الاحتفال بليلة النصف من شعبان ليس له أصل في سنة رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ولا من فعل أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - وما يفعله الناس اليوم من صلاة مخصوصة , وأذكار معروفة , وما لحق ذلك من أعمال مخالفة للشرع ؛ فكل ذلك من البدع المنكرة , وقد اشتهر عن خالد بن معدان ومكحول الاجتهاد في العبادة في تلك الليلة , ومن أهل العلم من خص ذلك بالبيت كالأوزاعي , ومنهم من أجاز الاجتهاد في تلك الليلة في المسجد كابن راهويه , والصحيح أن هذه الليلة لم يثبت عن أحد من الصحابة ، ولا من التابعين ، ولا من الأئمة إحياؤها بهذه الهيئة المخالفة , والتي عليها كثير من الناس اليوم , وإنما اختلفوا في الاجتهاد في العبادة فقط , فالذين رَأَوْا تخصيص هذه الليلة بالاجتهاد في العبادة ؛ اختلفوا في مكان ذلك : أهو المسجد أم البيت ؟ فأين هذا من خرافات كثير من أهل زماننا , الذين أصحبوا يهتمون بهذه الخرافات أكثر من إقامتهم الصلوات الخمس في أوقاتها ؟ فإلى الله المشتكى من غربة الدين بين أهله , واندراس العلم , واشتهار البدع , فإنا لله وانا إليه راجعون .
وأما عن فضيلة هذه الليلة : هل ثبت فيها شيء أم لا ؟ فالذي يترجح عندي : أنه لم يصح حديث في فضيلة هذه الليلة , وذلك بعد الدراسة الحديثية لأحاديث هذا الباب , ومن ذلك :
(1) حديث عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: " إن الله - عز وجل - ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا , فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب " - أي غنم قبيلة كلب - أخرجه الترمذي وابن ماجه وغيرهما , وفيه انقطاع في موضعين , وضعف في أحد رواته .
(2) وحديث علي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال : " إذا كانت ليلة النصف من شعبان ؛ فقوموا ليلها , وصوموا نهارها , فإن الله ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا ، فيقول : ألا من مستغفر فأغفر له , ألا من مسترزق فأرزقه , ألا من مبتلًى فأعافيه , ألا كذا ألا كذا , حتى يطلع الفجر . " أخرجه ابن ماجه وغيره , وفيه أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة أحد الوضاعين .
(3) وحديث أبي موسى -رضي الله عنه - أن رسول - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال : " إن الله ليطلع ليلة النصف من شعبان ؛ فيغفر لجميع خلقه ، إلا لمشرك أو مشاحن . " أخرجه ابن ماجه , وفيه ابن لهيعة , وقد اضطَرب في هذا الحديث ، فرواه أيضًا من حديث ابن عمرو , وحديث عوف بن مالك وغيره , والراجح فيه رواية أبي موسى ، وفيها مجهولان وضعيف ، ومن حديث معاذ ، وقد اضطرب فيه مكحول ، والراجح فيه أنه من قول كثير بن مرة .
(4) ومن حديث كردوس أن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال : "من أحيا لَيْلَتَي العيد , والنصف من شعبان , لم يمت قلبه يوم تموت فيه القلوب . " وفيه مروان بن سالم متهم بالكذب .
(5) ومن حديث أبي بكر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال : " ينزل الله تبارك وتعالي ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا, فيغفر لكل نفس إلا إنسان في قلبه شحناء, أو مشرك بالله - عز وجل - " وفيه مجهولان وانقطاع , وقد حَكَم غيرُ واحد بنكارته .
(6) أما حديث أبي هريرة ففيه مجهول .
(7) وحديث عثمان بن أبي العاص فيه نكارة مع ضعف وتدليس .
(8) وأما حديث أبي أمامة أن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال : "خمس ليال لا تُرَدُّ فيها دعوة : أول ليلة من رجب , وليلة النصف من شعبان , وليلة الجمعة , وليلتي العيد " ففيه متروك وكذاب , وهناك أحاديث وبلاغات وآثار من هذا الصنف , لا يُفْرَحُ بها ، والله أعلم .
ومما يدل على نكارة الأحاديث التي في النزول : تخصيص النزول بليلة النصف من شعبان , مع أن الأحاديث الصحيحة المشهورة تُصَرِّح بـ" أن الرب - عز وجل - ينزل ثلث الليل الأخير من كل ليلة , فينادي : هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من سائل فأعطيه ؟ هل من تائب فأتوب عليه ؟ " متفق عليه .
وفي " صحيح مسلم "(2565) من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال : " تُفْتَح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس , فيُغْفَر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا ، إلا رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء , فيقال : أنظِروا هذين حتى يصطلحا , أنظروا هذين حتى يصطلحا , أنظروا هذين حتى يصطلحا " وفي رواية عنده أيضًا " تُعرض الأعمال في كل يوم خميس واثنين فيغفر الله .. " الحديث .
وفي رواية أيضا : " تُعْرَض أعمال الناس في كل جمعة مرتين : يوم الاثنين , ويوم الخميس , فيغفر لكل عبد مؤمن ، إلا عبدًا بينه وبين أخيه شحناء , فيقال : اتركوا هذين حتى يفيئا ." .
وقد حكم الإمام العقيلي في " الضعفاء " والبيهقي في "الشعب" وابن العربي في " عارضة الأخوذي " بأن هذه الأحاديث التي في النصف من شعبان لا يصح منها شيء , بل قال ابن العربي في " عارضته" (3/275) : " وليس في ليلة النصف من شعبان حديث يساوي سماعه " . اهـ .
من فتاوى أبي الحسن المصري