أنت التي....
صد وراءه الباب وانطلق غاضبا متذمرا.. أسيرا بين يدي سجان طاغ عنيد، تفنن في تكميم فمه وشل إرادته.. لا يطيق فراقها ليلة واحدة إلا إذا خذله الجيب.. فلا محالة من دفع المهر وتجديد العقد.. خطر له أن يغازلها ويجرب أولى حظوظه كشأن أقرانه حين يحتلمون.. وتقرب منها ساحرا إياها بعين التودد والاستعطاف.. وبسطت يدا ناعمة في خضوع.. وعلى حين غرة انقلب السحر على الساحر.. استحالت اليد الرقيقة الحانية سلسلة من حديد طوقت عنقه.. وأصبحت السلسلة طوع يمينها تتحكم فيها عن بعد. أما هو فأمسى حاله كالكلب، إذا افتقد نسمة من نسائمها المسكرة ركبه السعار وضرب في الأرض يبغي اللقاح، وإلا حول اتجاه نابه إلى معارفه وآل بيته.. هذا شأن إدريس الخضار في دنيا غاوية الخناس.. ضربت بنسجها على وعاء عقله.. أعتاد بعيد كل غروب أن يندس في بيته فيجنح إلى غرفته مندمجا في عالمه الخاص الذي جد في إحداثه.. ولا يسعه ـ وقد قر بها عينا ـ إلا أن يتنهد في انتشاء قل له النظير.. غاوية مصدر الرؤى، إكسير الحياة ومنبع الأحلام.. في محرابها يقرأ الطالع.. كلما انتعش من سحرها واستوفى حظه الوافر اهتز فرحا نشوان إذ يعاين حلولا لهمومه تتراقص أمام ناظريه كالسراب.. يضحك عاليا.. يقفز من على السجادة البالية المتهدلة بخفة.. يدخل على آل بيته باشا على غير عادته.. يوزع الوعود مدرارا، فيتبدد الشحوب من وجوه الصبية مستبشرين خيرا بقطف ثمار الوعود القاطعة، ما عدا الأم التي ضجت من ترجيع المعزوفة بلا طائل. استيقنت بأن كلام الليل يمحوه النهار، إذ كيف لمسلوب الإرادة مسكون بجنية حمراء أن يفي بوعد ويتقيد بعهد؟!.. حقيقة لا غبار عليها أدركتها السيدة حرمه منذ سقط الخضار في كمين غاوية الخناس.. بئس من ضرة لا تشبه الضرات في شيء.. وإذا عزت خلا بنفسه متفكرا في قلق وكدر .. باتت عيناه تحصي النجوم.. أمسى تحت رحمة المطارق تهوي على رأسه.. اعتاد أن يأخذ نصيبه مما تحصده البنت البكر من جيوب السكارى وثعالب الليل، ولكنه مني الليلة بالخذلان..أعفت نفسها من أداء الضريبة اليومية.. وطفق يهذي غير آبه لما تشيعه به زوجه من خزي تارة وإشفاق تارة أخرى.. وانتابته نوبة سعار حادة فجن جنونه وانهال على زوجه الممددة بجانبه ضربا وعضا.. تناهى الصياح إلى مضجع الصبية، دثروا رؤوسهم تحت الأغطية مستسلمين لقدرهم المقدور كأرانب مذعورة.. خبت نوبة الصرع الطارئة، ارتخت جفونه، فتح عينيه في الظلام فبدت غاوية كالطيف باسمة ساخرة.. لا مهرب ولا مفر.. السبيل إليها يهون رغم بعد مسافته، وما يتخلله من منعرجات وأخاديد، وما يتربص فيه من هوام وسم زعاف.. استغرب الأهل والصحاب ارتباطه بكائن يجمع صفات الحيات والعقارب، ولم يجد استغرابهم في شيء.. أفاق مبكرا.. شعر بثقل ينهك رأسه، أجمع الأمر على أن يعقد عليها هذا اليوم، ويكون بها ظافرا مهما يكلفه ذلك من الثمن.. اغتسل وتناول فطوره في غمرة صمت رهيب.. تفقد جيبه للاطمئنان على قيمة المهر.. وبدون مهر جديد يخيب مسعاه في حيازتها والظفر بعبيرها.. وأبوها إمبراطور فظ عنيف لا يعطي من دون أن يأخذ.. غادر والصغار ينظرون إليه ومطالبهم ما تزال حبيسة مآقيهم...
ما يزال يضرب طول الطريق في خطى حثيثة.. وبعد لأي لحق بثلة من أصهار مسكونين ملسوعين مثله، انبثوا عند مشارف البيت الإمبراطوري فرادى ومثنى وثلاث.. يترقبون على أحر من الجمر طلعة الصهر صاحب الحل والعقد فيسعد كل منهم بالا برفقة ليلاه.. تارة يشرئبون بأعناقهم مستطلعين وطورا ينكسون الرؤوس كشأن من يترقب خروج جنازة.. ساعة زمنية تحت لفح الشمس فيطلع عليهم واحد من خدام الإقامة ويشير إليهم بمواصلة الطريق شمالا حتى حدود الغابة، فثمة مأوى الإمبراطور ومعتكفه الجديد.. إخبار كأنه الصعقة روعت جوانح إدريس، التفت إلى القوم وخاطبهم بلهجة لا تعدم حزما وإصرارا.. الانتظار مضيعة للوقت.. إذا كنتم ترغبون في شيء فلا مخرج إلا أن تشحذوا أقدامكم وتشمروا على سواعد الجد.
وانطلقت الوفد يتصدره إدريس.. راح يضرب في بطن بيداء مقفرة.. لفحه الحر الشديد ورشح جبينه عرقا.. وخزه الشوك وأدمت قدميه الحجارة.. وما يزال على حاله يهرول نافيا كل الوجود من حوله إلا هي؛ معذبته ومغلة لسانه وناهبة جيبه وفؤاده.. وبعد مشقة وعنت نزل ومن معه بالغابة.. لم يدم الانتظار.. فالأماني تلاشت في أجواء يكتنفها صمت رهيب.. داهم اليأس النفوس واعتملت غما وحزنا.. إن الإمبراطور توجس خيفة من محيطه ولزم عرينه حاجبا عن أصهاره الهلكى بغيتهم... خبر موثوق تسرب إلى الخضار من قائد العسس .. إدريس الخضار قيدوم الأصهار ولا مناص أن يحظى ببغيته، وهو ما تحقق سرا، و مني الآخرون بالخيبة والخسران.. انصرفوا مصدومين لاعنين في خواطرهم حالة الطوارئ الجائرة.. تظاهر الخضار بالدهشة وأبان عن حرقة الإحباط، بينما هو في مكنونه يرقص من مسرة وحبور.. وانفصل عنهم مهرولا لا يلوي على شيء.. نزل في الخلاء الإمبراطوري طائرا ولهان، وقفل عائدا تحفه ساحرته بجناحي الدعة والاطمئنان.. ونزل ببيته مصحوبا بغاوية..
تركها قابعة في أحد الأركان في هيئة عقرب.. أوصد باب الغرفة خلفه، وراق له، وهو في ميعة حماسه، أن يسامر آل بيته لحظة، فيعود مطمئنا إلى جنيته .. والتمس سبيل مجمعهم مغمورا نشاطا، تحدوه الرغبة في أن يزرع في نفوسهم الثقة، ويكيل لهم بعضا من وعوده.. ولكن العيال نضجوا قبل الأوان.. تحدوا سنهم عنوة وأدركوا سر اللعبة.. ما عادت تنطلي عليهم وعود ولا عهود.. نظر إليهم ودب في جسمه الفتور، انطفأ لهيب الحماس. جمد في مكانه يحملق في عيونهم تحدث ـ كما اكتشف ـ بلغة الكبار حين يمسسهم ضيم أو تحل بهم مهانة.. شعر بفجيعة الاكتشاف، فولى إلى عقربه واجما متصدعا..
سحبها من ركنها.. أخذ نفسا عميقا من سحرها عسى أن يبدد سحائب الحيرة الملمَة.. شعر بعبيرها يشد برقبته ويشرع في خنقه.. سعل سعالا حادا حتى دمعت عيناه.. وفي حركة جنونية أمسك بغاوية.. سحبها خارج المحراب الذي استحال بئرا عميقة مظلمة.. صعد بها الأدراج إلى سطح بيته.. وقف يجتر آلاما مبرحة كأنها سياط تهوي على هامته في محضر أهله.. أمسك بغاوية وحملق فيها، مخاطبا إياها في لهجة غضب حادة.. عليك اللعنة أيتها العقرب السوداء..
أنت التي...
أنت التي...
أنت التي...
أنت التي...
أنت التي...
أسقطها أرضا.. اندمج يتأمل في هيأتها وهو كظيم.. سواها تحت قدمه اليمنى، وجعل يدعكها بكل ما أوتي من القوة، ولسان حاله يردد: الموت والفناء أيتها الحية الرقطاء.. إلى الجحيم المستعرة يا وقود النار.. أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق..
أزال قدمه وأحنى رأسه يتملى في قطعة الحشيش المضغوطة وقد استوت مع أرضية السطح.. أشعل فيها نارا، تنفس الصعداء ونكص يلتمس دويه، يحصي الأدراج في خفة كوزن الريشة..
المج القصصية: فرسان الجحيم
في 20 ـ 5 ـ 2006
محمد غالمي