إنه الليل ..ذلك الكائن الذي يحب أن يتهيأ كــ وعاءٍ لكل محتوى .وعيونه جيوب كونية , تنبثق منها كل الوجوه حد الإغماض.
هو ليس بأعمى ..و لا بصير.. وليس بغافل عن شواردنا , ومنغصات النجوم السائرة بخفي الأثير .
والريح ما برحت نواجذه حتى تتبتل بأزيز الصفير.
إنه الليل , يلتهم السهر ويواري عنا لحاف الأحلام , يتسلل إليه ضوء الفجر متتبعا عده التنازلي إلى مساماتنا , بيد إن راحة يدي , ويدك تقبضان على الوعد كمخطوطة السر التي عجزت أشعة الشمس عن التسرب إليها , وعجز النهار أن يمرّنها على الارتخاء .
إنه الليل و من "صفاته" إذا أماتنا أرقا أحيانا , وإن أحيانا بجرعات غفوة تستسلم لمغناطيس الأحلام أماتنا شوقا , وزرع بأجفاننا قرنفل الشعر , وسقاها برذاذ نثر برائحة العطر.
إنه الليل , يستضيف همومنا ويرتب لنا مقاعدا من خمائل السحاب , فينسق لنا مساحة بوح يتزحلق على ممراتها الضباب ..
وكلما انسكب قلبينا أنسا كقطرات الشموع المنسابة يتضح الغامض وينسل السراب ..
إنه هو الليل ,, ولكننا لسنا مثل كل ضيوفه , لا يجالسنا على أرائك الغبن, ولا يرفعنا فوق هامات الوهن , ولا يطعمنا من زاد التدليس ولا يفرحنا بغشاوة الحزن.
وإننا كعصفورين أحبا أن يحلقا فوق ملكوت الصدق مخترقين سقفه كأطفال الغيم , نرتاد النجوم حبورا , ونعزف بأصابع الأبجدية على لوحة مفاتيح الأفق , نغني ونفضح نواجذ الفرح المطمور سفورا .
يحتفل بنا الكون غرقا بأنهار الهمس على السطور.. وكل أفق إلى مثيله يميل ولا تشكل نقطة البعد هنا أي عائق عن معانقة الروح لروحك يا مستنطق الصخور ..
إنه الليل , أسيرنا هذه الليلة .. يطالبنا أن نفك قيوده ونطلق جناحيه .
لكني احتار في سر هذه الليلة التي تُبعد القريب وتقرّب البعيد .
رغم إن استحالة الالتقاء بين شاطئينا إمعانا في اختلافنا مع الآخرين , وللغة اللقاء مفردات أشبه بتخاطب الطيور وتمايل الأغصان على بعضها حين تترنم الريح بين ثناياها وكتردد الأمواج المتعبة الضاحكة بأشداق الزبد على الرمال.
أتساءل عن لون ليلنا البنفسجي هذه الليلة و خلفية سيرته في ألف ليلة والليالي اللاحقات.. ــ لأني اشعر الآن و كأني أسير على رصيف ممغنط تسرع خطواتي ثم تتثاقل ..كأني أسير إليك بملء الكرى , لا ادري كيف وصلت إلى هنا!!
لكني كما قلت لك ذات مرة :
بأن المساحات تتكون في الذهن قبل أن نتخذ تدابير السير , وها أنت كنت جملة من تفاصيل متراكمة في أعماق القادم من الزمن .