// لقاء عند حافة الموت // ؛
قال لها :
▬ جئت ِ إذنْ
ردّتْ ، مِنْ خلف رداء الكبرياء :
▬ و بي مِنَ الشوق الحزين لهذا النور ما يُميت.
▬ قد قضى ربُّكِ أن يكون لكل شيء ميعاد. و ما كنتُ لأستعجل منكِ اللقاء ما لم يأتي أوانه.
تندّى الصمت منها عن تنهيدةٍ خرجت من صميم الفؤادْ.
فتابع قائلاً :
▬ أراكِ تحملين مِنَ الأوزار ما تنوء به الجبال، مِنْ أينَ لكِ كلّ هذا الحمل الثقيل؟!
حَشْرجتْ .. وبالبكاء غصّتْ ، هذا البكاء المخنوق في الصدر، بدأ يطرق بإلحاحٍ أبوابَ الحناجر، ما لبثتْ أنِ انفجرتْ في بكاءٍ يحمل في انثيالاته كل الحكاية. الحكايةٌ التي ابتدأتْ بالأماني ، وانتهتْ، وكلها جراح فوق جراح.
قال :
▬ لنْ أُوقفَ هذا البكاءْ ، فاغسلي أحزانك بما شِئتِ مِنْ سكيب الدمع، ولا تهتمي.. أنت بين يديَّ الآن.
تقطّع البكاء بنشيجِ قلبٍ مَكلوم ، وتخلَّله دفقٌ مِنَ تأَوّه محموم .. ثمّ كالأطفال، راحتْ تبكي، و بالكاد استجمعتْ لغتها، وقالت بعناء :
▬ عاتبةٌ عليك كثيراً يا كل هذا الحبيب.
عتبي . . ما عَرَفَتْه من قبلُ صدور البشرْ.
عتبي . . عتبي بما جرى عليّ مِنْ تصاريف القدر.
عتبي . . على ما غَشاني من رزء السِـيَـرْ.
انظر إليَّ يا مولاي . .
جسدي الناحل ، ذلاً وبؤساً ، صار بُوار .
فهل ما زالتْ سحاباتُ خلاصكِ ، تُساقُ إلى الأرضِ البُوارْ !
أحلامي البسيطة ، تمزَّقتْ على أعتاب المناماتِ الكسيرة.
فهل ما زالتْ رَحَماتُـكَ تنثرُ السلامَ فوق كوابيسِ الدمارْ !
قلبيَ المكلومُ تَهاوى في سراديب الجَوى.
وأنا الذبيحة . . وقيعةُ الفواجع وما جَرى.
فَسَلِّ السفَّاكَ الذي أهْرَقَ الدماءَ مع دَمِي
أَحَازَ كأسَ المُدام مِنْ دِمانا وارتوى !
يا وَحْشَةَ الأرض مولاي إذْ ترى
أشباحٌ . . خفَافيشٌ . . وعفريت الدُجى
والنور يُسافرُ في اغترابٍ
لا فجر فيه ولا ضُحى
و رعديدُ الجحورِ . . أفلحَ في الظلامِ
وفي التيه ارتقى.
أطرقتْ إلى النور، وهي تهزُّ رأسها بألم، وناجته شاكية:
▬ أوّاه يا حبيب القلوب الكسيرة
أوّاه يا طبيب النفوس العليلة
أوّاه يا حلم الأماني الكسيحة
أينَ كنت كل هذا الغياب !!!
و عاد البكاء عارماً . . مُخضّلاً بموجِ هادرٍ مِنْ دموعٍ جريحة.
رَبَـتَ على كتفيها حتى استكانتْ ، ثم سألَها :
▬ ماذا صنعتْ معكِ الأرض ؟
قالتْ :
▬ أهٍ يا مولاي . .
دمّرتني الارض .. ودمّرتْ كلّ حبيبْ .
سَحَقَتْ أمام ناظريَّ كل أزهار الربيع .
انظرْ لترى . . ما عاد اللون الأخضر يزورُ بلادي.
سرقتْ ضحكات الطفولة ..
انصتْ لو شئتْ .. ما عاد لحن ضحكاتهم يُعطّر بالبهجةِ فؤادي.
قَتَلَتْ الأرضُ أمّهاتنا . . آباءَنا . . إخوتنا و أبناءَنا .
ودمّرت الأرض أحلامنا . . أفراحنا ، وجميع أعيادنا .
ومِنْ خلف ضباب الدمع ، سألها :
▬ ما بال الأرض بادرتكِ كلّ هذه القسوة ؟.. أخبريني، ما الذي فُعِلَ بالأرض؟!..
وإلى الدمار الذي خلفها ، بيدها أشارتْ ، وقالتْ :
▬ في الأرض يا مولاي ، سلاطينٌ و رُهبان.
أذلّنا السلاطينُ باسم الله .
ذبحونا الرُهبان . . وقالوا هذا في سبيل الله .
سرق السلاطين كلّ شيء . . وأمرونا بأنْ نحمد الله
دمّرَ الرُهبان كلّ شيء . . وأمرونا بأنْ نتّقي الله .
تآمرَ السلاطين مع كلّ عدوٍّ ومُغتصِبْ .. ومَحَضوهم كلَّ خيرات الوطن.
تحالفَ الرُهبان مع كلّ دخيلٍ و مُغتربْ .. وصنعوا كلّ ويلات الوطن .
امتصَّ السلاطين دماءنا .. و سَفَحَ الرهبان دماءنا.
وكأن دماءنا يا مولاي ، كانتْ هي مُجْمَلِ القضيّة .
دماؤنا . . هي مَنْ تقف وراء الهزائم.
دماؤنا . . هي مَنْ صنعتِ الخطايا.. هي مَنْ صنعتْ الآثامَ والجرائم.
دماؤنا . . هي مَنْ جهّلت الشعوب ، وأنزلتْ بهم الداء السقيم.
دماؤُنا . . صنعتْ كلّ أشكال الفسادْ .
ونشرتْ بين الشعوب ، رسالات الدجلِ والكفرِ والإلحادْ.
ويوم اختلف السلاطين مع الرهبان
تقاتلوا . . وكانت دماؤُنا هي الميدان.
استبدَّتْ بها الأشجان . . ورغماً عن أنف الألم ، قالتْ :
▬ بيديّ هاتين يا مولاي . . سجيّتُ جثمان أمّي و أبي
وكانَ قد سبقهما إلى الموت ، أختي وأخي
مِنْ فواجع الحروب هربتُ بولدي . . بعدما قتلوا زوجي
وفي دورب الهروب، مِنْ غرفتي الأولى إلى غرفتي الأخرى
أمطرتني السماء بوابلٍ مِنْ نارٍ وغضب
رصاصٌ . . وصـواريـخٌ وقـنـابـلْ
ما مِنْ يهوديٍّ يا مولاي كان في منزلي يُقاتل !
ولا ليهودٍ كانت تِـلـكـمُ المنازلْ !
غيرَ أنَّ ذنب المنازل – مولاي – كان
أنها صارتْ غنيمةَ الخوارج والأراذلْ
وفي اللحظة التي درأتُ فيها قذيفةَ السلطان عن ولدي
كانتْ مِدية الرُهبان تحزّ عُــنُــقَــه مِنْ تحت يدي !
بدأ البكاء يختنق في حنجرتها مِنْ جديد، وهي تشكو إليه قائلةً:
▬ قـلّـبـتـه بين يدي في مسيري إليك . .
انظر إليه . .
ما أجمله طفليَ النائمْ إلى الأبد !
وصوت الدماء مِنْ أوداجه . . تسمعُ به رخيمَ المغنى وهديلَ الحمائمْ .
كانَ ينتفض بين يديَ كالعصفور راقصاً
وتفترس نظراته البريئة، الدهشةَ والعمائمْ .
هو لا يعلم ما يجري . . فهذا الدرس كبير عليه - حُشاشةَ قلبي -
لم يَفهم مَقالة الراهب إذ يقولُ و هو يذبحه : إلى الجحيم يا عدو الله !
أحقاً هو عدو الله ؟!! . .
فقد أخبروني قديماً يا مولاي . . أنَ طفلي ما يزال على فطرة الاسلام، بينما يلج بوابة الموت الآن .
ماتَ طفلي يا حبيبي ، ولم يكن يعلم " إن كانَ حقاً عدوّاً لله " !!
رفعتْ رأسها نحو النور وقالتْ :
لم أكنْ أعلمُ ماذا كنتُ أريدْ وانا أتلقى عن ولدي ما تبقّى من طعناتِ السكين
هل كنتُ أريدُ التحررَ مِنْ سجنِ سبايا الرهبانْ !
مِنْ عارِ الاغتصابِ والذلّ والامتهانْ !
أمْ لألحقَ بولدي وأتحققْ :
إنْ كان ولدي في سِجلاتكَ ، مِنْ أعداءِ الرحمنْ !
فأنا حقاً ما عُدتُ أدري :
أَمَا زالَ الايمانُ في بلدي ، هو ذات الايمانْ ؟!
سكتَ البكاءُ والألمْ . . وانحدرتْ مِنْ عينيها ، دمعةٌ طاهرةٌ تختصر كلّّ حكايات المحنْ.
وامتزجت دمعتها الأخيرة مع أختها الأخيرة مِنْ دم الطفلِ الذبيح بين أحضانها. فناداها مِنْ النور قائلاً :
" يا أيتها النفس المطمئة ارجعي إلى ربكِ راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ".
وقـيـل . . إنه وبينما كان سلَّم الرجوعِ الأخيرِ يرتقي نحو السماءْ، راحَ من النورِ ينادي وَ (مِنْ خلفِ ذاتِ حجاب الكبرياءْ ) :
▬ "مِنْ أجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل أنه مَنْ قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، ومَن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، ولقد جاءتهم رُسلنا بالبينات ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون "
بقلم أخي وليست بقلمي : المهندس زيدون الرفاعي