوى طوقان ، سأسير معها منذ الولاة ، صاعدا مع الخط الزمني الصاعد عبر الرحلة الصعبة ، فالرحلة الأصعب ؛ لأدرس هذه الشخصية منذ طفولتها ، متناولا نفسيتها وعلاقاتها الاجتماعية وتصوراتها الدينية والسياسية والفكرية .
فدوى والشعر
على الرغم من أن فدوى تلقت دروسها الأولى في الشعر على يد أخيها إبراهيم طوقان ، وعلى الرغم من أن بصمات واضحة بقيت تلون |أبيات شعرها –في المرحلة الأولى – من أثر المعلم الأول ، غلا أن ذلك كله لا يلغي موهبتها الذاتية وحساسيتها المرهفة ورقة إنسانيتها وكلها مؤهلات تقرب الإنسان من عالم الشعر والشعراء .
ولعلنا مدعوون –هنا- اسحب اعتراف من الشاعرة نفسها حول تجربتها الشعرية ، ولعلنا نستأنس ،هنا بما نقله شاكر بدر عن حياة الشاعرة ، فقد أورد لها نصا تقول فيه :
" ولدت في بلدة محافظة جدا ، لا يوجد فيها قيمة تذكر للمرأة ، هكذا كانت الحالة سائدة في مدينتي ، عشت طوال حياتي أقاوم التقاليد الرجالية التي لا تتوفر على أي اعتبار للمرأة ، حرمت من دراستي في المدرسة الابتدائية وفرضت علي الإقامة الجبرية لأعيش في قمقم حريمي يسوده جهل مطلق ، وكنت أتعذب من حرماني من المدرسة وأتساءل على الدوام كيف أفلت من هذا القمقم ؟ كان لي أخ شاعر تخرج من الجامعة الأمريكية في بيروت كان منفتح العقل والقلب ، للمرأة قيمة كبيرة يتعامل مع إنسانيتها بكل حب واحترام ، هذا الأخ هو الذي أخرجني من الجحيم وأخذ بيدي في بداية مسيرتي الشعرية "
هذا المقطع يشير إلى حقيقة الدوافع والمؤثرات التي وجهت شاعرية فدوى ، وما كان إبراهيم لها سوى أداة الربط التي ربطت الشاعرة بالشعر ، فالشعر هو الحل الوحيد الذي وجدت فيه الشاعرة انعتاقا من عالم القيود . وإذا كان القمقم الحريمي والتسلط هو الدافع وراء هذ التوجه ، فأن طبيعة هذا التوجه الشعري ستتحدد من خلال تلك الدوافع وهنا تكمن أهمية السيرة الذاتية حين تعيد النظر في بعض التفسيرات الشعرية التي كانت تحتاج إلى تعليل أكثر من مجرد إبراز الجانب اللغوي ، فجاءت السيرة لتقول الكثير عن أبعاد بعض تلك الإيحاءات الشعرية ،فالظلم والحرمان مثلا فجرا لديها شعورا بضرورة تحقيق الذات ، ومن هنا كانت القصيدة الوجدانية ، أما الأب القاسي فقد ولد شعورا بضرورة البحث عن الرجل الحاني ، وقد تمثل في بداية الأمر في إبراهيم ، ثم في بعض الشعراء والأدباء الذين عرفتهم الشاعرة أو أحبتهم ، فكان شعر الحب والصداقة ، ولعل هذه المؤثرات الأولية عملت بشكل مباشر طبيعة التطور في تجربة الشاعرة الشعرية ، ولعل مسارعة الشاعرة في ترك النسق القديم ن وتبني شعر التفعيلة الذي يحتوي على قدر أكبر من الحرية هو إحدى تلك المؤثرات المشار إليها سابقا ، وللسبب نفسه تاثرت الشاعرة بكتابات مندور حول الشعر المهجري ، وللطريقة نفسها لم تدم نصيحة إبراهيم الذي نصحها بالابتعاد عن الشعراء المحدثين ، وبنفس الطريقة ومن منطلق المؤثرات الاجتماعية تتحدث الشاعرة عن الحب قائلة :
" في مرحلتي الأولى كنت متعطشة للحب وسط أسرة لا تحبني ، وكان ابن الجيران كلما خرجت إلى المدرسة يقتفي خطواتي وهكذا يفعل في طريق العودة ، لم يكن عمري قد تجاوز حينها اثني عشر حولا ، وقد حدث أن بعث لي ذلك الفتى زهرة فل في منديل مع أحد الصبيان ، شعرت يومها بالسعادة ، فلأول مرة أحسست بأن هناك من يحبني ، لم أكن أفهم الحب ولم أكن أفقه معنى تلك الفرحة " .
ما أريد قوله من خلال هذه المقتطفات التي استقيتها من خلال اعترافات الشاعرة نفسها حول التجربة الشعرية : هو أن القاعدة المركزية التي وجهت نظرة الشاعرة وفلسفتها الشعرية قد انبثقت من توجهات معينة ، فرضتها ظروف معينة ، اجتماعية المظهر ، وبقيت هذه الظروف هي المسيطرة على طبيعة الإنتاج الشعري لفدوى طوقان حتى مرحلة متأخرة ، أي حتى جاءت ظروف أقوى من الظروف السابقة فعصفت بها وتحولت بالمسار الشعري نحو القصيدة الوطنية .
ومن أجل محاولة رصد بعض الدلالات المنبثقة عن تلك المؤثرات ، أجدني مضطرا إلى حصر الموضوع في ثلاث نقاط أساسية وهي :
1- الذات والآخر في شعرها .
2- موضوعات الموت والرثاء في شعرها
3- فدوى وشعر المقاومة
والعلة في هذا الحصر ترجع إلى عدة أمور منها :
1- أن موضوع الشعر – عند فدوى طوقان _ قد تنول من كثير من الكتاب ، فلا داعي لتكرار ما كتبوه .
2- أن هذه النقاط هي أهم النقاط التي أود أن أخضعها لمجال النقد الذي تبنيته في هذا الفصل ، وهو إمكانية دراسة عمل الأديب من خلال سيرته الذاتية ، ولعل هذه النقاط الثلاثة قد وجدت لها حيزا لا بأس به بين سطور السيرة الذاتية ، فعن الحب تحدثت الشاعرة عبر صفحات طوال ، عن تجاربها المتعددة في فلسطين وغيرها ، مع العرب وغيرهم . وبين الذات والآخر قامت السيرة وتطورت ؛ فالسيرة في مجملها محاولة لإعادة بناء الذات المسحوقة في جولات كثيرة مع الآخر " الرجل " أو مع ابلآخر " المجتمع " أو الأوروبي أو اليهودي .
أما الرثاء فهو موضوع آخر كان لفدوى باع طويل فيه ، منذ رحيل أخيها " إبراهيم ، بل قل منذ .فجيعتها بموت عمها ثم صديقتها علياء ثم إبراهيم وأبيها وانتهاء بنمر ، مرورا بالشهداء والزعماء . إذن فالرثاء عندها متعمق جدا وقد ولد لديها عقدة قد نسميها " عقدة الموت " ، فلعلي أجد بين سطور السيرة ما يشكل دلالة حقيقية على هذه العقدة ، لأعلل بحق ما استحقته الشاعرة من تسميتها خنساء القرن العشرين ، والشعر الوطني هو موضوع سيرة الشاعرة الثانية " الرحلة الأصعب " ، ففيها تحكى
( يتبع )