وادي إِيسْكَا
إلى عيونِ اللُّوتس في انتظارها السَّاخن لنضج الفاكهة
تدلَّت كخرقةٍ متطايرة مع الرّيح على العمقِ المخيفِ من الوادي، النَّظرُ إلى الانحدار السِّحيقِ يولّد خوفاً متعدِّدَ الأبعادِ، خوفاً يعتقلُ جغرافيةَ الجرأة. تشبَّثت بجذر الشَّجرة المقوّس النّافر بين الصّخور، تحاولُ بعنادٍ حديديٍّ شرسٍ الاستمرارَ في الصّمود، أصابعُها الفستقية التفَّتْ على جذرٍ نافرٍ، ازرقَّت متعبةً، لا تترك الجذرَ فتهبط بقوة ثقلها، ولا تصعَدُ لتنقذَ نفسها، كمُّ الفستان انزاح إلى الكتفِ، معرّياً زندها البضّ، فتعرَّشَت خطوطٌ زرقٌ بين ثلجِ بياضها، الشّال المزركش يتمايل متناغمةً مع الرّيح. عيناها الشَّبيهتان بلون انعكاس الشّمس على صفحة الماء تستغيثانِ صامتتينِ، عينانِ اختلستا من الزَّيتون لونه الملكي الشَّامخ، بريقهما يرسمُ مساحاتٍ شاسعةً من حبّ الحياة على خديها المتورّدتينِ.
النَّاسُ يتناثرونَ في مفاصل المرج المنبسط تحت ظلال الأشجار وعلى جنباتِ الصّخورِ الصَّامتة، منشغلينَ بشؤونهم غير الواضحة، في لحظةِ انسجامٍ مع الطَّبيعة، شؤونٌ صغيرةٌ وكبيرةٌ لا تخضع لحكمِ التّرتيبِ، فيُضيعُ المرءُ سنين عمره دون إنجازها. لا أحد يعيرُ انتباهاً إلى رسائل الاستغاثةِ من عينيها، يتجاهلونَ صدى صوتِها المنْبَعثِ من شتاتِ الوادي السّحيق.
انبطحتُ أرضاً، زحفتُ نحو جذع الشّجرة، قبضتُ على وتدٍ قويٍّ من جذعها، مددْتُ يدي الأخرى نحو يدها القابضة على مُغيثِ الشّجرة، لامَسَتْ أصابعي ظاهر يدها، كانت ناعمةً رغم قوّة العناد فيها، تسرَّبت قشعريرةٌ ساخنةٌ إلى أصابعي، سخونةُ الظَّاهر ليستْ دائماً انعكاساً لبرودة المخفي، شعرتُ بأنَّ روحها انتقلتْ إلى يدي وأنَّ روح الحياة في نفسها تشبَّثَتْ في نفْسي. التفَّتْ أصابعي كأسوارٍ على معصمِ يدها، طلبتُ منها التسلُّقَ اعتماداً على قوة زندي . استوطنَ شكٌّ في داخلي بأَّنها تتماطلُ ثقيلةً، وكأّنها لا تريدُ الصّعودَ، فلاحَتْ في نفسي فكرةٌ جنونية : أأتركها تهبطُ إلى عمق الوادي الشَّاهق؟ هل كانتْ تريدُ الانتحارَ ؟ فأقدمتْ في لحظةٍ غابَ فيها العقلُ عن الشّعورِ، على هذه المحاولةِ، ثمَّ تراجعتْ عندَ التقاء الموتِ بالحياةِ ؟ أم زلَّ بها قدرُ السّقوط فأوصلها إلى طرفِ الهاوية.
نظرْتُ إلى عينيها بالتفاتةٍ خاطفةٍ، كانتا غيمتينِ تُمطرانِ أملاً أبيضَ مشوباً بلون الغسق المرتسمِ على صفحة الغروب، فيما تجري خيولُ الحبِّ صامتةً فيهما، تخبّئانِ موجاتٍ متكسّرةً تنداحُ إلى براري الطّفولة، قرأتُ فيهما لهفةَ الانعتاق من السّقوطِ الكارثيّ، نظرتُ خلفي آملاً في العثورِ على مُغيثٍ قريبٍ. كلٌّ يسرحُ في شؤونه.
صرختُ طالباً منها الصّعودَ قبل أنْ تستسلم أيدينا للارتخاء، نظرتْ إليَّ صامتةً، ألوانُ الطَّيف الشَّمسي كلُّها تتمازجُ في عينيها، تمنحني قوةً جارفةً، سحبتُها بقوّة كبيرة تجمعَتْ في داخلي، ولَّدتْها رغبةُ الإنقاذ، رأيتُها تضعُ رجلها على نتوءٍ بارزٍ في الصّخر الحاضن للشّجرة، استجابةً لنداءٍ روحيٍّ في داخلها التقى مع النّداء المنطلقِ من روحي، فصعدَتْ إلى الأعلى، تمكَّنتُ من الإمساكِ بيدها، وسحبتُها ثانيةً. وضعتْ إحدى رجليها على جذعِ الشّجرة وقفزتْ بقوّة نحوي. عانقتني بعد إن سقطتْ على صدري، أنفاسُها اللاهثةُ تلحفُ وجهي، ثمَّ وضعتْ رأسَهَا على كتفي. تنفَّستُ الصّعداء، فشعرتُ بثقلها النَّاعمِ اللَّدن. كانت روحها تتسرَّبُ إليَّ، رفعتُ رأسي وإذ بها تنظرُ إليّ بعمقٍ كثيفٍ ثقةٍ.
" الأنثى دافئةٌ دائماً، عندما تحزن، عندما تفرح، عندما تحبُّ؛ هي دافئة حتى عندما تكره " .قلت لها ذلك . " كنتُ جزءاً منك، منسياً، جزءاً تائهاً في مجاهيل الحياة، لم تبحثْ عنّي في غناء الحياة، فأَنْقَذتَني في ثراء الموت " قالت ، ثم أسبلتْ رموشها. باغتَتْني ثانية : كنتُ ذلك الجزء الذي أهملتَهُ، حتى علا الغبار عليه، هل أستحقُّ الحياة ثانيةً كي تجازفَ من أجلي؟
«كنتِ مختبئةً في ثنايا المجهول الغارقِ في فقهِ العدمِ، كنتِ مختبئةً في كلماتٍ تلاشتْ معانيها منذُ غابرِ الأزمانِ، بحثتُ عنكِ في ضفافِ الأنهار، في أزقّةٍ تنكَّرتْ لصوتي، في مدنٍ رحلتِ منها، في كتبٍ أهملها القراءُ المنشغلونَ أبداً في ترتيبِ اللازمن » . قلتُ لها يقيناً منّي بأنَّ الأنثى هي حروف الكتبِ، بل هي دموعُ الغيمة في عطفها على الأرض، وهي قطراتُ القلبِ على القلبِ.
اعتدلتْ في جلستها، ونظرتْ في عينيَّ قائلةً: كنتُ ثمرةً دانيةً فقطفَني غيركَ لحظةَ انشغالكَ بتوزيعِ ابتساماتك على القرويينَ، كنتُ حديقةً لم تزرْها ولم تسقِها، كنتُ ذلك الضّوء الذي يمدُّكَ بالحياةِ، وذاكَ الأفق الذي يغرقكَ بالآمال، بل إنّي من أنفاسِ هذا القلبِ النَّابضِ فيك.
نظرتُ إلى شفتيها الكرزِيَتَينِ والرّيح تقبّلهما، وقرّبْتها من نفسي، مترجماً نبضات قلبي: إنّكِ شاطئُ أمنياتي، واخضرارُ حقولي، فالدّم الثائرُ في عروقي دمكِ، وهذه الرّوحُ الشّفيفة التي أحملها روحكِ. تعانقنا بقوّة حتى تلاشينا، وصعدنا كبريقِ ضوءٍ خاطفٍ إلى السّماء، وأصبحْنا شهقةً خافتةً يتنفَّسُها الغروب.
الرّياض في 23/11/2009م