قسم اللغة العربيّة، كلّيّة الآداب، جامعة الموصل
أطرحه لنيل شهادة دكتوراه فلسفة في الأدب العربي .. د. حكمت صالح.
نوقشت في30 ذي الحجّة 1422هـ ـ 14 آذار 2002م, وحصلت على درجة امتياز .
*:*:*
قال الله في كتابه الكريم مخاطباً رسوله الأمين
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة/16ـ19]
مع تفرّد كلمة "تُحَرِّك" في القرآن الكريم بصيغتها الفعليّة؛ فهي عنصر مهمّ في منظومة لفظيّة تُعبّر عن قضيّة من أخطر القضايا على مستوى التاريخ البشريّ. إنّها تتعلّق إذن بمسألة تلقّي الوحي الكريم.
إنّ تقليب هذه المسألة على وجوهها كان مدعاة لمزيد من التأمّل في ظاهرة الحركة؛ إلى أن غدت مشروع بحث علميّ؛ تمخّضت عنه هذه الدراسة التي بين أيدينا.
لِمَ "الحركة"؛ وليس"الحركة والسكون" ؟. الحركة هي: الخروج من القوّة إلى الفعل.. إنّ كلّ شيء في هذا الكون في حركة دائبة من عالم الذَّرَّة إلى عالَم المجرّة.
قد يقال: إنّ السكون هو المُطْلَق والحركة نسبيّة. ولهذه المقولة امتدادات ترتبط بمواقف عقَدِيَّة خاض فيها الفكر الفلسفيّ منذ حقب موغلة في القِدم. فقد تدرّجت العقول البشريّة في فهم وإدراك الكون، وفي الحديث عن القوّة التي تسيّره وتحرِّكه. وهذا الجانب يمثّل المساحة الميتافيزيقيّة الكبرى من التفكير الفلسفيّ على مرّ العصور.
في تاريخ الفكر الغربيّ شغلت مسألة الحركة والسكون عقول (سقراط وأفلاطون وآرسطو) وغيرهم. واستمرّت غلبة فكرة أنّ السكون هو المطلق والحركة نسبيّة إلى عصر النهضة.
وفي تاريخ الفكر الإسلاميّ عاد هذا الإشْكال [ الحركة والسكون] ليواجه المفكّرين الإسلاميّين إثر حركة الترجمة عن اليونانيّة، واستفحل هذا الإشكال فيما بعد، وشغل مساحات من المدوّنات الفلسفيّة، فكتب (الغزاليّ) عن الحركة في كتابه"تهافت الفلاسفة"، و(ابن رشد) في "السماع الطبيعيّ" و"تهافت التهافت" وغيرهما مثل (ابن باجة الأندلسيّ) و(ابن سينا) و(الفارابيّ) و(الفخر الرازي) والفرق الإسلاميّة (المعتزلة والماتريديّة والجهميّة) وحتّى جماعة "إخوان الصفا" في رسائلهم …. إلخ.
ولأنّ دراستنا أدبيّة النزعة هدفاً ومنهاجاً؛ فقد حاولتْ تجاوز مثل هذا الإشكال؛ وانحصرتْ في "الحركة" دون "السكون" إلاّ ما كان لابدّ منه في استيضاح وإضاءة "الصورة الحركيّة" من خلال الرؤية التي اعتمدتها هذه الرسالة.
الحقيقة واحدة: ذلك أنّ بعض الباحثين ذهب إلى القول بـ"أنّ كلاًّ من الوعي السكونيّ والوعي الحركيّ يظهر حين بستنفذ الآخر إمكانات وجوده وفاعليّته؛ أي: حين يستنفذ ذاته. ومعنى ذلك أنّ جدليّة تطوّر الوعي تحيل أحدَهما إلى الآخر؛ فيتحوّل الوعي السكونيّ إلى وعيٍ حركيّ؛ وبالعكس".. قد تصدق هذه المقولة في إطار تاريخ الفكر.. لكنّ الحقيقة في الواقع لابدّ أن تبقى واحدة.
في جانب من قصّة خَلْق آدم وخلافته في إعمار الأرض: يتمثّل الجانب الحركيّ في خلق (آدمَ ) وهبوطه من الجنّة: في أنّ سُنّة التطوّر البشريّ على سطح البسيطة كان ضمن المشيئة الإلهيّة لإعمارالأرض. وهي مَهمّةٌ اختار اللهُ لها (آدمَ ) وذرِّيَّتُه.. لقد كانت هذه المشيئة الإلهيّة قبل خلق (آدمَ ).. ومن باب ربط الأسباب بالمسبّبات كانت غِواية ( إبليس ) لـ (آدمَ ). ولعلّ تلك الغواية كانت سبباً في تكييف (آدمَ وحوّاء ) للحياة على الأرض حيث وُجِدت لديهما غريزة حفظ النوع والله تعالى أعلم.
كان الهبوط بعد التوبة وبعد العفو. الأمر الذي جعل (آدمَ ) بمستوى مسؤوليّة الخلافة في الأرض، فالمشي في مناكب الأرض؛ والأكل من رزق الله ـ تقتضيهما الحياة وسُنّة التطوّر، وهما ينبثقان عن وعيٍ بالحركة التي تقوم عليها الحضارة الإنسانيّة؛ وينتهج سبُلَها التقدّمُ البشريّ. من هذا المنظور وُصِفت الحضارة الإسلاميّة بأنّها " حضارة حركيّة / بانية ".على أنّ السعي في الأرض مشروط بالاستقامة ليُؤتيَ أُكُلَه في الحياة الدنيا أوّلاً؛ ثُمّ في الآخرة ثانياً؛ وهو الهدف الأسمى.
بعد ذلك تأتي ـ في المنظور القرآنيّ ـ مرحلة النشور؛ (تصفية الحساب والخلود إمّا في الجنّة وإمّا في السعير). هذا المصير هو الذي يجعل من المسلم رقيباً على ما يساور نفْسَه. وعلى ضوئه يحدّد طبيعة علاقاته الحركيّة مع الذات والمجتمع ومع الله .
وعن تنوّع الحركة وشموليّتها يمكن الإشارة إلى أكثر من نوع:
فهناك حركة في عمليّة الخَلْق والإبداع، ويلاحَظ الجانب الحركيّ في ما منه البدء في عمليّة الخَلْق؛ ثمّ في النشور.
في حين يتجلّى الجانب الجماليّ في التقابل بين البدء بالخلق وإعادة الخلق يوم القيامة.. وهناك حركة النفس الإنسانيّة التي أودع الله تعالى بها نوازع الخير ونوازع الشرّ؛ لتتحمّل المسؤوليّة من خلال الاختيار الذي يُبنى عليه الموقف الفكريّ من عموم القضايا التي تواجه الإنسان في الحياة.
وهناك الحركة في التاريخ؛ حيث أنّ التاريخ يعتمد على عنصر الزمان، و"الزمان" هو عنصر من عناصر الحركة إلى جانب "المكان". ويقوم التاريخ أيضا على تعاقب الأجيال. ومداولة الأيّام بين الناس ظاهرة حركيّة تتأتّى من خلال التعاقب والتدرّج عبر الزمن. فهي مؤشِّرٌ على التطوّر الحضاريّ، يستقرّ حيث الصلاح.
والحركة في المجتمع ـ في المنظور الإسلاميّ ـ تتّضح من خلال قاعدة: أنّ الأرض يرثها عباد الله الصالحون.
وهناك حركة الكون، والآيات التي تتحدّث عن الحركة الكونيّة كثيرة في القرآن الكريم، سباحة الأجرام السماويّة في أفلاكها ـ كما تبدو للعيان من خلال الكون المنظورـ فيها من عناصر الجمال والتنسيق والاتّزان ما تتجلّى فيه قدرة الباري.
يشارك في جماليّة التعبير القرآنيّ التقابل بين ["الليل"/و"النهار"]، ففي تعاقبهما على التوالي تتجلّى استمراريّة الحركة الدائبة في نسق منتظم ووفق نواميس قدّرها الله سبحانه وتعالى. وتُلاحَظ المخالف في الترتيب بين [ "الشمس"/و"القمر"] وبين ["الليل"/و"النهار"]، ولعلّ في ذلك إشارة إلى أنّ مع هذا الاختلاف فالانسجام حاصل "وكلٌّ في فلَكٍ يسبحون".
لقد تبيّن لنا أنّ الوجود منضبط بحركة فاعلة.. ومتفاعلة.. متطوّرة.. متجدِّدة.. متَّجهة؛ يمكن أن توصف ـ بشكلٍ عامّ ـ بالصاعدة.. أوالمتقدّمة [بالرغم من نسبيّة الحيّز وحسّيّة المكان أو معنويّته]. ولحركة الحياة محرِّكُها، وأسبابها، وغايتها، فهي ليست حركة عابثة ولا عشوائيّة ولا فوضويّة. إنّها منضبطة بقوانين؛ سواء على المستوى الحسّيّ ـ المادّيّ (المنظور والمسموع)؛ أم المعنويّ ـ الاعتباريّ (العقليّ،النفسيّ،الروحيّ).
تُطلق الحياة ـ فيما تُطلق ـ على الحَرَكَة النَّامِيَةِ: ( إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا ).. وعلى الحَرَكَة الحَسَّاسَةِ: ( لَمُحْيي المَوْتَى ).
وسنجد أنواعاً من الحركة متعدِّدة الاتّجاهات؛ فمنها: العموديّة: (الصاعدة والهابطة). والسطحيّة: (المقبلة والمدبرة). والأفقيّة: (الجانبيّة والانتشاريّة). والدائريّة والدورانيّة.
وعن رصد الحركة في التصوير القرآنيّ؛ فإنّ " الحركة أصعب من أنّ تحاط بقيود أو أن تُحدّد بأشكال، ذلك أنّ مفاهيم الحركة قد تعدّدت ضمن تفرّعات ثانويّة أُخرى تنحصر في مفهوم شامل لحركة الأشياء. كما تختلف دلالاتها الاصطلاحيّة والتخصصيّة وفقاً للحقول المعرفيّة المتنوّعة.
وإذا كان بعض الباحثين في مجالات الدراسات القرآنيّة قد استثمروا معطيات بعض العلوم في تفسير القرآن الكريم أو جانب منه، فإنّ كثيراً منهم لم يجد في آليّات الفنون ومعطياتها ما يوظّفونه لاستشفاف جماليّات النصوص القرآنيّة. ولعلّ ( سيّد قطب ) من أهمّ الذين يمكن استثناؤهم؛ وذلك في محاولته الرائدة المتمثّلة في كتابيه: "التصوير الفنّيّ" و"مشاهد يوم القيامة".
وانطلاقاً من كلّ ما سبق فقد اشتملت الرسالة على: مقدمة، وتمهيد، وفصلين، وخاتمة، وقائمة بمصادر البحث. وقد احتوى التمهيد: مفهوم الحركة لغة واصطلاحاً، ومفهوم الجمال والجماليّة، وجماليّات الحركة التصويريّة، والحركة في الحقول المعرفيّة. أمّا الفصل الأوّل الموسوم بـ( جماليّات التشكيل الحركيّ في القرآن الكريم) فقد اشتمل على أربعة مباحث. في المبحث الأوّل درسنا اتّجاهات الحركة التصويريّة؛ المتمثّلة في الحركة الصاعدة والهابطة.. المقبلة والمُدْبرة..الجانبيّة والانتشاريّة. وفي المبحث الثاني درسنا أشكال الحركة التصويريّة؛ المتمثّلة في: الدائريّة.. الموجيّة.. الاهتزازيّة. وفي المبحث الثالث درسنا طبيعة الحركة من حيث كونها متقطّعة أو متكرّرة. وفي المبحث الرابع درسنا وسائل تلقّي الحركة التصويريّة المتمثّلة بالبصَريّة والسمعيّة. وقد حاولنا أن نوضّح الجوانب الجماليّة في النصوص حيثما وجدنا إلى ذلك سبيلاً.
أمّا الفصل الثاني الموسوم بـ( مجال الحركة التصويريّة في القرآن الكريم) فقد اشتمل على ثلاثة مباحث. في المبحث الأوّل درسنا المجال العلويّ أو السماويّ. وفي المبحث الثاني درسنا المجال السفلي أو الأرضي. وفي المبحث الثالث درسنا مجال التواصل؛ الذي يتشكّل من خلال صيغة التفاعل أو التمازج بين المجالين العلويّ والسفليّ. وما قلناه عن محاولات إبراز الجوانب الجماليّة في الفصل الأوّل يصدق على الفصل الثاني.
في الخاتمة ذكرنا أهمّ النتائج التي توصّل إليها البحث في إطاريه النظريّ والتطبيقيّ. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
موصل: 30 ذي الحجّة 1422هـ ـ 14 آذار 2002م
نشر هذا الملخص في جريدة الزمن البغدادية.