اعتدت منذ طفولتي أن أتابع مناسك الحج عبر التلفاز السعودي أسير معهم خطوة بخطوة .. أتأملهم , استمع للخطبة واستمتع بها و أتابع الصلاة, وطواف الإفاضة, وفي كل مرة يذهب فيها بعض جيراننا إلى الحج أقول لأمي وأنا أودعهم والدمع يترقرق من عيني ..أمي متى نحج .. فتقول (لما ربنا يريد).. كان ذلك ربما شاقا على امرأة شابة ترعى صغارا في ذلك الوقت ولارجل شديد يعينها على تحمل مشقة الحج المضنية خاصة في تلك الآوانة بسبب مرض والدي المزمن رحمه الله تعالى..
وتوالت السنون وأنا أشاهد ولاأشارك.. ولما أصبحت امرأة وتجاوزت الطفولة.. أردت الحج فقيل لابد لك من محرم, وانتظرت المحرم الذي سيصحبني للحج.. وأنا التي تنجز كل أعمالها باستقلالية تامة دون محرم "إلا الله " وتسافر دونه , حتى أنني من شدة لهفتي وعصرة فؤادي صرت أنام يوم عرفة في السنوات الأخيرة .. لأنني أتألم حين أرى ولاأشارك, حتى العام الماضي أردت المضي فأثنوني وقالوا اصبري فالعام القادم يذهب معك محرما, صدقت ولم يوفوا بوعدهم
.. آنست ذلك ثم تأكدت من الأمر .. وصرت أفكر .. تذكرت حديثا جمع بين امرأتين مسنتين من أرياف مصر في العشر الأواخر من رمضان في سنة من السنوات المنصرمة وقد كنت مضطجعة قبيل صلاة الظهر وكانتا قد عادتا لتوهما من مناسك العمرة قالت إحداهما للأخرى قد تعبنا , فأجابت أختها نعم .. والحقيقة أن من في مثل عمرنا لاحج ولاعمرة لها قد تأخرنا كثيرا , فوقع كلامهما بضميري.. وفكرت فقلت أنا اليوم وحيدة وشابة وبصحة جيدة وغدا لاأعلم ماسيكون من أمري.. ولاشك أن وحيدة شابة خير وحيدة عجوز , فالتمست باب الله تعالى , قضيت العشرة الأخيرة من رمضان قائمة وساجدة وطائفة أدعو الله أن ييسر لي أمر الحج هذا العام ويرقق قلب أمي لتوافق .. فهي تخشى من ذهابي بمفردي,كان لدي العديد من الالتزامات ولم تتضح الرؤية, حتى جاءني سائقي قبل الحج ربما بعشرة أيام وطلب مني السماح له, قلت اذهب .. وقلت يارب سهلت له أمره فسهل لي أمري , كنت أتلمس إجابة دعائي بدعوات صادقة من قلوب نالها مني شيء من معروف .. فكان أن كان , فقط بعده بيومين تقريبا تيسرت وسألت الله أن ييسر لي حملة خير فيسرها وصحبت خير فأتمها لي , لم أكن أعرف أحدا ممن خرجت معهم في الحملة , رغم أنها حملة الجامعة , لكن من أعرف لم يكن فيها , مضينا , ومن أول اللحظات, صعدت حافلة غير الحافلة المخصصة لي بالخطأ , ثم بدأ الركاب يتحدثون عن أرقام , فاضطربت وقلت اعتقد أنني أخطأت وهممت بالنزول بحثا عن حافلتي فناداني حاج سعودي والله لاأعرفه وبجواره امرأة قائلا , لالا لاتنزلي. ونادى آخر وقال ابحث عن اسمها, مااسمك فقلت له , لم يجده .. فهممت بالنزول فأصر وقال انتظري , وقال للرجل فتش جيدا, فعاد بدون بدون اسمي, قلت له جزاك الله خيرا , لكنني سأنزل , فنزلت فلحق بي, وقبل أن أبحث عن المنظمين صاح قائلا ياأخي أين اسم الأخت فلانة, فهرعوا يبحثون معي فوجدته, فساعدوني وأدخلوا معي حقيبتي في حقيبة السيارة فبكيت فرحا ودعوت لهم,خفت ان يكون من يجاورني في مقعدي بالحافلة رجلاا , ولكنهم كفوني حتى هذه, وانطلقنا تغشى الجميع سكينة,كان الركاب أساتذة جامعة ,, فشحوا في التلبية, وقد أحزنني الأمر , ومضيت ألبي بصوت خافت , حتى من الله فشرع المضيف يلبي بمكبر الصوت, إلى أن دخلنا مكة.. والجميع مطأطيء رأسه في خشوع وذل وخضوع لله . وكان ذلك في يوم التروية .دخلنا مكة وماأدراك مامكة.. جموع الحجيج , هنا جماعات من قصار القامة بشكل ملفت من شرق آسيا (ماليزيا , أندونيسيا, الصين , الملايو...الخ), وهنا سود وطوال من أفريقيا, وهناك مجموعات لأناس بيض البشرة بشعور ذهبية , يحملون لافتات كتب عليها غرب أوروبا, وهناك مجموعات سمراء داكنة قادمة من بلاد الهند, وهناك آسيوين بيض البشرة طوال القامة بعيون ضيقة .. قدموا من تركستان وكازاخستان, وهناك عرب بألوان متباينة وملامح مختلفة ولهجات متعددة , من المغرب والجزائر ومصر والخليج وسوريا والأردن وفلسطين. مدهش .. مدهش .. وسبحان الله .. والله أكبر. حتى إذا بلغنا الحرم والفرح يغمر القلوب ( علما بأنني مدمنة حرم ولاأشكو حسرة حتى أن أمي تقول لي يابنتي إنت عمرتك ماتخلص) ومع ذلك كان لبلوغه في ذلك اليوم شأن آخر. بكيت فرحا أن حلمي بدأ يتحقق , وشرعت في الطواف كان رائعا وكأنما أصافح الملائكة, وحين انتهيت بقيت انتظر صلاة الجمعة وبعدها انطلقنا لمنى وماأدراك مامنى! حتى بلغنا مخيمنا ارتفعت اصوات الرجال لنسائهم ادخلوا للخيام ودعوا امر الحقائب, فخجلت من وقوفي بينهم فدخلت لأستتر بجماعة النساء, ولما دخلت وجدت المشرفات فتبسمت فرحا وقلت لهن لي حقيبة في الخارج فابتسمن لي بأجمل ورافقتني إحداهن وحدثت زميل لها من منظمي الحملة , فأخرج لي حقيبتي , ومضيت لخيمتي .. كنا ثمانية لاأعرف واحدة منهن, واحدة عراقية أمريكية , قدمت من امريكا بدعوة من زوجها الأستاذ بجامعة الملك عبدالعزيز وخالة زوجها عراقية كويتية بزواجها من كويتي, وسعودية حرم لأستاذ سعودي, ومصرية أيضا زوجها أستاذ جامعي وشقيقتها وابنتها التي تدرس بالجامعة بمصر, كنا مرهقين نوعا ما, فغفونا فاستيقظت على صوت الأخت المصرية وهي معترضة على تصرفات بعضهن ممن يعشقن الدعوة بطرقهن الخاصة , ففتحت عيني وجلست وابتسمت لها وقلت لاضرر .. فقط قولي لمن لم يقنعك رأيها شكرا وجزاك الله خيرا, قالت لكنهن مستفزات , قلت لابأس هن والله من حرصهن علينا فهن قد لايحسن التفكير ولايملكن الوسيلة الجيدة لكنهن بلا شك محبات لنشر الخير, قالت صدقت,وتحولنا لصديقات.. وقضينا الليل في ذكر الله الاحاديث الودودة والابتسام والضحك وكأنما نعرف بعضنا منذ أعوام , حتى إذ صلينا الفجر خرجنا لننطلق إلى عرفة.. وكلي رجاء أن أبلغها , لم يكن معي أحد من رفاق الخيمة في الحافلة التي استقل, وكنا ننتظر وطال وقوفنا لم يكن تقصيرا من منظمي الحملة ولكن لازدحام الطريق فقد كانت تأتي الحافلات وتقف لتحمل ركابها وهذا يتطلب زمنا , وأغلب الحجاج كان ينتظر بحب وعدد لايذكر كان يتذمر كانت تقف واحدة من المتذمرات بقربي , فقلت لها أي أخية لو انك انشغلت بالقراءة والذكر لما شعرت بالوقت فلا تضيعي حجتك فصمتت , وإن كانت لاتزال متبرمة .
وأنت واقف في انتظار تتأمل حاج بمفرده يحمل متاعة ويحج ماشيا رافعا صوته في عز وذل .. لبيك اللهم لبيك لبيك لاشريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لاشريك لك, وهناك قافلة مشاة رافعين الصوت مجلجلين لبيك اللهم لبيك ,وهناك فريق من الملبين بعربية متكسرة ويقين شامخ كالجبال ,والدمع يترقرق من عيني من الإعجاب فأحمدا الله على أن بلغني وبلغهم وأنا بين تأمل وتعجب وتشنف وطرب, وابتسام وبكاء . جاءت حافلتنا ومضينا , استغرق الوقت تقريبا قرابة الثلاث ساعات , للازدحام طبعا .. وأساتذة الجامعة لايلبون , حتى ضقت ذرعا وكان بودي لو وقفت وصحت قائلة ارفعوا أصواتكم واحيوا سنة نبيكم بالتلبية , ولكن ليس لي إلى ذلك سبيل , فحدثت دكتورة بجانبي قلت لها ذلك بصوت مسوع نوع ما, فأجابني أبناءهم الشباب الصغار ولبوا بقوة وجمال .. فقرت عيني , حتى بلغنا عرفة.. وماأدراك ماعرفة..
أعلم أن قد أصابكم الملل.. فلا بأس سأتوقف هنا لأعود إليكم بعد أن يذهب الملل لنتابع الحديث معا في .. خيميات!
لكم مودتي
واحترامي