أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: قراءة في قصيدة " النهر والموت "

  1. #1
    الصورة الرمزية مُنتظر السوادي قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Sep 2010
    الدولة : العراق + البصرة
    العمر : 41
    المشاركات : 584
    المواضيع : 91
    الردود : 584
    المعدل اليومي : 0.12

    افتراضي قراءة في قصيدة " النهر والموت "

    قراءة قصيدة " النهر والموت "
    لبدر شاكر السياب
    بقلم منتظر السوادي
    العراق – البصرة

    متن القصيدة
    " النهر و الموت "
    بويب
    بويب
    أجراس برج ضاع في قرار البحر
    الماء في الجرار و الغروب في الشجر
    و تنضح الجرار أجراساً من المطر
    بلورها يذوب في أنين
    بويب يا بويب
    فيدلهم في دمي حنين
    إليك يا بويب
    يا نهري الحزين كالمطر
    أود لو عدوت في الظلام
    أشد قبضتي تحملان شوق عام
    في كل إصبع كأني أحمل النّذور
    إليك من قمح و من زهور
    أود لو أطل من أسرّة التلال
    لألمح القمر
    يخوض بين ضفتيك يزرع الظلال
    و يملأ السّلال
    بالماء و الأسماك و الزهر
    أود لو أخوض فيك أتبع القمر
    و أسمع الحصى يصل منك في القرار
    صليل آلاف العصافير على الشجر
    أغابة من الدموع أنت أم نهر ؟
    و السمك الساهر هل ينام في السّحر
    و هذه النجوم هل تظل في انتظار
    تطعم بالحرير آلافا من الإبر
    و أنت يا بويب
    أود لو غرقت فيك ألقط المحار
    أشيد منه دار
    يضيء فيها خضرة المياه و الشّجر
    ما تنضح النجوم و القمر
    و أغتدي فيك مع الجزر إلى البحر
    فالموت عالم غريب يفتن الصّغار
    و بابه الخفي كان فيك يا بويب
    عشرون قد مضين كالدّهور كل عام
    و اليوم حين يطبق الظلام
    و أستقرّ في السرير دون أن أنام
    و أرهف الضمير دوحة إلى السّحر
    مرهفة الغصون و الطيور و الثمر
    أحسّ بالدّماء و الدموع كالمطر
    ينضحهنّ العالم الحزين
    أجراس موتى في عروقي ترعش الرنين
    فيدلهم في دمي حنين
    إلى رصاصة يشق ثلجها الزّؤام
    أعماق صدري كالجحيم يشعل العظام
    أود لو عدوت أعضد المكافحين
    أشدّ قبضتيّ ثم اصفح القدر
    أود لو غرقت في دمي إلى القرار
    لأحمل العبء مع البشر
    و أبعث الحياة إن موتى انتصار

    بويب

    نهيرٌ صغير لم يرتوِ من الماء في أغلب فصول السنة , فالظمأ لونٌ لهذا النهر , إذ الجفاف وتشققات وجه القاع منه عميقة , والسيّاب ابن القرية التي تحتفل عندما يمتلأ بويب بالماء , فكان حلم هذا الفتى أن يملأ هذا النهر بالخيرات , فراح بعدما أشتد لسانه يغرقُ أساطيل الشعراء فيه , وتاهت على ضفافه شياطين الفحول من الشعراء , وخرَّ ديوان العرب مكبراً لحرفه البائس , ومن ثمة فقد جيء ببويب إلى خارطة العالم قسراً وقهراً , وجعل منه بحراً يعجُّ بالذكر , فهذا النهر يمثل عند الشاعر الوطن و الأهل , والحلم البريء , قد ترك السياب بصمته في الشعر العربي المعاصر لا يمكن إخفاءها , وقدم إبداعاً جعله من زعماء مملكة الشعر العربي .

    البيئة لها أثر كبير في نتاج الشعراء , ولما كانت بيئة السياب يسودها الجدب , ويرعاها الموت بقطيع من الأمراض والعلل , كان الموت في العراق يعشب مع الشجر , ويرقص حتَّى على ضوء القمر , وقد ملأَ النهرين الكبيرين الذين يشقان البلاد من الشمال حتَّى الجنوب بالدموع , فالبلاد عبارة عن غابة من أغصان الألم , تُسقى بوابلٍ من الدموع , والنهر والموت نصّ قد صوّر لنا تلك الحال التي يعيشها العراق .

    لنبتدئ من العنوان فهو يمثل " عتبة دخول القارئ إلى فضاءات النصّ والتفاعل معه بحيوية " فهو يُعطي القارئ مفتاحاً يلج به عالم القصيدة , ونجده يحمل ثنائية النهر ؛ مكمن الماء وهو مصدر الحياة , والموت ؛ هو الاسم الذي يرعب الصغار ويدمع الكبار ويفرّق العشاق , وهو رمز الفناء والانتهاء , لماذا اختار النهر - بويب - وجعله مرتبطاً بالموت ؟ " وبابه الخفي كان فيك يا بويب " ؟
    إِنَّ النهر " بويب " هو معادل موضوعي للعراق , فهو يمثل موطنه ومحطة أحلامه , ومرتع طفولته التي أختطفاها الزمن ؛ فالعراق بلاد الأنهار والمياه , وبلاد الخيرات , وكذا النهر سرُّ الحياة , وقد اختار " بويب " من باب تسمية الكل باسم الجزء ثم دمجه بالموت , و بدا لي أن الشاعر إتخذ من بويب الذي بثِّه حنينه وشوقه , فأختزل العراق في "بويب" الوطن الذي فيه ذكريات طفولته وشبابه إذ يقول :

    " و تنضح الجرار أجراساً من المطر / بلورها يذوب في أنين "
    فيصور الشاعر تلك الأُمسيات الجيكورية , أثناء عودة النساء كسربِ إوزٍ من الشاطئ , محملات بجرار الماء , ويقطر على أَكتافهُنَّ رنينه كجرسٍ عتيقٍ , فيمتزجُ ذائباً صوتُ الماءِ مع أَناتهنَّ ودموعهُنَّ وأمانيهُنَّ , فلا يُعرَفُ دمعٌ أم ماء ؟ ....

    و رُبَّما المراد بالجرار هي الغيوم حيث هي تنضج أجراس المطر التي تضيع في قرار البحر كما في الشطر الأول من النص .. والدلالة الكلية على أنَّ البحر يبتلع خير البلد ومطره حين قال الماء في الجرار والغروب في الشجر / البحر يبتلع ماء الجرار وهو المطر وتضيع أجراسه في قرارة الأمواج , وهناك نظرة أخرى وربّما أَكثر عمقاً حيث إِنَّ المعنى هو النسوة يبكينَّ على تلك الدماء التي غارت في الأعماق " أجراس برج " وهذه الأجراس هي " أجراس موتى " فمن أَجل هذه الدماء تسقطُ الدموع وتمتزج بالأرض مع الأنين , وهذه الدموع هي قطراتٌ من دماء الروحِ والقلبِ تهاجر أَسراباً إلى أحبابها الذين غُيبوا في القرارِ , عندما يجتمعن الأمهات ويتذكرن أبناءهن وأزواجهن , والفتيات عند الشاطئ يتذكرن تلك الأَمسيات مع الأحباب الذين لم يبقَ منهم سوى أصداء الذكريات , فتنهال الدموع هنا هناك .
    ثم يشبه الشاعر العراق بنهرٍ , لكثرة خيرات النهر , وحزينٍ فلتفشي الفقر والفاقة التي عششت وباضت في هضابه , لهذا وصفه بالنهر الحزين , بل زاد في وصفه وجعله غابة من دموع .


    أجراس برج ضاع في قرارة البحر
    بويب يا بويب
    فيدلهم في دمي حنين
    إليك يا بويب
    يا نهري الحزين كالمطر
    لا تمتزج قطرات المطر مع الرمل إلاّ بأَنين في هذا البلد الحزين , وما الندى على وجهه إلاّ دموع الفقراء والمحرومين , إستخدم الشاعر المطر رمزاً للحزن مفارقاً لما قد رسخ في الأذهان , ويبدو أَنَّه يتناص مع القول المأثور " تضحك الأرض عندما تبكي السماء " فالمطر هنا دلالة على حزن عميق , وحتى قطرات المطر هي بمثابة دموع تهطل من السماء في بلد الأحزان , لاسيما في ليالي الشتاء الباردة حينما تكون وحيداً وتسمع وترى زخات المطر من النافذة, وقد أبدع الشاعر في تصوير هذا المشهد في أنشودة المطر فقال : " أتعلمين أيَّ حُزْنٍ يبعث المطر ؟ / وكيف تنشج المزاريب إِذا انهمر ؟ / وكيف يشعر الوحيد فيه بالضّياع ؟ / بلا انتهاء - كالدَّم المراق ، كالجياع " , فهو يؤكد هنا على هذا التشبيه , فالشاعر يحسُّ أَنَّ " الدماء والدموع كالمطر " التي ملأَت بلاده , فقال : " أَغابة من الدموع أَنتَ أَم نهر " وبالتالي فلم يكن العراق سوى غابة من دموع ودماء وما يرافقهنَّ من آهاتٍ وحسرات وزفرات .

    أودُّ لو عدوت في الظلام
    أشدُّ قبضتيّ تحملان شوق عام
    في كلِّ إصبع كأني أحمل النّذور
    إليك من قمح و من زهور

    يريد الشاعر أن يسابق الخطى رغم الظلمات - المادية والمعنوية - إلى بلاده مشتاقاً ليصلَ إلى زمن يتضوعُ بعطر التغيير محملاً بالأضواء والزهور فقال : " يضيءُ فيها خضرةَ المياه و الشّجر , ما تنضحُ النجوم والقمر " فيكون التحرر من الظلم والظلام والحزن والفاقة , ومن هنا نستدل على غربة الشاعر المكانية والنفسية , فهو سَئِمٌ لا يطيق الوضع المعاش , لما حلَّ في بلاده من جدب وجوع وبؤس, بدلالة ما سيأتي به , فـ بالقمح يشبع الجياع , والزهور تعيد الأمل في النفوس وتقضي على أشباح اليأس , والظلام .
    أودُّ لو أطل من أسرّة التلال
    لألمح القمر
    يخوض بين ضفتيك يزرع الظلال
    و يملأ السّلال
    بالماء و الأسماك و الزهر

    وبعد أن تتحقق أمنية الشاعر بالتحرير والتغيير التي استخدم فيها الفعل " أَودُّ " إشارة إليها – يرى رمز الجمال والخير في القمر , - فهو الذي يضيء البيوت " يضيءُ فيها خضرةَ المياه و الشّجر , ما تنضحُ النجوم والقمر " - وعكس الأنين والصليل , ففيه ( القمر ) النقاء والهدوء - فالقمر يشق بنوره عتمة وظلام الليل ويرسم الشاعر لوحة رائعة هنا وهو يصف كيف يبسط ضوء القمر على الأنهار وكأننا أمام لوحة زيتية نرى فيها ظلال النخيل الشامخ غائراً ممتداً تحت زوارق الصيادين , إذ لا وجود للظل إلاّ بوجود الضوء , فيسطعُ بهاء القمر على الضفاف ويراقص الأمواج , ويملأ سلال الفقراء والغرباء بالقوت , ويغرسُ في قلوب الخائفين الزهر رمز الحبِّ والأمان , ويملأ البلاد بالحياة كما قال تعالى : " وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ " , ولأَنَّ علاقة القمر بالماء علاقة وطيدة إذ أنَّ ظاهرتي المدّ والجزر مرتبطتان بالقمر , ولهما أَثر كبير في نفوس الفلاحين , لاسيما في جيكور موطن الشاعر , نراه قد صرح بذلك في " و أغتدي فيك مع الجزر إلى البحر " لما له من وقع نفسي عميق , ويبدو أنَّ البحر يحمل أيضاً دلالة أخرى سلبية , فهو يرمز إلى الفناء والموت فهو مرتبط بالجزر أَولاً , ثانياً تتلاشى فيه أَصوات المكافحين فقال :

    " ضاع في قرارة البحر " .
    أودُّ لو أخوض فيك أتبع القمر
    و أسمع الحصى يصلُّ منك في القرار
    صليل آلاف العصافير على الشجر

    يريد الشاعر الخوض في كلّ بقعة يضيئ فيها القمر من أرض العراق , شمالاً وجنوباً , ويريد أن يغور إلى أعماق الأرض ليصل إلى السجون , و لفظة " القرار " تدلُّ على شيءٍ مخبئ في الأعماق , , وهناك يسمع أصوات أصفاد الحديد , للمعذبين والمسجونين تحت الأرض وهي تصلُّ بجدران الحجر فشبه السجناء بالعصافير لبراءة أصواتهم , وصليل الحديد الذي يقيدهم بالزقزقة . فهم كالعصافير التي تتوق لحريتها بعد طول حبس مصفد بالحديد في قفص . وربما يريد أن يسمع حركة الحصى على الأرض التي تدلُّ على الحياة والنماء ..كما نماء في الشجر الذي دلل عليه بآلاف العصافير فوجود العصافير على الشجر بكثرة دلالة على خضرة ونماء الشجر .. استخدام الصلصلة كدلالة على شدة عراك الحياة ومواجهة صعابها , وقد تكون الأصوات هي نعي الأمهات والزوجات على أَحبابهُنَّ المغيبين في تلك الغياهب , تصلصل في قلبه , وهو القائل واصفاً فقراء بلاده وصغارهم " وأقدامها العارية / محار يصلصل في ساقيه " , فمن كثر البؤس الذي أُسدل على هذه العصافير وعلى أحبابها أَضحت تنسى الكركرات الجميلة وأَصبح صوتها صليلاً
    أغابة من الدموع أنت أم نهر ؟
    يتساءل الشاعر هنا ويحاكي بلاده بعد طول الأسى قائلاً : أأنتَ بلاد الخير والأنهار أم أنت بلاد الحزن والبكاء ؟ أَ من الدموع والدماء جرى نهراك , أم من المطر ! صورة معبّرة ... حيث أن العراق هو أَرض السّواد , وإذا كان البلدُ كغابةً فيسود الغابة الظلام قطعاً , نعم ثم يقرر أَنَّ السواد ليس سوى الدموعٍ والدماء , فبلاده يحتضنها شبحُ الظلم والفاقة , فلنسرح بخيالنا مع الشاعر , لنرى كيف تكون الدموع غابة ؟ مستحيل , فأرض الغابة مرتفعة بأشجارها , والدموع تهطل إلى الأرض, فبِمَ نفسّر غابة الدموع إذاً ؟ فإذا أَخذنا من الغابة إنعدام الضوء وقد صرح بقوله : " والغروب في الشجر " ؛ أَي الظلام والعتمة والسّواد , وأما الدموع فبسبب الحزن والأسى والظلم , عندها نجد عاملاً مشتركاً ألا وهو الظلام الذي يلفُّ البلاد بردائه فهطلت دموعه صباحاً ومساءاً , و قد أَودع هذا الظلام في قصيدة سوداء رائعة هي " أُغنية في شهر آب ". أو (أراد الشاعر أن يقول بأنَّ أهمَّ ما يميز الغابة هو كثافة الأشجار فيها وتشابكها , وغابة من دموع أي أن ميزة هذا الشعب هي أحزانه الكبيرة الكثيرة ودموعه المتشابكة التي لا تجف ممتدة من شماله حتَّى جنوبه , كما تميز الغابة بأشجارها فالدموع هنا ملازمة للناس في العراق كما هي الأشجار بالنسبة للغابة , أي أن الدموع أصبحت سمة وعلامة تميز هذا الشعب عن غيره .
    و السمك الساهر هل ينام في السّحر ؟
    و هذه النجوم هل تظل في انتظار
    تطعم بالحرير آلافاً من الإبر

    وهنا يشبه الشاعر الشباب أو البحّارة الشباب المسافرين بحثاً عن تغيير بـ "السمك" المنتظر نهاية بائسة, هؤلاء الحاملين هّم التغيير والتحرير , عيونهم لا تنام, مغيبون في العتمات فهم كالعشاق ينتظرون في غسق الليل نسمة ريح تحمل لهم عطر الحرية وبزوغ فجرها الذهبي ليدحر بنورها الظلام , ويراقص نسيمها بؤس الدموع , وشبه الشاعر أيضاً الفتيات هنا بـ "النجوم" اللاتي ينتظرن الفرح والسرور وينتظرنَّ المسافرين من البحّارة ليجلبوا معهم الفرح المتعلق بالحرير وخياطة الملابس والإبر الدال على استقرار الحياة الأسرية وهدوئها, فهن يقضينَّ ليلهُنَّ بالسهر والانتظار ويزاولن أعمال التطريز والحياكة بدلالة " تطعم بالحرير آلافا من الإبر " , يا له من خيال وعلاقة حميمية! النجوم تتلألأُ في البحر ويغازلنَّ السمك , وكلاهما في انتظار في ليلٍ معشوشب بالأمل .
    و أنت يا بويب
    أودُّ لو غرقت فيك ألقط المحار
    أشيد منه دار
    يضيءُ فيها خضرةَ المياه و الشّجر

    جاء الشاعر بالفعل "ألقط" ليدل على القلة في تحصيل الثمين حيث قارب بين المحار وبين الرجال الأشداء من ذوي الأهمية وهم كالمحار الذي يحتوي على لؤلؤ , إذ ليس كل المحار فيه لؤلؤ , فتلتقط من بين المئات من المحارات الفارغة محارة مليئة وذات قيمة , وأبدع الشاعر في صياغته لجملتين مكملتين أحدهما للأخرى " أودُّ لو غرقت فيك ألقط المحار " و " أودُّ لو عدوت أعضد المكافحين " فهو في البدء ( يلتقط الأشداء ) , وهو بهم يريد أن يستجمع القِوى للثورة لإنقاذ الأرواح من المكافحين التي غرقت في غياهب السجون والقتل والتشريد , فمن تلك النفوس تؤخذ العبرة والدرس في الجهاد , فهؤلاء يضيؤون الدرب بلون ثيابهم الخضراء , لذا جاء بعبارة " يضيء فيها خضرة المياه و الشّجر " , فهم الإنطلاقة نحو الضياء والرزق وإِرواء الظمأ . ويمكننا أن نقول إنَّ الشاعر أراد إضاءة الحياة الخافتة , لاسيما بعد ذكره بناء الدار من المحار/ هو يريد لحياة الناس أن تتوهج وتسعد .

    فالموت عالم غريب يفتنُ الصّغار
    و بابه الخفي كان فيك يا بويب

    الصغار الذين ليست لهم تجارب في الحياة ينحرفون نحو أسباب الموت تأخذهم فيها رهبة من البطولة والتحدي في التغيير وشق طريق الحرية والسير فيه لمخاطره , فهو يفتنهم ويخيفهم , لأَنَّ درب الثوار ليس منثوراً بالياسمين , ولا فيه بسمة المترفين , لاسيما في العراق الذي لم يعرف تأريخه الهدوء فكان على الدوام أرضاً للصراعات والحروب والقتل والدمار ولذا وصف الشاعر باب الموت الخفي هو العراق أو (بويب) , فالموت في العراق يلعب مع الأطفال , ويعانق كلّ مكان , وربَّما ينظرُ الشاعر إلى العراق على إِنَّه نهرٌ من دم القتلى ومن دموع ذويهم , وهذا ما جعل العراق فيه نهرين , فقال " أغابة من الدموع أنت أم نهر " , فهو بلاد الصراعات منذ ميلاد البشر وإِلى اليوم , فلم تنضب الدموع ولا الدماء , يا تُرى أَهي نبوءة أَم هي الحقيقة .... ؟

    و أستقرّ في السرير دون أن أنام
    و أرهف الضمير دوحة إلى السّحر
    مرهفة الغصون و الطيور و الثمر
    أحسّ بالدّماء و الدموع كالمطر
    ينضحهنّ العالم الحزين
    همّ العراق وشعبه متلبس بالشاعر ليل نهار فلم يعرف طعم النوم , دماء القتلى ودموع ذويهم التي شبهها كالمطر ملأت أنهار العراق وبدا العراق ينضح دمعاً , وبقوله , و السمك الساهر هل ينام في السّحر ؟ " , فهو ساهر منتظر أن يأتي الزمن الذي تعج به بلاده بغصون مثمرة وطيور غريدة , وفي قرارة نفسه نبض الضمير الذي يطالب بتحرير العصافير من أقفاصها , وبأخذ الثأر لتلك الدماء التي سالت .

    أجراس موتى في عروقي ترعش الرنين
    فيدلهم في دمي حنين

    ينادي الشاعر بالثورة ويطالب بالثأر لدماء القتلى , وهذه الدماء هي كالأجراس التي ترن من أَعلام الحرية ودعاتها فهم كالأبراج التي غارت في البحر , فلم يبقَ منها سوى الصدى في نفوس الأُباة , وغارت في رمالك يا عراق , فارتعشت في دم الشاعر الثورة إلى الحرية .

    إلى رصاصة يشق ثلجها الزّؤام
    أعماق صدري كالجحيم يشعلُ العظام
    أودُّ لو عدوت أعضد المكافحين
    أشدّ قبضتيّ ثم أَصفع القدر

    يودُّ لو يفتدى بروحه هؤلاء الثائرين وأن يشد على سواعدهم , وبرصاصة تشق صدره كما قضت على حياة الآخرين فهو يريد أن يشاركهم " لأحمل العبء مع البشر " , وربما أنه أراد في هذا المقطع أحياء عظامه من الانطفاء الذي فيه , كدلالة على خفوت تفاعله مع الشهداء أو قتلى وطنه بمعنى أنه يرفض أن تموت الفكرة فيه أو يبرد حنينه لهم أو تفاعله معهم ..وقد تكون الدعوة إشارة غير مباشرة لمن هم لا يتفاعلون مع قضية وطنهم والشاعر يتمنى تلك الرصاصة له ولهم ولكل من يبتعد وتبرد فيه قضية وطنه وتغييره والقدر هو الواقع المأساوي المظلم , فيريد أن ينهي هذا الواقع المرير , بصفعة من أيدٍ قوية من هؤلاء المكافحين , يرغب الشاعر وبشدة مساعدة أبناء بلده من المكافحين ومعاضدتهم.. وتوبيخ أسباب شقائهم بالصفع .. والصفع كدلالة على اعتراضه الشديد على مسببات الشقاء لهم .. فهو يريد الانصهار في أوجاعهم ومشاركتهم إياها ودفعها .
    أودُّ لو غرقت في دمي إلى القرار
    لأحمل العبء مع البشر
    و أبعث الحياة إن موتى انتصار


    وهنا يجود الشاعر بنفسه ليفتدي المكافحين والمظلومين من البشر الذين تعج بهم البلاد ويذوق ما ذاقوا , ليخط بدمه طريق حريتهم وكرامتهم , وحينها يبعث الحياة للأطفال حالماً ينتهي الظلم وترتفع رايات التغيير , وبموته غريقاً بدمه تأتي الحياة إلى المستضعفين وقال : " مِتُّ كي يؤكل الخبز باسمي " , فبموته انتصار للفقراء لأنَّه سيبعث الحياة في بلاده .

    في الختام نودّ الإشارة إلى أن هذا النص كان مليئاً بالرموز فبدا لنا ومن خلال القراءة أنه اتخذ حتى من المحار رمزاً على الأشداء الأقوياء , وهناك انزياحات كثيرة في النص , وقد صنعه الشاعر صناعة , فعرض المتضادات من خيرات ومن آهات , ونجد في النص أثر البيئة متربعا على ألفاظ القصيدة وعلى صورها , فهي ( القصيدة ) ريفية الألفاظ والمشاعر , ورسم لنا كيف الحزن يغشى الفلاح تلك الفترة , وحاجته إلى التغيير والى القمح والزهور بل حتى إلى بدرٍ ينير لهم عتمة الدجى .

    منتظر السوادي 22/ 5 / 11
    أَناخَتْ نارُهَا بَرْداً = وَعشق النَّاْرِ أَسرارُ

  2. #2
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.71

    افتراضي

    سباحتي هنا الليلة كانت سريعة في قراءة نقدية وجدت فيها من الشرح والغوص المتعمق في النص ما يستدعي مكوثا هادئا ومترويا، ودعوة أكيدة لمعاودة استقراء النص الأصلي على ضوء مما نثرت ناقدنا الكريم في سماء القصيدة من أقمار تضيء ديجور الرموز وتعين على استشراف دلالاتها

    وأظن بان لي عودة قريبة

    تحيتي

    دمت بألق
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  3. #3
    الصورة الرمزية مُنتظر السوادي قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Sep 2010
    الدولة : العراق + البصرة
    العمر : 41
    المشاركات : 584
    المواضيع : 91
    الردود : 584
    المعدل اليومي : 0.12

    افتراضي شكر

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ربيحة الرفاعي مشاهدة المشاركة
    سباحتي هنا الليلة كانت سريعة في قراءة نقدية وجدت فيها من الشرح والغوص المتعمق في النص ما يستدعي مكوثا هادئا ومترويا، ودعوة أكيدة لمعاودة استقراء النص الأصلي على ضوء مما نثرت ناقدنا الكريم في سماء القصيدة من أقمار تضيء ديجور الرموز وتعين على استشراف دلالاتها

    وأظن بان لي عودة قريبة

    تحيتي

    دمت بألق
    استاذتي الجليلة

    يشرفني ان تقراي كتابتي

    ويسعدني ان اقرأ ملاحظاتك واصحح نظرتي واعدل من طريقة نظرتي الى النص وكيفية التعامل معه

    استاذتي

    على جمر الانتظار اتقلب

    منتظر عودتك فهي كعودة تموز تبث النور والحياة في كلماتي

    شكرا لك على قراءتك ونحن بانتظار العودة

    وباذن الله ومشيئته ستعود الاستاذة محملة بالهدايا

    تلميذك

    منتظر

  4. #4
    الصورة الرمزية صفاء الزرقان أديبة ناقدة
    تاريخ التسجيل : Mar 2011
    المشاركات : 715
    المواضيع : 31
    الردود : 715
    المعدل اليومي : 0.15

    افتراضي

    استاذ منتظر
    غوص رائع في ثنايا النص
    لمحاولة تفكيكه و بيان جوانبه و تحليل عميق ورائع للقصيدة .
    رائع ما قلته عن اثر البيئة على ما يكتبه الشاعر .
    بوركت جهودك و مثابرتك
    تحيتي و تقديري

  5. #5
    الصورة الرمزية مُنتظر السوادي قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Sep 2010
    الدولة : العراق + البصرة
    العمر : 41
    المشاركات : 584
    المواضيع : 91
    الردود : 584
    المعدل اليومي : 0.12

    افتراضي اعتزاز

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة صفاء الزرقان مشاهدة المشاركة
    استاذ منتظر
    غوص رائع في ثنايا النص
    لمحاولة تفكيكه و بيان جوانبه و تحليل عميق ورائع للقصيدة .
    رائع ما قلته عن اثر البيئة على ما يكتبه الشاعر .
    بوركت جهودك و مثابرتك
    تحيتي و تقديري
    شكرا لك أيتها القدير

    والله شهادة أعتز بها ايما اعتزاز

    كل الشكر لتعليقك الدقيق

    تلميذك

المواضيع المتشابهه

  1. قراءة نقدية في قصيدة "سؤال النهر" للشاعر عبداللطيف السباعي
    بواسطة عبدالإله الزّاكي في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 06-11-2014, 01:40 AM
  2. " أنا والموت على أكف الضياع " بقلم وفاء الأيوبي
    بواسطة وفاء حسن الأيوبي في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 31
    آخر مشاركة: 09-06-2013, 07:58 PM
  3. النهر والموت ... لبدر شاكر السياب
    بواسطة مُنتظر السوادي في المنتدى مُخْتَارَاتٌ شِعْرِيَّةٌ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 19-07-2011, 09:53 PM
  4. مجرد""""كلمة"""""ترفع فيك أو تحطمك........!
    بواسطة أحمد محمد الفوال في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 28-05-2009, 11:27 AM
  5. قراءة في قراءة د. عراقي "اطلالة على عالم الشاعر سمير العمري"
    بواسطة د. محمد حسن السمان في المنتدى قِسْمُ النَّقْدِ والتَّرجَمةِ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 03-03-2007, 01:33 PM