الرّاحِلون إليناكَمْ هو قاسٍ ذلكَ الشّعورُ الذي تَخْتَرِقُ سِهامُهُ أعماقَنا، وتُمَزِّقُ سَكاكينُهُ أوْصالَنا، وَتَحْتَلُّ تَداعِياتُه أفكارَنا، حينَ التقاطِ الأُذنِ لذَبذَباتِ كَلِمَةِ الرَّحيلِ، واستيعابِ العَقْلِ أنَّ فيه اللّاعودة.
وَكَمْ يَكونُ أشَدَّ قَسوةً، عندما نرفُضُ تقبّلَ ابتعادِ، ومغادرةِ مَن أحبَبْنا إقامَتَهُ بينَ ظهرانينا؛ رغمَ تملّكِهِ لأحاسيسِنا؛ حيثُ نَأبى الإيمانَ باللاعودةِ، فنُطارِدُهُ؛ أمَلًا أنْ نَبقى مُمسكين بتلابيبِ مشاعِرِنا التي أغدقناها عليه؛ وطمعًا بتجديدِ ما كانَ يمنَحُنا مِن شعورٍ سكَنَ ذواتِنا، وَتَزاوَجَ وَمشاعِرَنا !
عجيبٌ وغريبٌ ذلكَ الدّفقُ العاطفيُّ الذي ندلقُهُ خلفَ مَنْ رَحلُوا، وكأنّا نأمُرُ ديمةَ مشاعرِنا باللّحاقِ بهم، وإغراقِهِم بمطرِ محبّتِنا؛ كي نُقنعَ دواخلَنا أنَّ عواطِفَهُم نحوَنا لا تزالُ رطبةً، ولن تجفَّ رغمَ عزلِها، وستبقى مثلما عَهدناها، وطامعين بِنَداها ...
والأغربُ أنّنا نجدّدُ العواطفَ، ونضاعفُ مِن تدفُّقِها نحوَهُم... فها هوَ الموتُ يَخطفُ منّا عزيزًا، ويغيّبُهُ في ساحاتِ الغيبِ؛ لِنشعرَ بعدَ حينٍ أنَّهُ يرحلُ إلينا، وليس عَنّا . فيسكنُنا ونسكنُهُ، ويحتلُّ معظمَ ما يحرّرُهُ العقلُ من أفكارٍ، وجُلَّ ما تفرزُهُ العاطفةُ مِن مشاعِرَ ...
تُقيّدُ سلاسلُ الفَقدِ كُليّتَنا، فنرغبُ أحيانًا في شدِّها؛ لئلّا تفلتَ منّا، وتُحرّرَ ما قيّدتْهُ؛ رغمَ إدراكِنا أنَّنا نخوضُ غمارَ حربٍ عاطفيّةٍ خاسرةٍ !
تجفُّ مآقينا ترطيبًا لذِكراهم التي نبغي إبقاءَها حيّةً بدمعِ العطفِ والمحبّةِ، ونحيا بها مُعتزّينَ، وبزرعِها داخلَنا مُتباهينَ...
ونقضي العمرَ وفراشاتُ أطيافِهِم تحلّقُ فوقَ رؤوسِنا، وصليّاتُ حنينِهِم لا تُبارحُ لسعاتُها جسومَنا، فَتَغدو للجسدِ كاويةً، وللرّوحِ حارقةً... ونعيشُ حالةَ تلبُّسٍ وتقمُّصٍ . ننامُ.. نقومُ.. نصحو.. نغفو.. نصرخُ.. نصمتُ.. نحزنُ.. نفرحُ.. نقسو.. نلينُ.. نتعبُ.. نرتاحُ.. نأبَى.. نرضخُ.. لا تفارقُنا الأطيافُ ولا لَظاها ، ولا نريدُ لها فراقا... ولا ندري لماذا... !
يفرّقُ الدّهرُ بينَ المحبّينَ، فيرحلُ الحبيبُ جسدًا، وتظلُّ الذّكرى دثارًا يلفُّ جسدَ المُحِبِّ. يعيشُ داخلَهُ ناسجًا من خيوطِهِ بيوتًا محجوبةً عنِ الأعيُنِ، يُسكِنُها عواطِفَهُ القديمةَ بلوعتِها، والجديدةَ بحرقَتِها... ويشدُّهُ أحيانًا؛ ليشعُرَ بالدّفءِ ، وينجُوَ من صقيعِ البردِ العاطفيّ ... ويقضي عمرَهُ تطاردُهُ الذّكرى، فتَراهُ يقعدُ مناجِيًا ما مَضى، وسابحًا في فضاءِ أحلامِ ما انقضى ... ويستفيقُ متأخّرًا حزينًا على ما ضاعَ من أوقاتِهِ سُدى... ومندهشًا من حالِهِ الذي يَرى... فيحرقُ عليهِ الأُرّمَ، ويتمنّى لو هداهُ اللهُ، وسَقاهُ من كأسِ الهُدى، لينسى عذاباتِ مَنْ قَد هَوى.