انقلاب عسكري يركب الجميع
كان حضارياً مشهد الجماهير المحتشدة يوم 25 يناير لعام 2011 ، وهي تحتشد بكامل قوتها وطاقاتها ، رويداً رويداً بعد خروج خجول ، لتخاطر بحياتها ، وتواجه القتل المنظم من رجال الشرطة ، والضرب بالغاز والدهس بالسيارات من جنود الأمن المركزي . وكان المشهد اللافت يومها /
- مواجهة الشرطة والأمن المركزي للمتظاهرين بطريقة عنيفة
- مهاجمة الإعلام الرسمي والخاص (إعلام رجال الأعمال) للمتظاهرين ، ووصفهم بأوصاف عدة (اخوان-حماس-حزب الله-أيدي خفية-عملاء –جنس وحفلات سكر، وغيرها ) بمقابل حملة تلميع ودفاع مستميت عن النظام من نفس هذه القنوات .
- حياد الجيش بشكل كامل ، وعدم تدخله رغم أنهار الدماء التي سالت من المتظاهرين السلميين .
- العنف كان موجهاً من السلطة ضد منشآت الدولة بهدف إثارة الفوضى ، وليس من المتظاهرين ، لم تسجل حالة واحدة من العنف من الثوار ضد منشآت الدولة . باستثناء حرق بعض مقرات الحزب الوطني في الأيام الأخيرة لها دون قتل أي من أعضاء الحزب الوطني .
- قامت السلطة الحاكمة منذ اليوم الأول للثورة باعتقال قادة المعارضة وعلى رأسهم قادة الإخوان المسلمين كإجراء احترازي .
وانتصرت الثورة ، وتنحى الرئيس ، وتم إجراء أول انتخابات ديمقراطية تشهدها مصر ، وكان لافتاً اكتساح الإسلاميين للانتخابات بجميع مراحلها وتقسيماتها .
وأمام استحقاق الانتخابات الرئاسية وتقدم مرشح الإخوان على مرشح النظام السابق ، كان أمام الدولة العميقة ، دولة النظام القديم التي لم تنتهي ، خيارٌ واحد من أصل خياران :
الأول : تزوير الإرادة الشعبية ، ومواجهة غضب الشارع الذي كان متعاطفاً مع الإسلاميين بشدة ، خاصة أن أغلب قوى الثورة ساندت مرسي من باب أفضل الأسوأ .
الثاني : استغلال فوز رئيس مرشح عن حزب إسلامي وجعل هذه التجربة تمثل أكبر فشل وانتكاسة للإسلام السياسي ، مما يعني القضاء بشكل كامل على هذه الحركات .
الضربة الأولى الموفقة التي شنها الرئيس مرسي كانت إقصاء الجيش عن الحياة السياسية ، فكانت خطوته استباقية ، بحيث أفلت من الفخ الأول لإقصائه هو عن طريق الإعلانات الدستورية التي كانوا يملكون الحق في إصدارها وفعلوا في خطوتهم الأولى في لعبة الشطرنج : حل مجلس الشعب المنتخب .
ثم بعد هذه الخطوة ، ارتكب الإخوان جملة من الأخطاء ، التي لا يمكن أبداً تبريرها بدافع الحلم والصبر والاحتكام لدولة القانون :
1- تركوا الإعلام المضاد يفعل ما يريد ، ويقول ما يشاء ، دون أي رقيب أو حسيب ، حتى أن مرسي صار
يهان ليل نهار بلسان مقدمي برامج عرفوا بدفاعهم المستميت عن مبارك مثل لميس الحديدي منسقة حملة جمال مبارك رئيساً لمصر ، وعمرو أديب زوجها وعماد أديب ، وباسم يوسف الذي جرَّأ الشعب المصري كله على سب واهانة رئيسه وجعل ذلك مادة للسخرية . فلم تغلق قناة ، ولم يصادر رأيا ، ولم يعتقل صحفياً الا عبر تقديم القضايا وبالقانون ، ناهيك عن تنازل رئاسة الجمهورية في فعل أفلاطوني عن جميع القضايا المقدمة من طرفها ضد الصحفيين .
2- تركوا الشرطة بقياداتها الفاسدة ، لتفعل ما تشاء ، فتنسحب من الحياة والشوارع ، وتترك البلطجية ليفعلوا ما يريدون ، وصار الأمن غائباً في كل مكان ، ولعل هذا كان البند الأول الذي ساهم في إفساد المناخ في مصر بشكل كامل . فلم يتم التعامل بحسم مع هذا الملف ، وترك وزير الداخلية الموالي للنظام السابق وظل الأمن غائباً دون إجراءات حقيقية على الأرض .
3- تمكنت القوى المعادية للثورة ، من إغراق مصر في أزمات وقتية سريعة وفعالة ، كأزمة السولار والبنزين والكهرباء .
4- فشل الاخوان في استقطاب القوى الثورية الشبابية ، وفشلوا في استقطاب المعارضة ، ورغم ما أعرفه من رفض المعارضة لأطروحات كثيرة ومناصب كثيرة ، لرغبتهم في افشال الاخوان والاستحواذ بشكل أكبر على السلطة اعتماداً على فشلهم المتوقع . الا أن هذا ليس مبررا لعدم طرح مبادرات جادة وواضحة وفعالة وبشكل علني يحرج المعارضة لو افترضنا سوء نيتها ، ويجعل قبول المبادرة أمراً حتمياً
5- تمكنت القوى المعادية للاسلام السياسي ، من يسار وعلمانيين وبقايا النظام السابق ، من الصاق عدة تهم في الاخوان ، وجعلها فزاعة تخيف الشعب المصري ، رغم أن ما حدث اليوم يثبت كذب كل هذه الأطروحات
الفزاعة الأولى : الأخونة ، وقد ثبت كذبها عندما بدأت الاستقالات تتوالى من الوزراء ، وظهر موقف الداخلية والشرطة والجيش والاعلام الرسمي المعادي للاخوان منذ اليوم الأول للانقلاب ، ليدلل أن مصطلح الأخونة كان مجرد فزاعة غير واقعية .
الفزاعية الثانية : ميليشيا الاخوان ، وتشكيلاته المسلحة ، وتدريباتهم القتالية ، وصور كثيرة رسخها الاعلام في عقول الناس ، مما يجعلنا نتساءل اليوم ، أين ميليشيا الاخوان مما يجري الآن ؟ لماذا لم يقاوموا أو يسيطروا أو يقتلوا ؟
الفزاعة الثالثة : حماس ، وغزة ، استطاعت المعارضة شيطنة الفلسطينيين ، منذ اليوم الأول للثورة وليس بمجرد فوز مرسي ، فصارت حماس هي من ملأت ميدان التحرير ، وحماس هي من قتلت الجنود الصائمين في رمضان ، وحماس هي من تدافع عن مرسي ، وحماس هي من تجهز جيشاً من عشرة آلاف مقاتل للقضاء على المعارضة ، وصارت هناك أنباء بطريقة : مصدر مسؤول ومصدر عسكري ومصدر فلاني ، عن خلايا حمساوية نائمة ، وعن تسلل الاف المقاتلين ، وعن ذخيرة من غزة الى مصر (وليس العكس ) ثم ثبت اليوم للجميع ، كم كان الشعب مغفلاً حين صدق .
الخلاصة ، أن الاخوان فشلوا ، ليس شرطاً أن يكونوا قد فشلوا في الادارة والاقتصاد فقد تقدموا بخطوات جيدة ، ولكنهم فشلوا في ادراك حجم اللعبة ، وتعاملوا مع السياسة بطريقة اللعب النظيف ، ولم يدركوا أن هناك من يجهز لضربهم الضربة القاضية ، وتحت الحزام .
ولكي ندرك حجم اللعبة ، وكم كان مخططاً لها منذ البداية ، لابد أن نتذكر الدقائق الأولى للانقلاب العسكري :
- القاء القبض على جميع العاملين في المحطات الاسلامية الموالية للرئيس دون أن محاكمة او تهم موجهة .
- اغلاق جميع هذه القنوات بأمر مباشر وبجرة قلم دون قضايا أو محاكم أو أخذ ورد .
- القبض على 300 من قيادات الاخوان والتهم جاهزة .
- التحفظ على الرئيس وتجهيز قضايا كثيرة له قد يعدم على اثرها بتهمة الخيانة العظمى
- عودة الكهرباء وبانتظام .
- انتهاء طوابير البنزين واختفاء المشكلة
- عودة الأمن للشوارع ، وانتشار الشرطة والدوريات ، واختفاء البلطجية بشكل كامل
فيا لثارات هذه الثورة المجيدة ، التي انتصرت وخلعت الرئيس في يومين فقط ، وحققت جميع أهدافها في خمس دقائق .
اليوم لا يبكي مرسي الا أنصاره ، ولكن الحكم العسكري العتيد المختفي خلف صورة رئيس المحكمة الدستورية ، سيحكم قبضته على الشارع ، وسيأتي اليوم الذي يرى الثوار فيه أن ثورتهم قد سرقت ، وأنه قد ضحك عليهم ، وأن ثورتهم كان مرتباً لها ، ليس بالامكانات الهائلة فحسب ، وليس بالأموال التي أغدقت لصالحهم فغضوا الطرف ، وليس بتواطئ الشرطة معهم وتوزيعها العصير والماء عليهم فحسب ، وليس بامكانات الجيش التي سخرت لصالحهم منذ اليوم الأول ، وليس بالاعلام الذي واكب صورتهم وحشد لها في هذه الثورة النموذجية
الجيش والشرطة والاعلام والشعب في مواجهة ..... الرئيس
وانما لأن الجيش هو الذي خدع الجميع ، ويصر أن تكون جميع خيوط اللعبة بيديه ، وعند بادرة الاختلاف الأول ، حين يبحث الثوار عن قرارهم وحريتهم فلا يجدوها ، سينزل الثوار الى ميدان التحرير ليجدوا شكله قد تغير ، لن تستقبلهم الميادين ، ولن تعانقهم طائرات الجيش بالورود ، ولن توزع الشرطة العصير عليهم ، وأول من سيعض أصابعه ندماً هم الثوار الحقيقيون ، الذين خرجوا ضد مبارك من أجل الحرية ، وضد مرسي من أجل دورهم في ريادة الشعب ، وبالهنا والشفا ، كل انقلاب وأنتم بألف خير .