الاستشهاد: إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب، قال وما أكتب؟ قال اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة.
الإهداء: إلى قصة بورخيس العظيمة: الألف.
______________________________
صرير القلمالإزعاج يتسامق فيدخل به في أفق القشعريرة، والأقلام تصرّ بطريقة تجعل المسام تنتصب، وكأنما هي زجاجٌ ينسحبُ بقوّةٍ حاقدة على البلاط. ومنذ ذلك الحين والكتابة صعبة، رؤية أقلام الرصاص تعيد القشعريرة إليه، وهو يتخيّلها وقد تثلمت حوافّها وبدأت تصدر الصرير المرير. ويتنامى هذا الغيّ المعادي للكتابة، فإذا بمرأى المكتوب يهيّئ له شكل الأقلام وهي تصرّ صريرها الجندبيّ على الورق القاسي أو على سبورة خشبية، كأنها ريحٌ صرصر، والطبشورة الرديئة تتحكّك بساديّة لا ترحمه. فصول السنة هي الأخرى أصبح يتخيلها وكأنها مشاهد تصاغ في لوحات مرميّة في أحد المراسم القديمة، والريشات التي رسمتها تمرّ على اللوحة الخشبيّة مثل لسانٍ يلعق زجاجا.
يا للتّقزّز، هل للكتابة كلّ هذا الأذى؟
كانت له نافذة جنوبيّة تطلّ على المزرعة، ويرى منها المساحة الوحيدة المتاحة من الأرض التي لم تطأها المدينة بأثقالها، ولم تغرز فيها أسنانها، هذه النافذة حاول أن يفتحها هربا من حركة الأقلام في ذهنه، لكنه ما إنْ فتحها حتى دخلت منها كالوطاويط كل الحروف التي تُرسم في محلات الخطاطين وعلى ماصات المدارس وفي الدوائر الحكوميّة.
تمادى هذا الغيّ المرضيّ –كما يدّعي المتهاونون بمآسي الأذواق- فأصبح يشمّ روائح الألوانِ ويقشعّر لها، كلّ لون له طريقة ارتعاشه الخاصّة، فالأسود له صرير قلم الرصاص غير المبريّ على ورقة كرّاسة قديمة. استدعتْ ذاكرتُه المحاصَرة بهيَجانها لحظةً قديمة كانت فيها ابنته تحاول رسم وجه أمّها بقلم الرصاص، يا لقبح ذلك الوجه والمرسم يخطّ إيقاعه المقلِق على الورق الخشن، كيف احتملَ أن يراها ويشجعها، ما أقبح تقبيل فمٍ له ملمس وطعم الرماد. يا له من لون مؤذٍ، الأسود وذلك الرصاصي لهما وقع مزعج يوقف شعر البدن، كمفكّ حديديّ يحبو على معدن أملس. الأبيض له بذاءة الكتابة بالجبن السائل على ماصة الدرس. والأصفر يتغلغل بالخيال فيجسّد أشياء نجسة، بدءا من الصمغ اللزج إلى ما لا نهاية له. وردّد بأسى: لا يوجد لون ليس للمساوئ منه نصيبها، لماذا كل أشكال الرسم بالكلمات تسحبني ببطء وخبث إلى تصوّر سلسلة من البذاءات!
وفي ليلته الأشدّ سواداً لم يستطع أن ينام، تظاهر بإغماض عينيه لكنهم كانوا يكتبون الآن بين بؤبؤ عينه وبين جفنها، وكان صوت أقلام العالم يصكّ مسمعيه على شكل مزيج من الفحيح والحكّ والخدش والخمش والصرير والتقشير. فاض به الكيل وخرج، وجرى جرياً لم يجرِه ولا في أيام صباه، وضجّ قلبه في أذنيه حتى أنهكه الجريْ، وانهارت خلاياه رافضةً هذا الشطط المبالغ فيه. وسقطَ عليه وجهٌ لشخص مزكوم، فقرأ في وجهه حرف ثاءٍ مقلوبة، الجبهة والعينان والأنف، وأحسّ بأنفاس هذا المتطفل وهي تلقنه الحرف وتعيد على وجهه رسم نقاطه. هبطت عليه سكينةٌ لدى غيابه عن الوعي، لكنّه انتفض حين وجد أنّ أحداً ليس حوله، وأنه كان يرغي ويزبد وهو خارج الوجود، وازداد الطين بلّة عندما رأى رؤوس أظافره وهي متقصفة لشدة ما كتبت على الرصيف بطريقة الخدش، وازداد ضيقا وضنكا وعذابا عندما رأى أن انحناءته وهو منكمش صنعت من جسمه حرف راء على خلفية رصيفيّة مثل رقعة الشطرنج، غاظه أن يكون حرفا صغيرا في لعبة الحروف الكبيرة، وتفاقمَ القهر في جوانحه عندما همس في سمعه طيف عابر بكلمات شديدة الجدّة عليه، ولكن لها حفيف الفراشات وخفّتها، قال له إنك لا تقشعرّ لمسمع حركة الحروف وإنما لاحتكاكها بالصدى والصدأ في أذنيك، وقال له ماذا ستصنع لو أنّك صعدت إلى السماء وسمعت صرير الأقلام على صفحة اللوح المحفوظ؟
أجاب وكأنه ينفض عن وجهه حرفا متطفلا:
- من أنت؟ لا تقل لي إنك ملاكٌ جاء من هناك أيضا، ارحل أيها الحشرة، فأنت ما جئت إلا لتزيد خيالي تقزّزا.
مسح الطيف جبهته بكفّ بضة لها براءة صحيفة فارغة، وغادَر، فأحسّ أنّ دوخته زالت، وتحامل على تعبه واستوى واقفاً، وإذا بكل شيء يتحول في وجهه إلى حروف، وكل شيء يبدأ بحرف الألف المنتصب، العمائر والأعمدة وهو نفسه الواقف يمثّل هذا الحرف الأبجديّ الأوّل، وإذا بمربعات الأرصفة وحصى الوادي والنوافذ كلها جيوش من النقاط، تتزاحم تزاحم الخليقة في يوم المحشر.