رواية القلم
تستقبلني من أوراق الورد – كلما نظرت فيها على غير شغف مني - رواية القلم ، وكلما قرأت سطرا جاش في الصدر سطر . لست وحدك أيها الأستاذ الفيلسوف ، فكل من صحب القلم يشعر أن بينه وبين قلمه سجالا ، يستنطق منه وسوسة النفس مغريا إياها بالجهر حتى إذا بلغت الحلقوم نكص ليذرها تتردد في الصدر تردد الحبر في جوفه ، كل ذلك وهو لما يبرح بعد مكانه ، وما كانت اليمين لتحتضنه لولا أنها ترى فيه نعم الذلول إلى مأمها على قفار الطروس ، فإذا من له جناح ويد وقدم حرون لا يتزحزح ، وإذا حديد البصر أعمى يتخبط ! وما هي إلا الحيرة والرهبة حبستا قطره ، وقيدتا خطوه ، أعاصير تتعاور القلب والعقل حتى لا يعلم القلم مشرقه من مغربه ، فلا يجد - والحال على ما أسلفت - إلا أن يحتال لنفسه خشية أن يولي الأدبار أمام ناظريكِ ليلحن تارة ويعمي تارة أخرى بكلم ود لو أنك تقرئينها كما نفجت من سويداء القلب كندى الورد ودخان الحمم .
أحسب قلمي يا حبيتي لا يتمنى إلا أن تعلمي ما يقوله قلبي لك دون أن ينقش نقطة ، أليست اللغة بيننا كالأخبار التي شهدنا معا تفاصيل أحداثها ، فماذا يزيد قولي كنتُ وكنتِ وأنا وأنت .
إن كنت أيها الفيلسوف تحبها ، فبالله كيف طاب لك أن تنبز قلمك بالخبث ، وهو الرسول بينكما ! بل كيف طاب لك – وأنت تهابها - أن تجعل بدء القول منها " سيدي الأستاذ الفيلسوف "!
تالله ليس الذي كان منك من الصبابة أو البلاغة في شيء ، أو هذا ما فررتَ منه ؟! أ تجعلها تجري القلم من بعد عنائك معه ونعتك إياه بالخبث بسيدي الأستاذ الفيلسوف ولتثني عليك وعلى بلاغة بيانك تصريحا وتلويحا .
ما كان أحراك – وأنت الرافعي – أن تقول على لسانها ما كان المنفلوطي سيمليه على قلمها :
" حبيبي
لم يخالجني الريب قط في أن تأخر رسائلك عني هو السبب نفسه الذي يؤخر رسائلي عنك ، وماذا أقول يا حبيبي ، وقد كانت النظرات منا في آخر لقاء جمعنا لغة فك رموزها قلبي وقلبك ، قد قرأت في عينك يا حبيبي ما أملاه قلبي عليك ، وآنست في كبدي حرقة حمرة عينك ، كالذي آنسته من حمرة عيني في كبدك ، يا حبيبي أنا وأنت وحدنا في غنى عن حشد الحروف وسفارة القلم ، بالله عليك ماذا سيقول لي وأنت في القلب المليك ، وماذا سأقول لك وأنا في قلبك أعلم منه ما لا تعلم أنت عنه .
هذه يا حبيبي رواية قلمي وقلمك ، فلا تشك لي كبوة قلمك أو تلعثم لسانك متى ما التيقنا ، وعساه أن يكون قريبا جدا .