أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: فصول نقدية مع الشاعرة فدوى طوقان-الحلقة الاولى ( منقول )

  1. #1
    قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Jul 2004
    الدولة : غزة فلسطين
    العمر : 72
    المشاركات : 2,005
    المواضيع : 323
    الردود : 2005
    المعدل اليومي : 0.28

    افتراضي فصول نقدية مع الشاعرة فدوى طوقان-الحلقة الاولى ( منقول )

    الفصل الأول
    مدخل
    إذا كان مفهوم العبقرية الفنية قد ارتبط في أذهان كثير من النقاد والدارسين بسمات معينة ، تجعل من الإنسان الموهوب والسائر على طريق العبقرية مثلا للفنان الناجح ، وإذا كانت شخصية الفنان قديما وحديثا قد ارتبطت باحساسات وارها فات معينة ، فهل يعني ذلك إمكانية الحكم على الشخصية سيعطي دلالات أخرى غير تلك التي تؤخذ من معين العمل الأدبي الخالص ؟
    لقد ذاعت لدى العرب منذ وقت مبكر فكرة تزعم أن لكل شاعر شيطانا يوحي إليه الشعر ، وهذا ما ورد على لسان شاعر :
    إني وكل شاعر من البشر شيطانه أنثى وشيطاني ذك
    بهذا تمايزت شخصية الفنان الشاعر عن بقية الناس ، بهذا الربط العجيب ، بل ذهب بعضهم إلى أبعد من هذا ، إذ أعتقد أن الشاعر لا بد أن من أن يصاب بمس من الجنون ، وإن كان هذا الوصف لا يعني الجنون العقلي بقدر ما يعني القدرة على الإبداع ، وتحدث علماء التحليل النفسي عن العلاقة السببية بين مرض الفنان روحيا ومقدرته الإبداعية ؛ ذلك أن هناك فكرة قديمة متأصلة تقول : أن الحصول على المقدرة لا يكون إلا بالمعاناة ، ويقول " ترلنج" : إن العقل في المراحل الحضارية الراقية نسبيا يبدو أنه أخذ في بساطة بالاعتقاد في أن الألم والتضحية يرتبطان بالقوة
    وإذا كان مجال الشعر هو الشعور ، ولغته هي العاطفة ، فهل على كل شاعر أن يكون في عمله الفني ثائر الشعور ومتقد العاطفة ؟ وإذا كان الشاعر هو الأقدر بين الفنانين على صياغة تجاربه الذاتية ، فهل يعني ذلك توفر نسب من النرجسية في عمله الأدبي ؟ أو توفر خصائص عصابية تقف خلف هذا الأثر المبدع ؟
    تساؤلات شتى ، تثيرها الدراسات النفسية حول شخصية الفنان وحول نفسيته وحول طبيعة نشأته وإبداعه ، سأعرض لها ، لكن بعيدا عن الأحكام المسبقة والنتائج الأولية المستقاة من حقل الدراسات النفسية .
    لدي سيرة الشاعرة ، فدوى طوقان ، سأسير معها منذ الولاة ، صاعدا مع الخط الزمني الصاعد عبر الرحلة الصعبة ، فالرحلة الأصعب ؛ لأدرس هذه الشخصية منذ طفولتها ، متناولا نفسيتها وعلاقاتها الاجتماعية وتصوراتها الدينية والسياسية والفكرية .
    فدوى والشعر
    على الرغم من أن فدوى تلقت دروسها الأولى في الشعر على يد أخيها إبراهيم طوقان ، وعلى الرغم من أن بصمات واضحة بقيت تلون |أبيات شعرها –في المرحلة الأولى – من أثر المعلم الأول ، غلا أن ذلك كله لا يلغي موهبتها الذاتية وحساسيتها المرهفة ورقة إنسانيتها وكلها مؤهلات تقرب الإنسان من عالم الشعر والشعراء .
    ولعلنا مدعوون –هنا- اسحب اعتراف من الشاعرة نفسها حول تجربتها الشعرية ، ولعلنا نستأنس ،هنا بما نقله شاكر بدر عن حياة الشاعرة ، فقد أورد لها نصا تقول فيه :
    " ولدت في بلدة محافظة جدا ، لا يوجد فيها قيمة تذكر للمرأة ، هكذا كانت الحالة سائدة في مدينتي ، عشت طوال حياتي أقاوم التقاليد الرجالية التي لا تتوفر على أي اعتبار للمرأة ، حرمت من دراستي في المدرسة الابتدائية وفرضت علي الإقامة الجبرية لأعيش في قمقم حريمي يسوده جهل مطلق ، وكنت أتعذب من حرماني من المدرسة وأتساءل على الدوام كيف أفلت من هذا القمقم ؟ كان لي أخ شاعر تخرج من الجامعة الأمريكية في بيروت كان منفتح العقل والقلب ، للمرأة قيمة كبيرة يتعامل مع إنسانيتها بكل حب واحترام ، هذا الأخ هو الذي أخرجني من الجحيم وأخذ بيدي في بداية مسيرتي الشعرية "
    هذا المقطع يشير إلى حقيقة الدوافع والمؤثرات التي وجهت شاعرية فدوى ، وما كان إبراهيم لها سوى أداة الربط التي ربطت الشاعرة بالشعر ، فالشعر هو الحل الوحيد الذي وجدت فيه الشاعرة انعتاقا من عالم القيود . وإذا كان القمقم الحريمي والتسلط هو الدافع وراء هذ التوجه ، فأن طبيعة هذا التوجه الشعري ستتحدد من خلال تلك الدوافع وهنا تكمن أهمية السيرة الذاتية حين تعيد النظر في بعض التفسيرات الشعرية التي كانت تحتاج إلى تعليل أكثر من مجرد إبراز الجانب اللغوي ، فجاءت السيرة لتقول الكثير عن أبعاد بعض تلك الإيحاءات الشعرية ،فالظلم والحرمان مثلا فجرا لديها شعورا بضرورة تحقيق الذات ، ومن هنا كانت القصيدة الوجدانية ، أما الأب القاسي فقد ولد شعورا بضرورة البحث عن الرجل الحاني ، وقد تمثل في بداية الأمر في إبراهيم ، ثم في بعض الشعراء والأدباء الذين عرفتهم الشاعرة أو أحبتهم ، فكان شعر الحب والصداقة ، ولعل هذه المؤثرات الأولية عملت بشكل مباشر طبيعة التطور في تجربة الشاعرة الشعرية ، ولعل مسارعة الشاعرة في ترك النسق القديم ن وتبني شعر التفعيلة الذي يحتوي على قدر أكبر من الحرية هو إحدى تلك المؤثرات المشار إليها سابقا ، وللسبب نفسه تاثرت الشاعرة بكتابات مندور حول الشعر المهجري ، وللطريقة نفسها لم تدم نصيحة إبراهيم الذي نصحها بالابتعاد عن الشعراء المحدثين ، وبنفس الطريقة ومن منطلق المؤثرات الاجتماعية تتحدث الشاعرة عن الحب قائلة :
    " في مرحلتي الأولى كنت متعطشة للحب وسط أسرة لا تحبني ، وكان ابن الجيران كلما خرجت إلى المدرسة يقتفي خطواتي وهكذا يفعل في طريق العودة ، لم يكن عمري قد تجاوز حينها اثني عشر حولا ، وقد حدث أن بعث لي ذلك الفتى زهرة فل في منديل مع أحد الصبيان ، شعرت يومها بالسعادة ، فلأول مرة أحسست بأن هناك من يحبني ، لم أكن أفهم الحب ولم أكن أفقه معنى تلك الفرحة " .
    ما أريد قوله من خلال هذه المقتطفات التي استقيتها من خلال اعترافات الشاعرة نفسها حول التجربة الشعرية : هو أن القاعدة المركزية التي وجهت نظرة الشاعرة وفلسفتها الشعرية قد انبثقت من توجهات معينة ، فرضتها ظروف معينة ، اجتماعية المظهر ، وبقيت هذه الظروف هي المسيطرة على طبيعة الإنتاج الشعري لفدوى طوقان حتى مرحلة متأخرة ، أي حتى جاءت ظروف أقوى من الظروف السابقة فعصفت بها وتحولت بالمسار الشعري نحو القصيدة الوطنية .
    ومن أجل محاولة رصد بعض الدلالات المنبثقة عن تلك المؤثرات ، أجدني مضطرا إلى حصر الموضوع في ثلاث نقاط أساسية وهي :
    1- الذات والآخر في شعرها .
    2- موضوعات الموت والرثاء في شعرها
    3- فدوى وشعر المقاومة
    والعلة في هذا الحصر ترجع إلى عدة أمور منها :
    1- أن موضوع الشعر – عند فدوى طوقان _ قد تنول من كثير من الكتاب ، فلا داعي لتكرار ما كتبوه .
    2- أن هذه النقاط هي أهم النقاط التي أود أن أخضعها لمجال النقد الذي تبنيته في هذا الفصل ، وهو إمكانية دراسة عمل الأديب من خلال سيرته الذاتية ، ولعل هذه النقاط الثلاثة قد وجدت لها حيزا لا بأس به بين سطور السيرة الذاتية ، فعن الحب تحدثت الشاعرة عبر صفحات طوال ، عن تجاربها المتعددة في فلسطين وغيرها ، مع العرب وغيرهم . وبين الذات والآخر قامت السيرة وتطورت ؛ فالسيرة في مجملها محاولة لإعادة بناء الذات المسحوقة في جولات كثيرة مع الآخر " الرجل " أو مع ابلآخر " المجتمع " أو الأوروبي أو اليهودي .
    أما الرثاء فهو موضوع آخر كان لفدوى باع طويل فيه ، منذ رحيل أخيها " إبراهيم ، بل قل منذ .فجيعتها بموت عمها ثم صديقتها علياء ثم إبراهيم وأبيها وانتهاء بنمر ، مرورا بالشهداء والزعماء . إذن فالرثاء عندها متعمق جدا وقد ولد لديها عقدة قد نسميها " عقدة الموت " ، فلعلي أجد بين سطور السيرة ما يشكل دلالة حقيقية على هذه العقدة ، لأعلل بحق ما استحقته الشاعرة من تسميتها خنساء القرن العشرين ، والشعر الوطني هو موضوع سيرة الشاعرة الثانية " الرحلة الأصعب " ، ففيها تحكى

    ( يتبع )
    اللهم يا من تعلم السِّرَّ منّا لا تكشف السترَ عنّا وكن معنا حيث كنّا ورضِّنا وارضَ عنّا وعافنا واعفُ عنّا واغفر لنا وارحمنا

  2. #2
    قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Jul 2004
    الدولة : غزة فلسطين
    العمر : 72
    المشاركات : 2,005
    المواضيع : 323
    الردود : 2005
    المعدل اليومي : 0.28

    افتراضي

    الذات والآخر
    ليس غريبا أن تبدأ الشاعرة رحلتها الشعرية الأولى من ذاتها × الذات المعذبة ، الذات المسحوقة بين جدران القهر والتسلط، على الرغم من أول قصيدة كتبتها الشاعرة دون أخطاء نحوية وعروضية كانت موجهة إلى الشاعرة العراقية رباب الكاظمي ، ابنة الشاعر العراقي المعروف ؛ إلا أن الذات كانت هي موضوع الشعر الأساسي الذي بدأت به الشاعرة تجربتها الحقيقية، بعد أن تخلصت من مرحلة التدريب التي بداتها لمعارضة بعض الشعراء ، وعن تلك المرحلة تقول الشاعرة:
    "كان ابن الرومي من أوائل الشعراء الذين أحببتهم ؛ فمنذ أن اختار ابراهيم قصيدته الدالية في رثاء ابنه الأوسط لأحفظها ، شدني إلى هذا الشاعر حزنه ورقة شعوره وعاطفته المسرفة ... وكانت أول قصيدة نشرت لي في الصحف تنهج نهج تلك المرثاة وزنا وقافية وعاطفة ، كان عنوان القصيدة " اشواق إلى إبراهيم" ، أو شيئا من هذا القبيل ، وكما قال ابن الرومي :
    بكاؤكم يشفي وإن كـان لا يجدي
    فجودا فقد أودى نظيركما عندي
    قلت وأنا أتشوق إلى إبراهيم:
    لقد زاد في قلبي اشتياقي من البعد
    فلعل عند إبراهيم مثل الذي عندي
    هذه الجذور التي تحدثت عنها الشاعرة في السيرة تشكل البدايات التعليمية ، أما الإنتاج الشعري الخالص – بعد المرحلة التعليمية – فقد تمثل في دواوين الشاعرة التي صدرت مع بداية الخمسينات .
    وحينما يبدأ الدارس في قراءة ديوان الشاعرة الأول " وحدي مع الأيام" يجد أن الشاعرة قد تخلصت من مرحلة التعليم ، وبدأت في تسطير تجربة الشعر الذاتي ، وحين نصل إلى هذه النقطة ؛ قضية الذات في شعر الشاعرة ، نلتقي مع بعض الدارسين الذين استوقفتهم هذه الظاهرة ، وهؤلاء الدارسون –على اختلاف مذاهبهم- لم يعطونا أجوبة شافية حول هذه الذاتية الضيقة في أشعا الشاعرة .
    وأستطيع أن أشير هنا إلى دراسة الدكتور إبراهيم خليل " الشعر المعاصر في الأردن " ، فهو يقدم دراسة ناقصة عن فدوى طوقان حين يتساءل عن تلك العوامل الخارجية التي دفعت بالشاعرة إلى سلوك ذلك المسلك وحين يعوزه الدليل ، يفترض أو يرجح أن تكون وفاة إبراهيم وراء تلك السوداوية ، وأستطيع أن أشير كذلك إلى دراسة شاكر النابلسي ، حين توقع أن يجد للقصائد الوطنية صدا مميزا بين صفحات دواوين الشاعرة التي عرض لها في دراسته .
    ولعل الصدور المبكر لهذه الدراسات لم يعط الدارسين إمكانية كافية لتعليل الظواهر الغريبة في شعر فدوى ، وهنا تكمن أهمية السيرة ، حين تمكن الدارس من تجاوز هذه السدود ، ووضع النقاط على الحروف دون الرجمع إلى فرضيات قد تكون أبعد ما يكون عن الحقيقة .
    وإذا كانت هذه الذاتية قد استغرقت مرحلة طويلة من إنتاج الشاعرة ، أي منذ ديوانها الأول " وحدي مع الأيام " حتى ديوانها الخامس " الليل والفرسان " ، وإذا كانت هذه الذاتية قد تركزت في ديوانها الأول ، فأن إعادة النظر في قصائد هذا الديوان ، اعتمادا على السيرة ، ستمكن الباحث من العثور على نتائج مرضية في هذا المجال .
    وحين يبدأ الدارس في قراءة بعض الأبيات الشعرية لقصائد ذلك الديوان من مثل قصيدة " خريف ومساء أو " مع المروج " أو " الشاعرة والفراشة " يتبادر إلى الذهن موقف الشاعرة من الطبيعة ، وقد تغريه هذه المصادفة للحكم على الشاعرة بأنها شاعرة رومانتيكية ، وقد يحاول تأكيد ذلك حين يعلم أن الشاعرة قد تأثرت ببعض الشعراء الرومانتيكيين ، وهذا ما فعله الكثير من الدارسين ، حين نظروا على شعر الطبيعة على أنه ظاهرة من ظواهر الرومانتيكية ، ومع أن صورة القلق والفزع والشعور بالمرارة والضياع لم تغب عن أذهان هؤلاء الدارسين ، إلا أن السؤال الذي يحتاج إلى الإجابة يبقى قائما ، لماذا هذه السوداوية والأحزان؟ لماذا الجهامة والفزع والحيرة ؟ وقد حاول بعض الدارسين الإجابة على تلك الأسئلة ، فعللوا ذلك بأن الطبيعة –للشاعرة – كانت مهربا تحتمي به من مؤثرات خارجية ، ولعل في هذا التنبؤ محاولة لحل اللغز ، ولكنها محاولة ناقصة ن ولعل السيرة ستعيننا إعانة شافية لحل هذا اللغز.
    بعد أن تعرفنا في الفصل الأول على شخصية الشاعرة ونفسيتها وطفولتها ، نستطيع أن نهتدي إلى سر هذا اللتقاء؛فالهروب من الواقع القهري هو ردة الفعل الأولى التي لجأت إليها الشاعرة من أجل إعادة الاعتبار إلى تلك الذات المسحوقة وهناك –بعيدا عن الجو الأثري – كانت تشعر بالحياة والحرية والانطلاق ، كانت تنعت من قوانين السلطات العليا ، قوانين الأمر والنهي ؛ فالطبيعة هي المعادل للضغط الأسري.
    والجانب الآخر الذي استطاعت من خلاله أن تلملم أطرافها الضائعة من خلال الأحلام المشوقة ، والنظرات المسروقة ، ولقد نشأت أواصر صداقة حميمة بيني وبين أشجار تلك المنطقة وممراتها الضيقة ومنعطفاتها الرطبة ، فعايشتها كلها بألفة وحب عميقين ، معها كنت أحس بالفرح الحقيقي ، وكل شيء كان يثير دهشتي ، وكل شئ كان جديد بالنسبة لعيني وخيالي ، باعثا في أعماقي نشوة طازجة " ، وتظهر هذه النشوة والتعلق بالطبيعة في مثل قول الشاعرة :
    هي يا مروج السفح مثلك إنها بنت الجبال
    " جرزيم " روى قلبها وسقاه من خمر الخيال
    درجت على السفح الخضير ، على المنابع والظلال
    روحا تفتح للطبيعة ، للطلاقة ، للجمال
    ولعل الدروج على السفح الخضير والتمتع بالمنابع والظلال من ذكريات فدوى الطفولية التي عاشتها مع علياء بنت الجارة ، وعلياء هي التي عرفت الشاعرة على المباهج الموسمية والأفراح الاجتماعية ، وهذا يشير إلى أن ديوان " وحدي مع الأيام " لا يمثل محلة الخمسينات التي ظهر فيها الديوان فقط ، بل يمتد ليشمل مراحل الطفولة الأولى ؛ لذا جاء مكتنزا بالمعطيات النفسية والأحلام الطفولية ، ومن هذه الناحية يصلح أن يكون مجالا لتطبيق السيرة الذاتية عليه ؛ لأن الجزء الأول من السيرة الذاتية تناول هذه المرحلة تناولا جيدا.
    أما التحليق في عالم الأخيلة ، بعيدا عن البشر ؛ فهذا أمر تفسره السيرة ؛ ففدوى لم تكن براضية عن حياتها الاجتماعية مع والديها ، وكانت ترى فيهما سببا لتعاستها ، ولطالما فكرت في الانتحار ، وحينما يتعذر ذلك تلجأ إلى الشعر ؛ أي العزلة الفكرية بين الكتب والأشعار :
    كم رحت استوحي الصفاء ، رؤى خيالاتي النقية
    فتضمني في نعسة الإلهام أجنحة خفية
    تسمو بروحي فوق دنيا الناس ، فوق الآدمية
    وبقدر ما اكتست هذه التجربة الشعرية من سوداوية ، اكتست بالأمل والأحلام المشرقة ، وبدأت معركتها ضد الظلم الأسري بإرادة قوية ، وعزيمة فتاكة ، ورفضت أن تموت كما كانت تموت المثيلات لفدوى:

    ذاك جسمي تأكل الأيام منه والليالي
    وغدا تلقى إلى التبر بقاياه الغوالي
    وحتى هذه الأبيات فهي تذكرنا بنص ورد في السيرة :
    " كان الواقع المعاش في ذلك القمقم الحريمي مذلا مهينا ؛ حيث تعيش الإناث وجودها الهزيل القاتم ، كنت ألتفت حولي فلا أرى إلا ضحايا بلا شخصية ، بلا كيان مستقل ، يقبعن في بيت يتعجل فيه الرجل شيخوخة أخواته وبنات عمه ، متخذا من القهر وسيلة لذلك التعجيل ، ضحايا لم أعرفهن إلا عجائز، عجزت الواحدة منهن منذ الخامسة والعشرين من عمرها ، لم أعرفهن إلا في ثياب التبتل والتقشف ، يغطي شعرهن المنديل الأبيض فيما هن قعيدات الجدران المحيطة ، ليس لهن صديقات ، ليس لهن حياة خاصة ، صبايا بشعر شائب ووجوه جعدها الكتب قبل الأوان"
    هذا اللون القاتم من العيشة ما كان ليرضي الشاعرة ، فكان الخوف والتوجس ؛ لأن النظام الدكتاتورية –في رأيها – القائم في أسرتها سيلزمها بشيء من هذا ، لكن الشاعرة ترفض أن تكون هذه الحالة أزلية :
    سيعود الروض للنضرة والخصب
    سيعود النور رفاقا مع الفجر الطري
    ولكن ظاهرة الموت التي أقضت مضجعها ، وضعضعت أيمانها ، وقفت سدا منيعا أمام تلك الأحلام الذهبية :
    غير أني حينما أذوي وتذوي زهراتي
    غير أني حينما يخبو غدا نور حياتي
    كيف بعثي من ذبولي وانطفائي الأبدي ؟!

    لعل قلة إيمانها وبعدها عن دينها أوقعها في هذه الحيرة تشير إلى شيء من ذلك في السيرة نفسها ، حين يتزعزع الإيمان الأرض
    وتمضي تدور بالإنسان وكأنها بلا جواب تصبح الحياة عبئا لا يطاق . .
    وفدوى طوقان تحب الوجود ولكنها تخافه ، لها أمل في المتقبل ولكنها تخشاه ، وفي قصيدة " الشاعرة والفراشة " تسقط الشاعرة احساساتها المتشعبة من حزن وأمل وخوف على تلك الفراشة :
    رنت فتاة الشعر مأخوذة
    بصور الطبيعة الخلابة
    ما أجمل الوجود !!لكنها
    أيقظها من حلو إحساسها
    فراشة تجلدت في الثرى
    تموت في صمت كأن لم تفض
    مسارح الروض بأعراسها
    دنت إليها وانثنت فوقها
    أختاه ، ماذا ؟ هل جفاك الندى
    فمت في أيامك الزاهية ؟
    هل صد عنك الزهر ؟ هل ضيعت
    هواك أتسام الربى اللاهية ؟
    وبرز الجانب القاتم السوداوي والحيرة القاتلة والضياع العجيب في قصيدة " هروب " ، وهي القصيدة السادية من ديوان " وحدي مع الأيام " . ولكن ، هل كانت الشاعرة تعرف المكان الذي ستلجأ إليه ؟ وهل كانت الشاعرة تعرف تلك المؤثرات التي تدفعها إلى العمل الغريب في المجتمع النسوي الفلسطيني ؟ ثم لماذا الهروب هنا ؟ أهو مظهر شكلي من مظاهر الرومانسية ؟ :
    كرهت حقائق دنيا الورى
    وهمت بأوهام دنيا الخيال

    متى يا ابنة الوهم تستيقظين
    متى ينجلي عنك هذا الخيال
    تعيشين في ذهلة الحالمين
    بعيدا بآفاق كون عجيب !
    قفي ، أين تمضين ؟ فيم اندفاعك
    من ذا ترين بأفق الشرود
    قفي ؟ أين تمضين ؟ من ذا ترين
    هناك عبر الفضاء العظيم ؟
    وماذا يشوقك ؟ أم من ينادي
    ويومئ من شرفات السديم؟
    تمر أمامك هذي الحياة
    مواكب مختلفات الرسوم
    فتلوين وجهك لا تنظرين ...
    وفي مقلتيك ظلال الوجوم
    يمكن أن تعتبر هذه قصيدة من قصائد الرومانسية ، ولكن أية رومانسية ؟ إنها رومانسية متعددة الجوانب والظواهر ، رومانسية مرتبطة ارتباطا كاملا بنفسية الشاعرة وشخصيتها ، لها علاقة بالموت والحياة وسرد الوجود ، لها علاقة بالكبت والحرمان ، لها علاقة بالأغلال والقيود مما جنت أيدي الأهل :
    وما هذه ؟ رجفة في كيانك
    مما تشد علية القيود
    تمرد روحك في سجنه
    يريد يحطم تلك السدود
    أما مأساة الشارة النفسية ، ومعركتها مع التقاليد فتلك قضية نستطيع تلمس بعض عواملها في قصيدة " من وراء الجدران " تلك الجدران والتي كانت تشعرها بالظلم ، وتجثم على صدرها بكل ثقل وشموخ ، إذ كانت جدران البيت العالية مصدر إزعاج دائم للشاعرة ، ولطالما اشتهت أن تنام تحت السماء ، لا سقف من فوقها ولا من حولها ولا أقارب بجانبها .
    ولعل الأقارب هنا هم الأكثر إزعاجا ، بل لعل الإزعاج الذي تسببه الجدران والأسقف ، ما هو إلا أثر من آثار ساكنيها ، وهذا ما أبرزته الشاعرة فعلا ، حين ربطت بين علو الجدران وظلم القائمين على بنائها :
    بنته يد الظلم سجنا رهيبا
    لوأد البريئات أمثالية
    وكرت دهور عليه وما زال
    يمثل كاللعنة الباقية
    هذه الجدران ملعونة لأنها حجبت عن الشاعرة حريتها :
    لعنة أحجبتني نور حريتي
    وسدت علي رحاب الفضاء
    وفدوى التي تشعر بواقع الظلم والحرمان ، تعلن التحدي وترفض الرضوخ مهما علت تلك الجدران :
    ورغم شموخك يا مجرمات
    يرن على كل أفق صداه
    لعنة : أخنقي كل حلم ينضر
    قلبي ويغدوه عطرا ونور
    فأحلام قلبي لن تنتهي
    ولو حجبته زوايا القبور !
    وتسيطر على الشاعرة في تلك القصيدة ، تلك الصورة التي عرضتها في السيرة عن الفتيات اللواتي ذبلت أغصانهن اليانعة وهرمت فيهن البراعم ، وغدون جذوعا هامدة ، أو عجائز واهنة :
    ألا كم براعم قلبي نمتها
    لديك هنا لعنات القدر
    ذوت تحت أصفادها وانحنت
    على ذاتها أملا منتحر
    أما سكان هذه الجدران فقد تصلبت مشاعرهم كتلك الجدران :
    وأنت هنا كالألى شيدوك
    أنانية مات فيك الشعور
    وهنا تجدر الإشارة إلى طبيعة التعامل مع حاجات فدوى النفسية فوالدها ما كان يعنيه ما تبحث عنه الشاعرة ، أما الأقارب فقد كانوا أعداء حقيقيين لا تهمهم المشاعر ولا الأمنيات :
    " وازدادت الفجوة النفسية بيني وبين أبي عمقا واتساعا ، كما بدا هذا الحدث في عيون عمتي وأفراد أسرة عمي مثار سخرية بادئ الأمر ثم تحولوا إلى أعداء حقيقيين "

    تجربة الحب :
    وحين ينتقل الدارس إلى تجربة ثانية من تجارب الشاعرة ، وهي الحب ، ينتقل ومعه كل المعطيات السابقة ، أو المؤثرات النفسية والاجتماعية ، والرواسب الطفولية ؛ فقصة الحب الأولى التي لامست قلب الشاعرة لأول مرة من خلال وردة الفل التي أهديت لها من غلام لم تمر في حياة الشاعرة مر الكرام ، بل مرت وحلت معها اللعنة التي وضعت نهاية لكل الأشياء الجميلة في حياتها.
    وإذا كانت فدوى تبدي ميلها الفطري للعزلة ؛ فإن هذه الحادثة جعلتها تقبع داخل الحدود الجغرافية للبيت الأثري القديم ، ولا يجوز إسقاط ذلك التأثير الواضح لتلك الحادثة في التكوين النفسي لطبيعة الشاعرة؛ لذا فقد ارتبط الحب عندها في تلك المرحلة بأبشع الجرائم ، ومن هذا أخذت توقع قصائدها الغرامية المبكرة باسم " دنانير" ، وتبعث بها إلى مجلة الأماني حينا وإلى مجلة الرسالة حينا آخر .
    ولعل ولع الشاعرة بالحياة وعاطفتها القوية نحو الحب ، وردة فعلها الحتمية ، ولدت لديها رغبة جامحة في استقطاب الحب والبحث عنه ، أو الخروب إليه ، ولأن التقاليد لم ترحم تلك العواطف الجامحة ؛ فقد تعملقت هذه العواطف في أعماق الشاعرة ، وأصبحت جزءا من كيانها الذي تدافع عنه ، وهنا فقد كان شعر الحب سلاحا تدافع به عن نفسها وتحقق ذاتها؛ مما حول تلك الضغوط العائلية ن من مجرد تقاليد تدافع عنها الأسرة ، إلى كره حقيقي تجابه به العائلة هذا التألق الشعري الذي تفوقت به الشاعرة في معركة التقاليد على حد تصور الشاعرة.
    وفي الحقيقة ، أن السيرة قد عجزت عن تزويدنا بتجارب حب واضحة عاشتها الشاعرة بل بقيت تلك التجارب خارج نطاق النص المختار في رحلة الشاعرة الصعبة ، خصوصا تلك التي لهل علاقة بالأدباء والشعراء ، ولمسنا أثرها في دواوينها الثلاث الأولى ، ولكنها استطاعت أن تضع لنا -من خلا ل سيرتها- تصورا واضحا للحب في حياتها ؛ فنجدها مثلا تقول:"بالنسبة لي ظل الحب يحمل مفهوما أوسع نطاقا من كونه تأكيدا لأنوثة المرأة ، ظل بالنسبة لي تأكيدا لإنسانيتي المسحوقة ، وإنقاذا لها ، ولقد بقيت طوال عمري مشدودة إلى الحب ، مدفوعة بعاطفة شعرية يصعب توضيحها ، فكما تستجيب الطيور بصورة غير إرادية لاتجاهات المجال المغناطيسي ، في تحديد مجال طيرانها ، كذلك ظلت استجابتي للحب ، وبقي هو الشعلة الأكثر اجتذابا في مجالات الحياة المختلفة .
    وفدوى مع الحب ن تؤمن بتعدد العلاقات وتنوعها ؛ فهي تنهي علاقة لتبدأ أخرى " لا غرابة في أن يحب المرء أكثر من مرة ؛ فمن الشذوذ أن يتجمد شخص الإنسان عند شخص معين طول الحياة. "
    لكن لماذا لم تكتب فدوى عن تجاربها الذاتية مع المحبين من الشعراء والأدباء في السيرة الذاتية ؟ وخصوصا أن هذه التجارب لم تبق في حيز الكتمان ، فقد نشر الناقد رجاء النقاش في كتابه " صفحات مجهولة في الأدب العربي المعاصر " رسائل حب فريدة بين الناقد أنور المعداوي والشاعرة فدوى طوقان ، وأشار كذلك إلى علاقة حب ربطت بين الشاعرة والشاعر المصري إبراهيم محمد نجا . ولعل الإجابة على هذا السؤال تكمن في مناقشة موضوع البوح والبوح العاطفي بالذات لدى المرأة ، وهذا يحتاج إلى جرأة أكبر مما تمتعت به الشاعرة في خطابها النثري ، ولعل هذه القضية –علاقة فدوى بالشعراء الأدباء – بقيت من الأشياء النفسية التي أغلقت الشاعرة عليها غلالتها ولم تفتح لها خزانة أسرارها على مصراعيها ،مع العلم أنها لم تعارض ما نشره النقاش في كتابه " صفحات مجهولة في الأدب العربي " والعلة في عدم اعتراضها أنها لا تعارض – أصلا- ظهور هذه الحقيقة على لسان غيرها ، والدليل على ذلك قولها : " التقت برجاء النقاش في مؤتمر الكتاب الأفريقيين والآسيويين ، حدثني رجاء أنه بصدد أعداد كتاب عن صديقه أنور المعداوي ، وكان أنور قد حدثه عن مراسلاته بيني وبينه ، وطلب مني رجاء أن أزه برسائل كي تلقي الضوء على ما هو بصدده من كتاب عن حياة المعداوي ، ثم قامت حرب حزيران ، وانقطع الاتصال بيننا ، وفي أول سفرة لي إلى لندن ، بعد الاحتلال فكرت أن أبعث تلك الرسائل عن طريق لندن "
    هذه التجارب التي لم تعترف بها الشاعرة في ثنايا السيرة الذاتية ، أشارت إليها شعرا في الدواوين الثلاثة الأولى ، أما حديثها عن تجربة الحب بالمراسلة التي كانت تقع فيه بين الفينة والفينة ، فهذا أمر يحتاج إلى توضيح، ولعل القصائد الشعرية التي مثلت هذه المرحلة ستعين الدارس كثيرا في توسيع رفعة الاعتراف ، وإعطاءها واقعية حقيقة أكثر من مجرد الإشارة السابقة ، ففدوى في القصائد الشعرية – كما نرى – كانت أكثر بوحا وكانت عواطفها أكثر بروزا عما جاءت عليه في السيرة – فيما يخص هذه المرحلة – ذلك الخطاب الشعري يبقى هو الأقدر على احتمال هذا النوع البوحي ، ومن هنا سنحتاج إلى منهج ( ادمندولسون) ثانية كي يعود بنا إلى السيرة من خلال الإضاءات الشعرية .
    من أهم التجارب التي عرفتها الشاعرة مع بداية الخمسينات ، تجربتها مع الشاعر المصري إبراهيم محمد نجا وأن كان قد سبق هذه التجربة ، تجربة أخرى بينها وبين علي محمود طه ، لكن هذه العلاقة الأخيرة لم تعد صورة الإعجاب المتبادل بين الشاعرين ، لذا فهي لم تدم طويلا .
    أما علاقتها مع إبراهيم نجا فقد أثمرت معظم قصائد الحب في ديوان الشاعرة الأول ، فمثلا قصيدة " قصة موعد " كانت أثر محاولة سفر فاشلة ، قامت بها الشاعرة إلى مصر للقاء إبراهيم محمد نجا ، وحين ذهبت إلى الاسكندرية ، ووقفت بالباب ، فإذا بالعنوان الذي تعرفه عنوان لمدرسة كان يدرس فيها الشاعر ، وقد أنهى عمله منها ، فقفلت راجعة ولم يتم ذلك اللقاء ، على أثر ذلك هذه القصيدة :
    هنا في جوانحي الخافقة
    هنا ملء مهجتي العاشقة
    نما أمل العمر يا شاعري
    تغذيه لهفتي الحارقة
    وترويه أشواقي الدافقة
    وراحت مع الأمل المسعد
    ترف بقلبي رؤى الموعد
    وحلم اللقاء ، لقاء الغد
    كانت فدوى تؤمل الكثير على هذه العلاقة ، وقد كشفت الرسائل التي كتبها إبراهيم أبو النجا عن نية حقيقية للزواج بينهما ، بيد أن هذا الزواج لم يتم بسبب أزمة أنهت قصة حب فدوى طوقان وإبراهيم أبو النجا .
    وتظهر في هذه القصيدة فلسفة الشاعرة في الحب ، حين تتناسى الماضي وتنظر بكل أمل إلى المستقبل :
    ورائي تموت ليالي العذاب
    أمامي ترف مجال الهناء
    ونفسي سـكرى بحلم اللقاء
    تشعشع من فرح باللـقاء
    وحين تعود الشاعرة بخفي حنين ، تخرج عن واقعيتها ؛ تخرج أحلامها السارحة في رحلة شرود جديدة:
    وإني وإياك قصة حب
    يخلدها الشعر رغم الفناء
    وفدوى دائما تشعر بعدم الرضا ، وبالفشل المتكرر ، والحظ النحس ؛ وذلك ما حدث فعلا عندما ذهبت للقاء الشاعر فلم تجده ، لتعود فارغة الكفين:
    فما كنت أعلم يا شاعري
    بأن يد القدر الجانية
    تلوح لي برؤى المستحيل
    ونصنع منهن حلمي الجميل
    لتحكم ضربتها القاسية
    وتلهو بمأساتي الدامية
    وهنا ن تصبح الذكريات ، والذكريات الضائعة فقط ، هي المسلي الوحيد للشاعرة :
    هناك على شاطئ كم حواك
    وكم ضم من ذكريات هواك
    وسرعان ما تنتهي تلك الذكريات لتبدأ مأساة سيزيفية جديدة :
    هنا وانتهت قصة المـوعد
    ولا شيء من أملي في يدي
    سوى غصص اليقظة القاسية
    تبدد أحـــــلام أشواقيه
    وتنقض وحشيــة ضاربة
    على قلبي الــتائه المجهد!!
    وبعد هذا كله تبدأ قصة جديدة مع شاعر محارب ، الشاعر كامل أمين ، وقد أثمرت هذه القصة بعض قصائد الديوان الأول ، مثل قصيدة " في سفح عيبال " وقصيدة " هو وهي "
    في القصيدة الأخيرة كان يمكن لفدوى أن تسجل للقارئ تجربة حب حقيقية ، تصارح بها نفسها ، لان إمكانية لقائها مع كامل أمين ، المصري المحارب ، كان يمكن أن تكون قصة حب واقعية ، تحط عندها سفينة أحلام الشاعرة ، لكن يبدو أن طبيعة الشاعرة الانهزامية وخوفها من القيود العائلية ، وسطوة المجتمع الذي لا يغفر للمرأة عواطفها جعلها تسير سيرها السابق وتحلق بعيدا مع أحلامها الضائعة ، وهذا ما بينته السيرة ، فقد تحدثت فدوى عن مراهقتها التي كانت هدفا للجلاد مشيرة إلى أنها ذكرت ذلك الجلاد في قصيدة "هو وهي" وفي كثير من قصائد " وحدي مع الأيام " . من خلال هذه الإشارة بالإضافة إلى معطيات تقدمها الأبيات الشعرية يحصل الدارس على موارد مفيدة لتحديد مفهوم النص الشعري .
    وحين يبدأ الدارس في قراءة القصيدة يشعر بأن التقاليد الصارمة التي كانت تخافها الشاعرة ما زالت تحبك خيوطها ، ولعل ذلك واضح من خلال العنوان ، من خلال استخدام ضمائر الغياب ، ثم في التواري خلف الرمز التقليدي الذي اختارته الشاعرة حين استبدلت اسمها باسم ليلى وكذلك من خلال طبيعة البناء الشعري القائم على استخدام ضمائر الغياب في إدارة الحوارات :
    هي والمصباح والليل وأحلام هواها
    هي تلك الذرة الحيرى التي تاهت خطاها
    في قفار الزمن الجبار، في لا منتهاها
    ذرة ضاعت فما تعرف في الكون اتجاها
    ثم في المقطع الخامس نرى أنها تنتظر من الحبيب أن ينقلها إليه في حلم مشوق فيناديها من بعد :
    أنا من يناديك هل تسمعيني
    أنا من رماني عليك القدر
    أجيبي ندائي أنا من يريدك
    جسما وروحا خيالا وشعر
    وتبقى فدوى تشعر بأن تجارب الحب لا يمكن لها أن تكون أكثر من قصائد شعرية يخلدها التاريخ ، ولعلها تجد في ذلك غصة ، وإن لم تبرز ذلك الآبيات الشعرية:
    قرأتك يا ليل شعرا تفجر
    نــارا مدوحة زافرة
    فأدركت أيــة روح جموح
    وراء أناشيدك الهادرة
    هوى سوف يرويه جيل لجيل
    قصائد حب تعدي العدم
    ويبقى الحبيب في نظرها ، هو المنقذ ، الذي ينقلها إلى عالم السعادة ويخرجها من عالم الأشباح والقيود والأغلال:
    خذني إلى ركن من الأرض
    لم يغش فيه شبح البغض
    لا أعين بسمها تنضح
    فيه ولا ألسنة تجرح
    هناك في الصفاء تبني لنا
    يد الهوى منزلا
    وعلى الرغم من أن فدوى أشارت في بعض المقاطع إلى محاولات كسر القيد والانطلاق إلى عالم البوح ، أو التحدي ، إلا أن هذا الانطلاق -في حقيقة – وهمي تخفف به عن أشواقها المكبوتة ، وتحاول الخروج من أزمتها الضيقة:
    وأخيرا جمعت بينهما قوة حب لا تلين
    قوة أقوى من البعد وجدران السجون
    تحطم الأقفال والأبواب ، تلوي بالقيود
    تغلب السجان ، تدني نحوها كل بعيد
    لذلك انتهت قصة حبها مع كامل ، كما انتهت قصص حبها مع الآخرين ، على الرغم من كل محاولاتها لإظهار عمق هذه العلافة، وقيمتها النفسية لدى الشاعرة ؛ لأن فدوى كانت في حلم دائم حتى في تجاربها الواقعية ، ولعلها كانت تخشى التعمق في علاقاتها وتؤثر في بقاء مسافات آمنة بينها وبين الحبيب ، وهذا ما يعلل سر تجانسها مع الحب " الحب بالمراسلة " ولعل هذا ما يفسر –أيضا – سبب بعد معظم المحبين عنها ، فإبراهيم محمد نجا ، مثلا على الرغم مما بدت العلاقة معه من عمق إلا أن اللقاء بينهما لم يتحقق ، وهذا ما حصل مع المعداوي وعلي محمود طه أيضا حين انتهت علاقتهما مع الشاعرة دون أن يكون لتينك العلاقتين أي تجاوزات يذكر خارج نطاق الإبداع الفني المسطر في المبادلات الشعرية أو النثرية .
    أما ديوان الشاعرة الثاني فهو يمثل تجربة الشاعرة مع الأديب المصري أنور المعداوي ، وقد بدأت هذه العلاقة مع قصيدة " مع لاجئة بالعيد " التي أهدتها إلى المعداوي ، ونشرتها في مجلة الرسالة ، ورد المعداوي على الإهداء بكلمة وجهها إلى فدوى وحياها فيها من أجل هذه القصيدة .
    ثم بدأت المراسلة بينهما ، وكانت الرسالة الأولى المؤرخة بتاريخ 26|9|51 والموقعة بتوقيع أنور المعداوي تمثل بداية هذه العلاقة . وتكثر في هذه الرسالة عبارات التقدير ويطغي عليها البعد الرسمي :
    " ولك يا أختاه مني تقدير اليوم بعد تقدير ألامس مع خالص التحية من الشاكر الذاكر "
    هذه البداية الرقيقة المتواضعة ، علاقة الإعجاب والتقدير ، سرعان ما يتحول في رسائل المعداوي المتقدمة إلى علاقة لها أبعادها العاطفية .
    وتضرب هذه العلاقة جذورها في أعماق الناقد ، وتصبح محاولة الانعتاق من هذه العلاقة –للناقد – آمرا لا يحتمل :
    " عزيزتي فدوى :
    أنا واثق من أنت لم تنسي هذا الإنسان الذي يكتب إليك لأنه هو نفسه لا يستطيع أن ينساك ، منذ أن قال لك ذات يوم :وداعا ، وأنا واثق من أنك قد تساءلت بينك وبين نفسك عن سر انقطاعه عن القراءة منذ أربعة أشهر ...إن من الأشياء العزيزة عليه والتي ظل مؤمنا بها حتى هذه اللحظة ما كان بينك وبينه من صلات الروح "

    ومن خلال هذه الرسالة يتأكد لنا الجانب العاطفي في هذه العلاقة ، في حين يصر المعداوي على تبرير القطيعة التي وقعت بينهما ، ويعيد السبب في ذلك إلى قوة الحب ، ولعل قصيدة " الانفصال " تمثل فترات التقطع والانفصال التي كانت تدور بين الأديبين :
    إلى أين أهرب منك وتهرب مني
    إلى أين أمضي وتمضي
    ونحن نعيش بسجن من العشق
    سجن بنيناه نحن اختيارا
    وروحنا يدا في يد
    نرسخ في الأرض أركانه
    ونعلي ونرفع جدرانه
    من العشق شدناه ، من لبنات الأماني
    ورسم خطوط الغد
    ومن ألف رائحة ألف لون
    من الذكريات
    من العاطفات
    من العبرات بنيناه
    من تفجر ضحكات الهائلة
    إلى أين أهرب منك وتهرب مني
    إلى أين أمضي وتمضي
    ونحن نعيش بسجن
    نحاول منه انعتاقا عسانا
    نلاقي الخلاص كلانا
    إلى أن تخور قوانا
    وننهار عجزا ، وتبقى أمامي
    وأبقى أمامك وجها لوجه
    وفي شفتينا لهاث أوام
    فكيف الفرار حبيبي وأين
    ونحن ندور ونجري ونهرب
    منا إلينا
    سدى ومحال
    سدى لا انعتاق لنا لا انفصال
    محال حبيبي محال
    وحين التقت الشاعرة مع الحب – في تلك المرحلة – حاولت أن تعطيه الكثير الكثير ، لاعتقادها بقوته الفتاكة وقدرته الأكيدة على تحطيم القيود والخروج إلى عالم مثالي ؛ يتفق وتطلعات الشاعرة ، إذ كان الحب لها مهربا تأنس به في فترات الضعف :
    كان لي الحب مهربا أحتمي فيه
    إليه أفر من مأساتي
    كان دنيا في أفقها الرحب استرجع حريتي أحقق ذاتي
    وحين ينحصر مفهوم الحب في هذه الزاوية الضيقة ، " ملجأ تحتمي فيه " ، يصبح الانسلاخ من هذا الملجأ سهلا ، وخصوصا حين لا يستطيع هذا الملجأ تحقيق المأرب المنشود ، ومن هنا نستطيع أن نفهم سر التجدد في العلاقات التي أقامتها الشاعرة مع بعض الأدباء والشعراء ، وسر الإخفاق السريع في هذه العلاقات . ومن هنا نستطيع كذلك أن نفهم دلالة صرخة " أرخميدس " في ديوانها الثاني بعد فشل علاقتها مع إبراهيم أبو النجا ؛ ذلك أن عبارة وجدتها مجرد محاولة للتخفيف من الضغط الاجتماعي واسترداد بعض الجزيئات الضائعة .
    وتظهر قيمة هذا الاستدلال حين ننتقل مسرعين إلى الديوان الثالث " أعطنا حبا " بعد فشل علاقة ثانية مع المعداوي .
    وبعد أن درسنا هذه التجارب نستطيع أن نشير إلى أن تجارب فدوى مع المحبين – من الشعراء والأدباء- تمثل الجانب الهروبي في نفسية الشاعرة ،وتذكرنا بتجارب الشاعرة حين كانت تلتقي مع الطبيعة في ظلالها الوارفة ، وهذا ما تؤكده قصيدة " عام 1957" حين نشيع عامها الفائت دون أسف:
    انتهينا منه ، شيعناه ، لم نأسف عليه
    وحمدنا ظله حين توارى
    دون رجعة
    لم نصعد زفرة خلف خطاه
    لم نرق بين يديه
    دمعة ، أو بعض دمعة
    هذا الانسلاخ من الماضي يمكن تفسيره أنه عملية دوران سيزيفية كتلك التي عرضتا الشاعرة في السيرة ؛ فهي بمجرد تشيع العام الفائت ، تبدل بالصلاة للعام الجديد:
    أعطنا حبا ؛ فنبني العالم المنهار فينا
    من جديد
    وهذه الدورات السيزيفية ، هي التي جعلتها كلما حاولت أن تطمئن إلى لحظة حب لتأنس بها ، وتسعد بطبيعتها ، تخفق وتعود خائبة في مسعاها ؛ وخصوصا كلما اكتشفت أن تجارب الحب تجارب هلامية ، وأن الذين أحبوها إنما فعلوا ذلك لشيء لا علاقة له بأنوثتها أو جمالها :
    " في كل تجارب الحب التي مرت بي ، كنت أحب في كل مرة ، وكأنها المرة الأولى ، لكن كانت هناك غصة في نفسي سببها أن الرجل لا يحبني بشخصي ، وإنما لأنني شاعرة، وأستطيع أن اكتب فيه شعرا . أريد أن يحبني الناس لشخصي ، كيف أعرف؟ ما هي الإمكانية لأعرف ؟ وأتأكد وأثق ، ذهبت إلى إنجلترا ، لم أخبر ذلك الإنجليزي -الذي كان على علاقة إنسانية عميقة معي – أنني شاعرة ، كنت حبه الثاني بعد زوجته وأولاده ، وكان إنسانيا جدا معي ".
    ولعل قصيدة مثل قصيدة "تاريخ كلمة" ، وهي من قصائد ديوان الشاعرة الرابع" أمام الباب المغلق" ، وقد جاءت بعد عمق تجربة ، ومحاولات عديدة لتفريغ الكبت المحموم؛ ستبين خلاصة رأي الشاعرة في مسالة الحب التي استغرقت معظم دواوين المرحلة الشعرية الأولى :
    أحبني الكثير غير أنني
    بقيت عطشى دونما ارتواء
    كأنما الذي بلغته سراب
    سمعتها كثير
    وخلتني أعيشها
    وكنت إنما ، أعيش وهمها الكبير
    وهنا ، لا بد لها أن تنزل كثيرا أو قليلا من علياء الوهم ، لتعود ثانية إلى دورتها السيزيفية لتبحث ثانية عن جديد ، أو تعود إلى قديم ، وهنا تلتقي الشاعرة مع نوع أخر من الهروب ؛ تلتقي مع السفر ؛ علها تجد فيه ما لم تجده في عالم الطبيعة آو الحب العابر.
    وقد تحدثت فدوى عن السفر في سيرتها ، وذكرت أنه محاولة للترويح عن إيقاع الحياة الرتيب ، وبينت أن هذه الفترة –التي قضتها في بريطانيا – كانت فترة مصالحة مع الذات ، ولعلها تقصد بذلك ما تمتعت به من حرية كانت قد افتقدتها بين جدران البيت الحريمي " المقيت" في نابلس ، وهذا الذي جعل جملة حديثها عن بريطانيا يدور حول مفهوم الحرية " ليس هناك أجمل من الشعور بالحرية والتحرر من المنغصات المحبطة ، تلك المنغصات التي يستحيل الفكاك من براثنها إلا بالبعد الجغرافي ، لقد عرفت في إنجلترا فرحة السجين بلحظة الخروج إلى الفضاء والنور ، لا يحس بجمال الحرية وبروعة امتلاكها إلا ألئك الذين حرموا منها ، ما كنت أصدق أنني سأنطلق يوما خارج تلك العلاقات الكئيبة وأقفالها ، كانت أبوابا وراءها أبواب ، وكنت أقبع خلفها أسيرة اليأس الممزق للنفس والروح يملؤني شعور مستمر بأني قد ألقي بي إلى عالم أقوى مني " .
    وعلى الرغم من أن فدوى عبرت عن أيامها في إنجلترا – من خلال سيرتها الذاتية – بأنها أيام جميلة ، مليئة بالأنس والسعادة ، إلا أن تجربتها الشعرية جاءت على عكس ما كنا نتوقع ، وعلى عكس ما جاءت في السيرة ففي قصيدة " أردنية فلسطينية في إنجلترا " وقد بدأتها بالفقرة التقليدية :
    طقس كئيب ، وسماؤنا دوما ضبابية
    من أين ؟ أسبانية
    كلا!
    أنا من ......من الأردن
    عفوا من الأردن ؟ لا أفهم
    أنا من روابي القدس
    وطن السنا والشمس
    يا ، يا ‘عرفت ، إذن يهودية
    يا طعنة أهوت على كبدي
    صماء وحشية
    تبدو هنا صورة المدينة الغربية متجهمة بالنظر إلى طقسها الكئيب ، وهذا يختلف عما جاء في وصف المدينة اللندنية في السيرة الذاتية ، حيث لعبارات الموحية بالحب والسعادة والحرية والانطلاق ولعل هذا الاختلاف يعود إلى طبيعة الاسترجاع ، وهذا ما حدث عند كتابة السيرة ، فالكتابة عند لحظة الاسترجاع واكبها شعور بتلك الذكريات التي اشتاقت إليها الشاعرة فوقعت تحت هذا التأثر .
    أما نهاية القصيدة فهي تمثل النظرة القاتمة للتصور العربي المحافظ لحضارة الغرب الزائفة :
    هيهات ! كيف تعلم
    هنا الضباب والدخان في بلادكم
    يلفلف الأشياء .....يطمس الضياء
    فلا ترى للعيون أن تراه
    ولم تكن هذه القصيدة هي الوحيدة التي تعكس صورة قاتمة للغرب من بين قصائد ديوان الشاعرة السادس " أمام الباب المغلق" وهو يمثل المرحلة اللندنية في حياة الشاعرة ، ففي قصيدة " رؤيا هنري " وهي قصيدة مستلهمة من لوحة الفنان الأمريكي ( وليم فلنكر )تبدو اللوحة في بعض جوانبها مظللة بالاحساسات القاتمة من مثل قول الشاعرة :
    كدوحة راسخة بعيدة الجذور
    تستشرف الأفق
    وقف في وجه التشوش الغبي
    يغط في الضباب
    لف عالم نزق
    يحوم فيه طائر الخراب
    محملا بالرعب ، بالردى الكريه
    وبالطريقة نفسها وبالتصور نفسه تأتي رحلة التداعي في قصيدة " المدينة الهرمة " بين شارع اكسفورد في لندن ، وبين سوق العطارين في نابلس :
    وتلقفني في المدينة هذي الشوارع والأرصفة
    مع الناس ، يجرفني مدها البشري
    أموج مع الموج فيها ، على السطح أبقى
    بغير تماس
    ويكتسح المد هذي الشوارع والأرصفة
    وجوه وجوه وجوه وجوه وجوه ، تموج –
    على السطح ، يقطن اليباس ، ويبقى بغير تماس
    هنا الاقتراب بغير اقتراب
    هنا اللاحضور حضور ، ولا شيء إلا
    حضور الغياب .

    لعل القارئ يرى إن الصورة المدنية في قصائد فدوى أصدق مما جاءت عليه في السيرة ، على الرغم من أن طبيعة الاعتراف في السيرة توحي بأن الدلالة الواقعة لشعور فدوى هو ما جاء في السيرة فعلا ؛ لان الشاعرة كانت راغبة في السفر تواقة إلى الحرية ، وكانت لندن هي الملتقى ، لكن هذه النتيجة لم تكن سوى حلم لحظي كباقي الأحلام التي بنت بها الشاعرة نفسها ، فسارعت بالترحيب ، واطمأنت نفسها بالسراب ، ثم سرعان ما يتبدد هذا الحلم حين يعود القلق وتعود الآلام ، بالظروف النفسية القاسية التي مرت بها الشاعرة عبر السنين الطوال ، وفي كل مرة –عبثا – تحاول الشاعرة أن تضع حلا لهذه المآسي ، تارة بالهروب وطورا بالعزلة ، وثالثة بالحب ، ورابعة بالسفر ، لكن مشكلتها مع التراث تبقى قائمة ، فهي غير قانعة بما لها ، ولا أدعي هنا أن الشاعرة لم تحاول معالجة المآسي التي واجهتها أو أن أقلل من قيمة الجهد المبذول تجاه ذلك كله ، بيد أنني أعتقد أن طريقة معالجة الشاعرة للكبت والحرمان من أجل تحقيق الذات لم تكن غالبا تتخذ الجانب الكفاحي التمردي ، لعل لفظة الصمت التي ما تنفك تتوارى في شعرها حتى ديوانها السادس تؤكد وجود طرق أخرى في المعالجة ، تتمثل في صراع داخلي يشكل حقيقة العزلة والتمرد اللتين كانتا تعيشهما الشاعرة ، فهي من ناحية تحاول الانعتاق ، ومن ناحية أخرى تخشى من الانصياع الذي من شأنه أن يلزمها بمواجهة لا يستطيعها نفسيا ، وهذا الذي نجده فعلا في التجربة اللندنية حين حاولت الهروب من عالم التقاليد القاسية ، وظنت بذلك أنها ستحسم معركة لصالحها ، بيد أن ساحة الصراع ليست هي الساحة الخارجية التي تجابه الشاعرة من خلالها ، لكنها ساحة غائرة في أعماق النفس باقية ما دامت الشاعرة والمؤثرات النفسية على حالها ، ولأن الشعر هو استنطاق للمشاعر ، فأنه الوحيد الذي استطاع أن يخرج لنا حقيقة الصراع الداخلي إلى حيز الوجود .
    فإذا كنت قد تطرقت إلى موضوع الذات من خلال بعض القراءات الشعرية والنثرية المختارة من دواوين الشاعرة ، فان إمكانية أخرى تكمن في دراسة شعرها من خلال استقراء درجات البوح التي تفرزها السيرة من جهة ، أو تلك التي تظهر في الصوت الشعري من جهة ثانية .
    ولعل الدارس بحاجة إلى الوقوف إزاء قضية مهمة تخص المجتمعات الشرقية ، وهي أن قضية البوح في الشرق صعبة المنال ، ولعلها من أبين الأسباب التي أخرت ظهور أدب السيرة الذاتية في الأدب العربي ، ولما حاول كتاب العربية أن يسطروا لتجاربهم الذاتية تواروا في قوالب روائية أو مسرحية واستخدموا لذواتهم ضمائر الغائبين ، لتبقى ( الأنا )محفوظة هناك في عالم الخجل تارة ، وليهربوا من ألسنة النقد الاجتماعي طورا أخر ، كما فعل طه حسين في كتابه الأيام مثلا .
    ومن هنا سيبقى موضوع البوح –وهو شرط أولي في السيرة الذاتية-أمرا عصيا على أقلام الكتاب، وخصوصا في السيرة الذاتية الشرقية، ولعل الدارس يلاحظ بأن تبنى الشاعر ة ضمير المتكلم في كافة مراحل السيرة –بما في ذلك الجزء الثاني " الرحلة الأصعب "يدل على أن هناك نية حقيقية لإبراز الذات وكشفها ، مقتربة بذلك من درجة الصدق النسبي لفنية السيرة ، ولعلها بذلك تعتبر من السير الذاتية النادرة ، التي حظيت بقدر كبير من الوضوح والموضوعية.
    وإذا كانت الشاعرة صريحة مع نفسها كاشفة بعض أسرارها ؛ فإنها من ناحية ثانية احترمت شعور الآخرين-في بعض الأحيان –فتسترت على أسماء ومواقف ، واستخدمت بعض الرموز أحيانا ، ولربما يدل ذلك على قدر لا بأس به من احترام الآخرين، وتشير إلى طبيعة الوضع الاجتماعي والسياسي الذي كتبت فيه تلك المذكرات ؛ فقد كتبت الشاعرة سيرتها في ظل الاحتلال الصهيوني، وتعرضت في بعض مقاطعها إلى أعمال المقاومة وكان يمكن أن يكون في كشف أسماء أولئك المناضلين تعريض للضغط أو الملاحقة ، وهنا يصبح موقف الشاعرة محرجا جدا ، أما السبب الثاني فيعود إلى سبب كتابة هذه المذكرات ، ذلك أن الشاعرة كانت تكشف لتخفف عن الذات المعذبة ، ومن هنا جاءت درجة البوح عندها منسجمة مع الطبيعة المشرقية ، إلا فيما يخص الذات من معتقدات دينية وعلاقات سياسية بل اجتماعية في معظمها.
    أما في الشعر ، فلعل دراسة النص الأدبي الذي تكتبه المرأة ما زال حقلا جديدا من حقول المعرفة الحديثة ، وقد برز من حقل الاجتماع الأدبي تحت عنوان دراسات النقد المتحررة نسويا ، ثم أخذ هذا الفرع يمتد ليشمل مساحات أكاديمية واسعة في عدد كبير من الدول العربية ، غير أنه ما زال يسبح بالفحول من رجال ، وما زال صوت المرأة قابعا خلف ظل الرجل .
    ولو أخذنا –مثلا- موضوع الحب في الشعر النسوي لوجدنا أن المرأة لم تعطه حقه الكامل في تجربتها الشعرية مع أنه من أهم الموضوعات التي تشغلها ، تقول مدام " دي ستال " " الفرنسية : أن الحب عارض عند الرجل ، ولنه حكاية المرأة " وتقول مي زيادة : " يسير الحب عند المرأة سيره الطبيعي من الوالدين إلى الاخوة والأخوات والأقارب والأصدقاء ، ثم يتجه إلى الخاطب الذي ينبغي أن يكون الحبيب فالزوج "
    من أهم الموضوعات التي طرقتها المرأة الشاعرة في الأدب العربي موضوعات الرثاء ثم الحب ، ولو أخذنا أمثلة لشاعرات شهيرات في تاريخ الأدب العربي ، لنرى مدى علاقتهن بالحب ؛ فسنجد أن الشاعرة العربية نأت بنفسها كثير عن هذا اللون الشعري وفضلت أن تنشغل بموضوعات أخر ، لعل أهمها الرثاء× فالخنساء مثلا لم تكن في حال من الأحوال شاعرة غزل بل غلب على شعرها الرثاء ، ولئن حاولنا أن نضع أسبابا لذلك التوجه شبه الفطري الذي اختارته الخنساء ؛ فإننا سنقول : أن الرثاء هو المجال الفسيح الذي تستطيع من خلاله الشاعرة أن تسفح كل دموعها دون خشية أو قلق لتملأ كل فراغات الضعف ؛ فمن خلال البكاء والنواح تعبر عن حاجة في اللاوعي قد تتمثل في شعور غائر بالضعف وهنا تصبح العواطف المكبوتة أكثر قدرة على الانفلات إلى عالم الاستقرار الوجداني الذي سيعبر في النهاية عن كافة العواطف المختزنة من حب وغربة وخوف .
    وكذا الحال لو أننا أخذنا مثلا لشاعرة أخرى ، مثل عائشة التيمورية فسنجد ، أيضا ، أن قصائد الحب الكبرى في حياتها هي قصائد الرثاء .
    ولعل ظاهرة فدوى طوقان في القرن العشرين ؛ حيث خالفت على حد بعيد طبيعة الشاعرة العربية ، التي اعتادت على إخفاء مشاعرها ، اقول ك لعل هذه الظاهرة تقترب من حالات التمرد النسبي الذي شهده هذا القرن ، وهو ملمح واضح من ملامح التغير النوعي في النمطية الشعرية النسوية ، بل لعله ثورة حقيقية مقصودة في ذاتها ، ففي قصيد " القيود الغالية " تبرز تلك المواجهة على سطح النص الشعري لتفرض نوعا من التمرد المقصود لتوجيه معركة تديرها الشاعرة من خلال الكلمات البارزة:
    حبيبي بما بيننا من عهود
    بضحكة عينيك
    إذا أنا ضقت بأغلال حبي
    وثرت عليها وثرت عليك
    فلا تعطيني أنت حريتي
    فقلبي قلب امرأة
    من الشرق .... يعشق حتى الفناء
    ويؤمن بحبه بالقيود
    أنا، لا انخدع، هنا، بهذا الاعتراف المشرقي الشاحب ، فقد مسخته هذه الجرأة الجديدة ؛ليصبح في حقيقته نكتة تسخرها الشاعرة لتذليل كافة العقبات وترويض كافة المصاعب وتطبيع الأذن المشرقية إلى نوع جديد بل صوت أنثوي حقيقي لا يشبه كثيرا صوت عمر بن ربيع بل يحل محله في حقيقة تاريخية حاضرة للعيان.
    ألا تلاحظ معي أن ما اسمعتك إياه أنفا ، لا يشبه صوتا من مثل ما حاولت بثه عاتشة التيمورية في قصائدها :
    أنا السر بك بالأغدار من كلفي
    إذا التقينا وأنت الرائق الرسم
    أين هذا البوح المصطنع من تلك الحقيقة الجريئة التي سطرتها فدوى في اكثر من ديوان من دواوينها الأولى، ، أنظر مثلا قصيدة " هل كان صدفة" :
    هم يحسبون
    لقائنا محض صدفة
    هل كان صدفة ؟
    من قال؟
    من أين همو يعلمون؟
    أنت الذي يعلم
    وأحمر الشفاه
    والعطر والمرآة
    لا همو
    هل اعتادت الآذن العربية على مثل ذلك ؟ نعم سمعنا بذلك قديما من ابن ربيع وحديثا من قباني ، أما أن يكون الصوت تسويا خالصا ، فهذا لعمري جديد مغاير.
    وحتى حينما تتراجع فدوى قليلا عن درجة البوح ، فإن الظلالات الخفية تنبئ برغبة محمومة في كشف بعض الستائر:
    لا ، لا تسلني ، لن أبوح به
    سيظل حبك سر أغواري
    ولعل ذلك لا يعني خوفا أو تراجعا ، بل لعله نوع من الاحتفاظ بالقيمة العالية لهذه العلاقة ، وهذا لا يتعارض أيضا مع حقيقة الضغوط التي كانت تواجه الشاعرة في مجتمع لا يعترف بهذه الجرأة ولا يستسيغها ؛ تقول الشاعرة : " حين كنت أقع تحت ممارسة ضغوطهم علي ، كنت أشعر أحيانا أنني تحطمت فعلا، وأغرق في بحر اليأس".
    ولعل هذا الجدار هو الذي اخرج تلك التجارب عن الواقعية :
    "كنت أقع في هذا اللون من الحب الخيالي وأغوص فيه ، وبيني وبين التجربة الواقعية جدران " القمقم" الأثرية ، فكانت المراسلة والخيال هما ميداني الضيق والواسع في آن واحد، كنت جائعة لشيء غير موجود " ضائعة " وحيدة ، لا أملك شيئا سوى هذا الخيال المشتعل ."
    ولعل هذا هو المكان المناسب لتعليل سبب عزوف الشاعرة عن التجارب الواقعية ، أو فشلها حين تقع فيها ، وكذلك السبب في تعلقها الدائم في الوهم الجميل والحلم الساحر .
    ولعل هذا هو المكان المناسب ، أيضا ، للحديث عن قاموس الشاعرة الشعري، في هذه المرحلة التي وقعت تحت ضغط المؤثرات النفسية والاجتماعية؛ وكأننا أمام قاموس سوداوي قليل المفردات واحد اللون والمذاق ، فالمفردات في مجملها تدور حول الانحطام والقسوة والحيرة والجدران .
    ومن مثل ذلك كلمة قيود التي تكررت في اكثر من موقع من مثل قولها:
    وما هذه رجفة في كيانك مما تشد عليه القيود
    وقولها :
    ويضيع شذاه بأسر القبود
    إضافة إلى عديد كبير من الأبيات التي لفعت الدواوين كلها ؛ ولعل السيرة هي الأقدر على تفسير تلك الكثرة المريبة لمثل هذا النمط من الكلمات
    أما المعاني التي تمثل الهروب من الواقع والسير خلف عالم مثالي يحقق لها حريتها ، فقد تكررت هي أيضا في معظم قصائد الديوان الأول ، من مثل قولها :
    ودت وفيها لهف كاسح لو تأخذ الكون على صدره ا
    أو قولها :
    آلا كم تهيمين في عــــالم تناءى بعيدا بعيدا مداه
    وفي عمق روحك شوق ملح جموح لظاه ، عنيف ظماه
    وفي قصيدة الشاعرة " أشواق حائرة "تبرز المقارنة بين الحرية المنشودة والواقع المعاش:
    مالي يزعزعني ويعصف بي قــــلق عتي جــائع الألم
    تتضارب الأشواق حــائرة في غور روحي ،في شعاب دمي
    الأرض تعـلق بي وتجذبني وتشد قبضتها على قـدمي
    فهنـا، أصداء يسلسلها صوت السمـاء بروحي الظامي
    وهنا هنا في الأرض يهتف بي صوت يقيد خطو أقــدامي
    صوتان كم لجلجت بيــنهما يتنازعان شـراع أيامي
    أما معاني الظلم المنسكب من الأهل البيت القمقمي الممقوت فتبدو صورته جلية في قصيدة" في درب العمر" :
    وقلت في أهلي وفي أخوتي غنى عن الناس عن الصعب
    وخلتني ملأت مـنهم يدي وخلتهم قد مـــلئوا قلبي
    فلم يطل وهمي حتى هوى خنجرهم وغــاص في قلبي

    ( يتبع )

  3. #3
    قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Jul 2004
    الدولة : غزة فلسطين
    العمر : 72
    المشاركات : 2,005
    المواضيع : 323
    الردود : 2005
    المعدل اليومي : 0.28

    افتراضي

    فدوى والشعر الوطني
    يحلو للدارسين ، وهم يتناولون أعمال الشاعرة ، أن يشيروا إلى مرحلتين مهمتين في حياة الشاعرة :
     مرحلة الشعر الوجداني ، أو مرحلة ما قبل 67
     مرحلة الشعر الوطني ، أو مرحلة ما بعد 67
    وبناء على ما تقدم؛ تصبح مرحلة الإنتاج محط أنظار النقاد ،الذين يرون في الشعر أداة للتعبير عن الهموم العظيمة، ويرفضون أن تكون أحداث عظيمة مرت بها فلسطين خلال ثلاثين سنة لم تستطع أن تحرك وجدان الشاعرة المبدعة ؛ ذلك أن الشاعر المبدع القادر على تصوير الحدث بواسطة الرد الشعري السريع هو المسئول الأول عن إبراز الهم الوطني ، وبوتقته في قالب فني خالد، لما في الشعر من أثر لا ينكر على مسامع الناس.
    ولعل بعض تلك الأصوات النقدية قد وجدت لها آذان صاغية ؛ وقد نتفق ، وللوهلة الأولى ، مع هؤلاء النقاد حين نقوم بعملية إحصائية حول قصائد الشاعرة ، فنجد أن القصائد الوطنية تكاد تكون نادرة إذا ما قيست إلى قصائد الحب التي ملأت معظم صفحات الدواوين الثلاثة الممثلة للمرحلة الأولى ، حتى نجد بعض القصائد مثل قصيدة " مع لاجئة في العيد " ، فأننا نلمس السطحية والاقتصار على التأثر العابر الذي لا يتجاوز قشرة الحدث ، ولعل عنوان القصيدة يوحي بهذا الضيق في رؤيتها لقضية الشعب ؛ فهؤلاء الذين نزحوا إلى نابلس ليسوا ألا لاجئين :
    اليوم ماذا غير قصة بؤسكن وعارها
    لا الدار لا ، كالأمس ، هذا العيد عيد
    هل يعرف الأعياد أو أفراحها ، روح طريد
    علن ، تقلبة الحياة ، على جحيم قفارها ؟
    بيد أني التمس عذرا للشاعرة على هذه السطحية في الأبيات ، والغربة في المشاعر ، لا لأن الشاعرة كانت تعيش بداياتها الفنية ، بل لعلة توضحها السيرة الذاتية نفسها ، فبينما كانت الشاعرة تقبع بين جدران البيت النسوي المغلق ، كانت الأحداث تعج في الخارج ، وفي تلك اللحظات كان والدها يريدها أن تملأ الفراغ الذي تركه إبراهيم ، فكلما برزت مناسبة وطنية أو سياسية ، أقبل عليها يسألها الكتابة في الموضوع ، كان صوت في داخلها يرتع بالاحتجاج الصامت :
    " كيف وبأي حق يطلب مني أبي نظم الشعر السياسي وأنا حبيسة الجدران ؟ ! ، لا أحضر مجالس الرجال ، ولا أسمع النقاشات الحادة ولا أشارك في معمعة الحياة ، حتى وطني لم أكن قد تعرفت على وجهه بعد ، فقد كان السفر محرما علي ، وباستثناء القدس التي عرفتها بفضل احتضان إبراهيم لي حين كان يعمل في الإذاعة الفلسطينية "
    ومن هنا فقط أستطيع أن أبرز تلك السطحية في التعامل مع الفضية الفلسطينية لدى الشاعرة في تلك المرحلة ، ولا أدل على ذلك من سرعة انتقالها إلى القصيدة الوطنية بعد انعتاقها من القمقم ، ثم التقائها بشعراء المقاومة الذين استشعرت معهم روح العمل الجماعي ، ولعلنا نجد مثلا واضحا في قصيدة " لن أبكي " المهداة إلى شعراء المقاومة في الأرض المحتلة :
    على أبواب يافا يا أحبائي
    وفي فوضى حطام الدور
    بين الردم و الشوك
    وقفت وقلت للعينين : يا عينين
    قفا نبك
    لكنها سرعان ما تكفكف الدمع ، لتبدأ مرحلة جديدة حافلة بالعمل والمشاركة :
    أحبائي
    مسحت عن الجفون ضبابة الدمع الرمادية
    لألقاكم وفي عيني نور الحب والأيمان
    بكم ، بالأرض ، بالإنسان
    فوا خجلي لو آني جئت ألقاكم
    وجفني راعش مبلول
    وقلبي بائس مخذول
    وحين تكفكف الدموع ، ويتم اللقاء ، تبدأ الصرخة المجلجلة التي تحمل روح المثابرة قدما إلى الأمام :
    أحبائي حصان الشعب جاوز كبوة الأمس
    وهب الشهم منتفضا وراء النهر
    أصيخوا ، ها حصان الشعب
    يصهل واثق النهمة
    ويفلت من حصار النحس والعتمة
    ويعدو نحو مرفئه على الشمس
    وتلك مواكب الفرسان ملتمة
    تبارك وتفديه
    فإذا كنا نسمع هنا صوتا ينم عن روح المشاركة ؛ فلأن الشاعرة ذاقت فعلا طعم هذه المشاركة ، وإذا كانت الشاعرة قد أهدت شعراء المقاومة قصيدتها السابقة ، فهي كذلك تلقت عدة قصائد من هؤلاء الشعراء ، منها القصيدة التي للشاعرة من محمود درويش " يوميات جرح فلسطيني" ، وفيها تظهر بعض الإشارات لمقاطع وردت في قصائد فدوى ، من مثل المقطع الذي يقول فيه:
    لم نكن قبل حزيران كأفراخ حمام
    ولذا لم يتفتت حبنا بين السلاسل
    نحن يا أختاه من عشرين عام
    نحن لا نكتب أشعارا ولكنا نقاتل
    هذا المقطع يشير إلى قصيدة الشاعرة التي نشرت في جريدة الاتحاد قبل ذلك، وفيها تخاطب الصديق الذي حالت حرب حزيران دون لقائه في القدس ، وفيها تقول:
    لو أنني يا صديقي كأمس
    أدل بقومي وداري وعزي
    لكنت إلى جنبك الآن
    عند شواطئ حبك أرسي
    لكنا كفرخي حمام
    وكذلك تشير المقاطع :8-9-10-11 من القصيدة نفسها إلى الشهيد مازن آبو غزالة ، الذي كتبت الشاعرة قصيدة في رثائه عند لقائها بمحمود درويش.
    من خلال هذه المعلومات التي تقدمها السيرة نستطيع أن نفلسف موقف الشاعرة من الشعر الوطني ، ونستطيع أن نفسر سر تلك النقلة النوعية التي قفزتها الشاعرة بعد حرب حزيران ، صحيح أن جسامة الأحداث قد ولدت في نفس الشاعرة بركانا من الهيجان ؛ فانفجرت قريحتها الشعرية بخمس قصائد متتابعة ، ولكني أزعم : لو إن فرصة الانعتاق من القيد الاجتماعي لم تتحقق ، ولم يتح لها أن تلتقي بالآخرين والمشاركة في العمل الجماعي لجاء ردها حول هذا الحدث شبيها بردودها السابقة ، حين كانت لا تزال حبيسة الذات .
    ومن هنا لا يجوز اعتبار التحول في القصيدة الطوقانية مجرد تحول شكلي ، بانتقالها من قصيدة البيت الشعري إلى قصيدة التفعيلة الشعرية مثلا . بل هو بالدرجة الأولى " تحول في المضمون ، نقلة من حالة التمركز حول الذات ، حول الأنا ، إلى حالة التمركز حول الخارج ، حول الموضوع في الغالب الأعم .
    ولعل من شأن هذه الظاهرية أن تؤكد الحقيقة الرامية إلى " أن كل تغير بالأشكال الأدبية إنما يسبقه أو يشرطه تغير في الأفكار والتصورات "
    لذا كان طبيعيا على فدوى القابعة ضمن جدران البيت الحريمي المغلق أن تكون مقلة في الشعر الوطني ، وأن لا تستجيب لدعوة أبيها المستمرة لكتابة الشعر السياسي ، فثمة فارق بين الإلزام والالتزام ، لم تستجيب فدوى لدعوة أبيها ، لأن تجربة الاندماج السابقة مع العالم الخارجي كانت معدومة أو ناقصة ، فحين أتيح لهذه التجربة فرصة الاندماج الحقيقي مع الناس والحياة ، وأصبح الالتزام بالمفهوم الواقعية المختلفة أمرا تلقائيا
    ومن هنا يمكن أن ندرس شعر فدوى طوقان الوطني وفق مرحلتين : أولا : - قبل 67 ، في هذه المرحلة لم تكن فدوى قد التقت باليهود وإنما سمعت عنهم ولاحظت ما نجم عن سلوكهم إزاء الفلسطينيين.


    ثانيا : - ما بعد 67 ، وفي هذه المرحلة تتعرف فدوى على اليهود من خلال فرص عديدة لتبدأ برسم صورة أكثر وضوحا .
    ولو أخذ الدارس قصيدة " نداء الأرض " من ديوان " وجدتها " لوجد أن اليهود هو العدو اللئيم وهو مغتصب الأرض وهو القاتل :
    وكانت عيون العدو اللئيم على خطوتين
    رمته بنظرة حقد ونقمة
    كما يرشق المتوحش سهمه
    ومزق جوف السكون المهيب صدى طلقتين
    في المقابل لو وقف الدارس أمام قصائدها بعد 67 فسيجد أن هناك غير صورة لليهودي ، مثلا هناك صورة الجندي المسلح ، وهناك صورة اليهودي غير الجندي ، ويستطيع الدارس أن يأخذ قصيدة " أهات أمام شباك التصاريح " مثالا على صورة اليهودي المسلح :
    وقفتي بالجسر استجدي العبور
    آه ، استجدي العبور
    اختناقي ، نفسي المقطوع محمول على وهج الظهيرة
    سبع ساعات انتظار
    ما الذي قص جناح الوقت ،
    من كسح أقدام الظهيرة ؟
    يجلد القيظ جبيني
    ..............
    ألف "هند" تحت جلدي
    جوع حقدي
    فاغر فاه ، سوى أكبادهم لا
    يشبع الجوع الذي استوطن جلدي
    آه يا حقدي الرهيب المستثار
    قتلوا الحب بأعماقي ، أحالوا
    في عروقي الدم غسلينا وقار !!

    هذه الآبيات قي حدتها تذكرنا بالنظرة التي كانت سائدة في الأربعينات ، وهذا الحقد الفارغ الفاه نحو المحتل ، يستوقفنا قليلا حول إمكانية التمثل الحقيقي لمثل هذه النظرة الصادرة عن تلك الفراشة الرقيقة ، فدوى طوقان ، في حين نجد صورا أخرى للمحتل أقل حدة لدى شعراء أخر ، فهذا محمود درويش مثلا ينظم بعد الهزيمة قصيدة يتغزل فيها بفتاة يهودية ، ذاهبا إلى أن الشيء الوحيد الذي حال بينهما هو الحرب :
    بين ريتا وعيوني بندقية
    والذي يعرف ريتا ينحني ويصلي
    لأله في العيون العسلية
    إن نظرة فدوى طوقان لليهود في قصائدها الشعرية ، تلبي رعبات العداء في المجتمع الفلسطيني ، كما يظهر في قصيدتها " أردنية – فلسطينية في إنجلترا " ، أو كما لاحظنا في قصيدة " في المدينة الهرمة " حين تنبأت فدوى بنهاية الغرب ودماره ؛ فعبت بذلك عن شعور يرضي التطلعات الشرقية حول الاستعمار ، وكما بينت سابقا ، فان هناك اختلافا بين النظرة كما جاءت في السيرة ، وهنا أيضا تعود المخالفة ذاتها ، فحين تعرضت الشاعرة ، وهنا أيضا تعود المخالفة ذاتها ، فحين تعرضت الشاعرة لهذه القصة في السيرة الذاتية " الرحلة الأصعب " عرضتها عرضا بعيدا عن هذه العاطفة الحادة المفعمة بالحقد ، فهي تعترف في سيرتها الذاتية أمام ديان بأن لليهود حقا في حياة كريمة بعد الذي عانوه في أوروبا .
    وتحاول جاهدة أن ترد اتهامات وسائل الإعلام التي وجهت لقصيدتها السابقة ، مبينة أنها استحضرت معانيها – في تلك الحال الكئيبة من الحزن والشعور بالهوان والذل – من قصيدة الشاعر " مناحيم بيالك " وعنوانها " أناشيد باركوخيا " وضعها الشاعر على لسان باركوخيا ، مخاطبا بها الو الروماني الذي كان يحاصر اليهود في قلعة مسعدة .
    ومع أن هذا الاعتراف يوضح بعض الملابسات الخاصة بظروف القصيدة من جهة ، ويكشف عن ثقافة متنوعة للشاعرة من جهة ثانية ، ‘إلا أنه يؤكد أن العاطفة المحمومة في ثنايا البيت الشعري لا تمثل قطعا خلاصة النظرة للمحتل اليهودي ، لعل هذه النظرة الشعرية لا تعدو في حقيقة الأمر أن تكون موقفا لحظيا ، يبرز حقدا حول حادثة شخصية مرت بها الشاعرة نفسها ، ومن هنا نجدها حين تعرض لشخصيات يهودية في مواقع أخرى من السيرة تعرضها بنظرة موضوعية بعيدة عن النظرة الثائرة ، فقد يكون الشخص يهوديا مستعمرا يشارك في بناء الدولة العبرية بشكل أو بآخر فتغفر له انسانيته ذلك ، وتستعذب الشاعرة معه حلاوة اللقاء وتسعد بصحبته :
    " يسرني ويسعدني أنني أتمتع بصداقتي ومحبتي لعدد من اليهود الذين لمست دفء قلوبهم وصدق إنسانيتهم وبعدهم في تعاملهم مع العرب عن روح التعالي القومي " .
    " وإذا قلت أنني وأنا في صحبة صديقة أو صديق يهودي لا أشعر أنني أجلس إلى إنسان ينتمي إلى دولة عدوانية اغتصبت أرض آبائي وأجدادي ، فإنني أؤكد هنا أن هذا الإحساس لا ينبع عن سذاجة أو بساطة " .
    هذه النظرة المعتدلة التي تظهر من خلال سيرة الشاعرة تتفق وتطلعات بعض السياسيين العرب منذ عام 1968م ، فمثلا حركة فتح التي انطلقت عام 1965 ، أخذت تقتنع بعد الحرب 67 بأن الفلسطينيين أنفسهم هم القادرون على حل مشكلتهم ، ثم ازدادت قناعة المنظمة بعد أيلول ، 1970 بأن حل مشكلتهم تكمن في تأسيس دولة ، وعلى أثر حرب أكتوبر وافقت المنظمة على إقامة دولة فلسطينية .
    ولعل الاتجاه اليساري الذي كانت تميل غليه الشاعرة وتقتنع بأفكاره ، كان اميل إلى هذا الاتجاه ، ولعل هذا التوجه نحو السلام لدى بعض الفصائل الفلسطينية افرز عقلية ثقافية معينة تؤمن بإمكانية التعايش بين العرب واليهود ، وعلى هذا الأساس تمت محاولات التفريق بين اليهود كمحتلين وبين اليهود كجنس بين اليهودي كجندي واليهودي كمواطن .
    خلاصة القول في هذا المجال ، أن هذا الشطط في الانفعالية الذي رأيناه في قصيدة " آهات أمام شباك التصاريح" هذا المشروع الثوري يستعير صوت الأسلاف من مثل قولها :
    نحن بنات طارق
    إن تقبلوا نعانق
    ونفرش النمارق
    وإن تدبروا نفارق
    فراق غير وامق
    هذا التصوير في قصيدة " أمنية جارحة" ، الذي ينم عن روح ثورية تبلغ مداها في القسوة عندما تتمنى الشاعرة على ثوار فيتنام أن يمدوا النساء العربيات بمليون محارب لتحسين النسل:
    يا أخوتنا قولوا حتام!
    أواه واه يا فيتنام
    آه لو مليون محارب
    من أبطالك
    قذفتهم ريح شرقية
    فوق الصحراء العربية
    لفرشت نمارق
    ووهبتموا مليون ولود قحطانية !
    هذا النط الشعري يمثل الحس الشرقي الذي يعلن عن استجابته للضغوط الخارجية عن طريق استنطاق العاطفة ، ومن هنا قد تفرض هذه الطباع الشرقية بعض الإلزام على الشاعر في طريقة التناول ، إذ يكثر على الإنتاج الشعري الخاص بالمقاومة الطابع التسجيلي ، ومثال على ذلك ما تقرؤه في قصائد الشاعرة حول الشهداء والأبطال والسجناء من مثل قصيدة ( حمزة ) التي اتخذت طابعا قصصيا :
    كان حمزة
    واحدا من بلدتي كالآخرين
    طيبا يأكل خبزه
    بيد الكدح كقومي البسطاء الطيبين
    قال لي حين التقينا ذات يوم
    وأنا أضبط في تيه الهزيمة !
    اصمدي ، لا تصغي يا ابنة عمي
    هذه الأرض التي تحصدها – نار الجريمة
    والتي تنكمش اليوم بحزن وسكوت
    هذه الأرض سيبقى
    قلبها المغدور حيا لا يموت

    وقد كان يصعب على الشاعرة أن تتمثل منهجا فكريا خالصا كالذي نبأت به من خلال الاعترافات الصريحة في السيرة ، فالقصيدة بما تكتنزه من مخزون عاطفي مستمد من الأثر اللحظي للموت البطولي ، تفرض على الشاعرة نوعا من المحافظة والإلزام ، فيبقى الخطاب النثري أقدر على إبراز الجوانب الفكرية المحتاجة إلى أخذ ورد ومخالفة وتفرد وتفرد وإبداء الرأي الخالص في الفكر والسياسة .
    وقد يكون من الإلزام الواضح على قصائد فدوى الوطنية ما نلمسه في تغير نظرة فدوى للموت ، الموت الغشوم الغدار ، الموت المذموم التي تعافه الشاعرة في قصائد الرثاء ، ترحب به ألف مرة في قصائد المقاومة :
    يا ألف هلا بالموت !
    واحترق النجم الهاوي وحرق
    بر الربوات
    برقا مشتعل الصوت
    زارعا الإشعاع الحي على –الربات
    في أرض لن يقهرها الموت
    ومن الإلزام كذلك ما نلمحه من اعتراف الشاعرة بقيمة المفاهيم الدينية في تحريك العواطف ، فتظهر لنا الشاعرة قوية الإيمان منتمية إلى هذا الدين :
    يا ولدي
    اذهب !
    وحوطاه أمه بسورتي قرآن
    اذهب وعوذتا باسم الله والفرقان
    ويمكن أن يأخذ الدارس قصيدة " آيتان في أتشبكه الفولاذية " نموذجا لليهود غير الجندي ، فقد تعاطفت فدوى في هذه القصيدة مع طفل من أطفال اليهود :
    تحت الشجرة " وهي تفرع تكبر ، تكبر
    في إيقاعات وحشية
    تحت " النجمة " وهي تشيد بين يديه
    جدران الحلم الدموية
    تحبك بخيوط الفولاذ الشبكة
    تسقطه فيها تسلبه الحركة
    يفتح عينيه " ايتان " الطفل الإنسان

    لكنها تحمل في ثناياها تعريضا مبطنا من خلال الشبكة الفولاذية الغاشمة التي تنسجها أيدي المحتل ، كي تغرق فيها الأطفال الأبرياء:
    يا طفلي أنت غريق الكذبة
    والمرفأ يا " ايتان " غريق مثلك في بحر الكذبة
    يغرقه الحلم المتضخم ذو الرأس التنينية والألف ذراع
    هذا التصوير الفظيع لمستقبل الطفل الإنساني في ظل التصور اليهودي الغاشم يقترب من النموذج السابق لتنسجم مع نظرة فدوى الشعرية لليهود ، هذا التصور هو الذي دفع الشاعرة لتنتمي على هذا الطفل أن يظل ، حين يكبر ، كما كان طفلا ، ليحافظ بذلك على إنسانية قبل أن تتجرد تحت فظاعة الشبكة الفولاذية :
    ليتك تبقى الطفل الإنسان
    أخشى وأروع
    أن تكبر في هذي الشبكة
    .........................
    أخشى يا طفلي أن يقتل فيك الإنسان
    أن تدركه السقطة
    أن يهوي
    يهوي
    يهوي للقاع
    ولكن هل انتهت الدورات السيزيفية في مسيرة الشاعرة فدوى بعد التقائها بقصيدة المقاومة ومشاركتها الفاعلة في الحدث السياسي على المجالين الأدبي والاجتماعي ؛ لنقول أن سجل القصيدة الوجدانية قد انتهى مع حرب حزيران . حينما وجهت هذا السؤال للشاعرة نفسها ، قالت : أعتقد أنني أقدر على صياغة القصيدة الوجدانية ، وأنا أشعر بإحباط جراء الوضع السياسي الراهن ثم أضافت : إنني بدأت فعلا أرجع على ذاتي ، وقد قرأت علي قصيدتين تبرز فيها الذات ماثلة مثول قصائدها الوجدانية الأولي .
    وفي قصيدة الأولى تقول الشارة تحت عنوان السؤال الكبير ": ما الذي يجعل من صوتك أفقا
    خارج الأرض إذا ارتاد فضاءات القصيدة
    ما الذي يجعل لي منه جناحي نورس أعلو وأعلو
    بهما عبر محيطات وآفاق بعيدة
    لم تزل تقصيك عني
    أما القصيدة الثانية التي تعيد الشاعرة على الذاتية ، فهي قصيدة بعنوان حوارية ، وهي محاولة للرجوع إلى بحر الحب:
    دعاني إليه ، هو البحر
    على مداه موجة إثر موجة
    تباعدت ، شد ذراعي إليه
    يا بحر كلا !
    أخافك يا بحر عد للوراء
    ومركب عمري على المنحدر
    ولا بد من التذكير هنا ن أن البحر يعني الغريزة عند فرويد ، أما لدى الشاعرة ، فهو الحب مع الغريزة ، وبذا بعود الدورة السيزيفية بالشاعرة إلى الوراء ،؛ وكأننا مع فتاة مراهقة تواجه الحب لأول مرة ، تخاف أن تقترب منه ، وهذا ما لقلب الشاعرة من ضعف وما لروحها من شفافية ، والعودة بذاتها تحطم التقسيم المنطقي الذي اعتاده النقاد ؛ فلم تطلق الشاعرة القصيدة الوجدانية ، عندما بدأت بالقصيدة الوطنية ، بل الصحيح أنها تفاعلت مع هذه القصيدة وانشغلت بها فترة بفعل المؤثرات القوية التي واجهت تجربة الشاعرة خلال فترة الاحتلال الممتد منذ 67 حتى نهاية الانتفاضة ، بعد الانتفاضة كأن الشاعرة شعرت بتلاشي روح المقاومة وجفافة الحدث السياسي ، فنضب نبع شعر المقاومة ، أما الغلالة الشعرية فما زالت حاملة بالمخزون ، وبالذكريات ، فكانت العودة وكانت الدورة السيزيفية لتحط مرة ثانية عند نقطة البداية .

المواضيع المتشابهه

  1. عزاء واجب لشعبنا الفلسطيني بوفاة الشاعرة فدوى طوقان
    بواسطة محمود مرعي في المنتدى الروَاقُ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 13-01-2004, 08:08 AM
  2. فدوى طوقان وقصيدة لن أبكي
    بواسطة محمود مرعي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 27-12-2003, 01:10 AM
  3. وفاة الشاعرة فدوى طوقان رحمها الله
    بواسطة محمود مرعي في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 16-12-2003, 02:44 PM
  4. فدوى طوقان
    بواسطة محمود مرعي في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 13-12-2003, 05:26 PM
  5. فدوى طوقان في ذمة الله
    بواسطة ابن فلسطين في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 13-12-2003, 01:06 PM