أحدث المشاركات
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 14

الموضوع: ورم

  1. #1
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Jul 2005
    المشاركات : 320
    المواضيع : 85
    الردود : 320
    المعدل اليومي : 0.05

    افتراضي ورم

    ورم


    الثامنة صباحا ، في أقصى الشمال الاروبي ، أفقت كعادتي ، تسللت نحو الصالة لأعانق فنجان الشاي الصباحي ، ولأحرق ثلاث دخائن ، دخلت الحمام ، غرقت تحت مياه حارة ، يتصاعد البخار منها ليهرب من فتحة صغيرة ، خرجت ، وكالعادة ، كانت القهوة التي أعدتها زوجتي تقتحم خلايا دماغي بقوة ، فللقهوة مكانة في قلبي ، لا يعرفها إلا المقربون مني ، أحرقت ثلاث دخائن أخرى ، ارتديت ملابسي ، وخرجت .

    العاشرة صباحا ، موعد مع طبيبي الخاص ، قدت السيارة إلى مكان بعيد عن العيادة ، طلبا للتمشي واكتساب بعض أنفاس من هواء نقي ، لم التفت إلى شيء ، ولم ادقق بأي تفصيل ، فالشوارع معهودة ، وكل ما عليها أصبح بسبب العادة لا يثير دهشتي أبدا .

    انتظرت في الصالة ، كان أفراد دائرة السير يختفون خلف العيادة مباشرة ، يصطادون السيارات المارة ، لا بد وان الراتب الشهري الذي اقترب ، كان همهم الأوحد ، فلا بد لخزنة الدائرة أن تكتظ بالنقود ، وبين ملامح هؤلاء والسائقين كان هناك اختلاف كبير .

    انتزعت من المراقبة حين دعاني الطبيب للدخول ، سألني عن حالي ، أجبته بان الصداع الذي يراودني ما زال على حاله ، بل وتصاعد بقوة أصبحت تفقدني التوازن والتركيز في بعض الأحيان .

    ولأول مرة تنبهت للاهتمام الزائد الذي أظهره الطبيب ، كان يسألني عن أشياء كثيرة ، بتركيز وتنبه ، واخذ يصغي لأجوبتي وكأنه يتابع مشهدا في الرائي لا يمكن إهماله ولو للحظات . أحسست بضغط الأسئلة على نفسي ، ولمحت من بين ثناياها جملة تنتظر أن تستقر بأعماقي ، شعرت بغصة عميقة تضرب حلقي ، ولكني ظللت مواصلا التماسك والصبر وأنا أردف اسئلته بإجابات واضحة ومحددة .

    استدار بكرسيه نحو الحاسب ، حدق فيه قليلا ، ثم استدار نحوي بتحفز وقال :-

    - علي أن أخبرك بالحقيقة ، فانا لا املك حقا بإخفائها عنك .

    لأول مرة منذ أعوام ، تجتاح العين المكان ، بتحفز مفترس ، تدقق في التفاصيل ، تلاحق الأشياء الصغيرة المختبئة تحت الأرض وبين الشقوق ، تمسح الجدران بتفحص متوثب ، تحاول أن تطوي المسافة بين الغربة وبين الوطن .

    تداخلت صور أولادي في بؤرة الرؤى ، ضحكاتهم ، بسماتهم ، حزنهم ، غضبهم .

    هذا السور به قليل من التصدع ، وذاك الشارع به حفرة صغيرة تزعج السائق والمارة ، هناك على السطح المقابل للسور المتصدع تقف شابة يافعة ، ترتدي سروالا من الجينز ، تسحب أنفاس الدخينة بتؤدة ، تجول بعينيها الشوارع والأرصفة ، لكنها لم تلتفت لوجودي .

    نسمات الهواء تقطع جسدي ، تتكوم كدائرة تستعد لتشكيل عاصفة ، نظرة الطبيب تلاحقني ، كانت تحمل شيئا من الشفقة ، وبعض من الغرابة ، هو عربي مثلي ، ملامحه تتشابه مع ملامح المتوسط والفرات ، فيه رائحة النخيل وتقاطيع بغداد .

    قبل أعوام كنت هناك ، أقف على شوارع بغداد ، أتنقل بين أسواقها ، " المسقوف " " والمن والسلوى " ما زالت تعيش بأعطافي ، هنا وقف هارون الرشيد ، ومن هنا زحف جيش المعتصم استجابة لصرخة امرأة ، وهنا بدأت الحضارة ، ومن هنا تعلم الناس كيف تصاغ الحروف .

    نهضت أمي من قبرها ، لمحتها في الشارع المقابل ، انتفضت ، سارعت الخطى ، حاولت اللحاق بها ، لكنها بلحظة سهو تلاشت .

    الطبيب قال لي : يجب أن أخبرك بالحقيقة ، لا اعرف إذا ما كان رجال السير لا زالوا يلتقطون السيارات ، تعثرت امرأة على رصيف ، نهضت وملابسها مبتلة بالمياه ، نظرت إلي ، أشحت ببصري للجهة المقابلة ، تنهدت ، بعد أن أيقنت عدم مشاهدتي لما حصل .

    النوارس تنتشر في الأجواء ، ترسل زعيقا يوقظ التشاؤم والتلبد في النفس ، ابنتي الصغيرة بالمدرسة ، وولدي البكر يغط بنوم عميق ، زوجتي تمارس أعمال اليوم ، وأمي ترقد بجانب أبي في مقبرة ذنابة .

    العالم كله لا يعلم من أمري شيئا ، فقط أنا والطبيب ، ووجوه لم اعرفها ، لا أستطيع تذكرها ، كانت تخاطبني بروتين قاتل ، الصورة الطبقية تحتاج إلى نصف ساعة من الزمن ، عليك أن تصمد ، تصبر ، اضغط على الزر الذي بين يديك أن شعرت بعدم القدرة على الاحتمال ، لكن حاول بشدة أن تصمد .

    ضغطت على الزر مرتين ، وأخيرا استطعت الصمود .

    سرت باتجاه البحر ، هناك خليج غير واضح البداية أو النهاية ، على مقربة منه تقف مكتبة البلدية ، هناك ترتسم خطوات لي ، كانت قبل أيام تصعد الدرج بعزم وسرعة ، تنقب بين الرفوف ، عن كتاب يستطيع أن يساعدني تعلم اللغة القطبية المتجمدة ، ولماذا علي الآن أن أتعلم شيئا في الوجود ؟ أرحت ذاتي على دكة خشبية ، أشعلت دخينة ، تأملت الموج القادم من أعماق البحر ، لينثر قليلا من المياه فوق راسي ، آه ، لو كانت تعلم الموجة سر جلوسي في هذا المكان ، تابعت منظر قارب صغير ، وهو يستدير بحركة مباغتة إلى الجهة العكسية ، كاد أن ينقلب ، لولا حنكة السائق وخبرته .

    مرحبا ؟ أدرت نظري نحو الصوت ، شابة يافعة ، شقراء ، بيضاء لامعة ، تحمل تقاسيمها نوعا من كآبة مثقلة بالفراغ ، لامست انهيار شيء في تداعي نظرتها ، طلبت دخينة ، حين أشعلتها ، أعلنت أنها لا تملك ثمنها ، تبسمت ، قالت ، أنت شاحب الوجه ، تدفقت صورة الطبيب أمامي ، علت الموجة القادمة ، أحقا هو الشحوب ؟ أم هو الخوف الناهض بتؤدة ليسيطر على مكمن الذات ومركزها ؟

    قلت للطبيب : ادفع بالحقيقة كاملة ، اهو الموت ؟ كم من الأيام تبقى ؟ كم من الأحزان تبقى ؟ كم من الخفقات تبقى ؟

    لا تخشى ، لن اسقط فوق بلاط الغرفة ، لكن علي أن اعرف ، أن احسب ما تبقى ، لأوزعه على أولادي بالتساوي ، أتدري ، منذ اشهر وصلت حفيدتي إلى الدنيا ، كانت نقطة النور الوحيدة بأرض الغربة ، حين خرجت من رحم ابنتي لينا ، شاهدت الضوء يغمر الكون كله ، وعرفت لوهلة ، باني امتد فوق الوجود بصورة أخرى ، حين ضممتها إلى صدري وهي ملطخة بماء الرحم ، وشممت رائحتها ، أحسست رائحة أمي وأبي ، همست بأذنها ، سنلتقي أنا وأنت يوم زفافك ، سأكتب عنك الكثير ، سأخفيه بين طيات الأيام ، وحين تعتلي " اللوج " أنت وزوجك ، سأخرج الزمن لأمنحه لك .

    هي ما زالت بأشهرها الأولى ، لم تبلغ العام ، وجئت أنت لتخبرني بالحقيقة ، هل سأراها وهي تتأبط يد زوجها في ليلة عمرها الخالدة .

    لا تخشى شيئا ، اخبرني فقط كم تبقى ، لأحمل أولادي إلى ارض الوطن ، لأحدثهم هناك عن أبي ، عن أمي ، لأريهم مكان جلوسهم ، ومكان سيرهم ، لأنقلهم من غوائل الاغتراب إلى غائلة الفقر ، كيف يمكنني المغادرة الآن ؟ واتركهم بين هذا وذاك ؟

    لا عليك ، أهي أيام ؟ أم شهور ، وربما أكثر ؟ فقط اخبرني ، فانا أستطيع أن أتحرك داخل المحدود المتبقي بعدل وإنصاف ، هنا ساعة لمعتصم ، وأخرى للينا ، ومثلها لأحمد ، وكذلك ساعة لرؤى ، والأخيرة في هذا التقسيم لمصطفى .

    لحفيدتي ساعتان ، للسفر المتواصل ساعات ، في الأردن ، أخي وصديقي ، كم من الساعات سأمنحهم ، تسير السيارة ، تصل جسر دامية ، هنا استراحة أريحا ، رائحة الوطن المثقوب ، تواصل سيارة أخرى ، هنا مخيم طول كرم ، لا متاع معي ، أترجل منها على الشارع الرئيسي ، أحدق بحائط مسجد الفردوس ، اقترب منه ، المسه بيدي ، تندفع الذكريات ، الميضأة ، كم من المرات توضأت عليها ، المروحة ، المنبر ، البساط الخمري اللامع المحشو بروائح الطيب ، الدرجات ما زالت خمس ، كما تركتها قبل أعوام ، المسافة بين المسجد وبين مدخل المخيم مئات الأمتار ، مدرسة اللاجئين ، اقتحمت ناظري ، حاولت الدخول ، لكن حساب الزمن لم يسعفني ، أختي إيمان أحق بالوقت من ذكريات أتشوق للمسها ، مكنة مياه بيارة " أبو حمد الله " مازالت مكانها ، وشجرة الجوافة التي كنت اقطف أوراقها لمعالجة معدتي عرفتني ، نداءها وصل مسمعي ، عدت إليها ، لمستها ، ولأول مرة منذ خرجت من العيادة ،

    بكيت .

    سألتني الشابة عن دخينة أخرى ، حاولت أن تدفعني نحو الابتسام ، رفضت بقسوة ، علي أن أواصل المسير ، من شجرة الجوافة إلى منزل والدي ، الطريق كله يعرفني ، معرفة الزمن للمكان ، ومعرفة المكان للزمن ، مصافحتنا ستأكل من الوقت ، هناك أشياء لا تعد ولا تحصى علي الانتهاء منها قبل فوات الأوان ، بقالة " أبو جاموس " جرفت من أصولها ، تغيرت معالمها الطيبة ، أصبحت تحمل طابعا جديدا ، شعرت بالنفور ، منزل " أبو مجدي " السباك ، قلع من جذوره ، تطاول قليلا ، حاكورة الزغل ، تلاشت ، انتصبت مكانها جدران صماء ، صالح الجرمي ، ما زال يقلي الفلافل كسابق عهده ، بيت " أبو طاحون " تحول إلى كتلة إسمنتية واحدة ، لو دخلت الزقاق الذي على يساري ، لواجهت حارة النادي ، ولو انعطفت يمينا ، لدخلت حارة الربايعه ، لكن الوقت سريع ، ربما أسرع مما أتخيل ، وربما أبطأ .

    رحمك الله يا أبا أيوب ، بقالتك الجميلة بفقرها وبؤسها المزروع جمالا بالنفس التي تعودت رؤيتك مع عجائز المخيم ، تحولت إلى مذبح ، تراق فيها الدماء ، وتغادر الأرواح ، يتدلى اللحم على الكلابات ، كتاريخ ميت مهجور ، بقالة أبو هاشم ، تحولت إلى صالون للحلاقة ، فقدت مذاقها ، ورائحتها وذكرياتها ، الأطرش ما زال في بقالته المواجهة لبقالة أبي هاشم ، فوقها مسجد جديد ، صليت فيه مرات ، لكنني لم اعشقه كثيرا ، كنت أحاول اخفاء امتعاضي عن نفسي ، تمسكت بالمسجد المنتصب في المخيم منذ أعوام طويله ، به كنت اشعر بالخشوع ، بتجلي الإيمان ووميضه ، بساعدي الغضين ، حفرت أساس مكتبته ، وبعرقي تكون سقفه ، أول كتاب دخلها ، كان مني ، عن روح أبي وأمي ، تفسير القرطبي .

    بقالة المصيعي ، ذهبت حلاوتها ، اختفى بريقها ، والرجل المسكين ، المصيعي ، الذي كنا نسطو على أكوام البطيخ التي ينام لحراستها بالشارع ، فقد النطق ، اختفت أوتاره الصوتية ، أصبح يتحدث بالإشارة ، على يمينه ، بقالة حديثة ، للقلق ، لا اعرف لماذا سميت بهذا الاسم ، لكنه يستطيع أن يفصح عن حالة التبدل التي اجتاحت الشارع والتفاصيل .

    رن الجوال ، زوجتي ، تسأل عن سبب التأخر ، قالت ، تحدث مع حفيدتك ساره ، الفتاة تواصل التحديق بي ، لم تفهم شيئا مما قلت لزوجي ، منحتها دخينة ثالثة ، ابتسمت ابتسامة عريضة ، تأملت وجهها ، وأوقفت نظراتي على قمة الرأس ، تداعت جملة الطبيب مرة واحدة ، الفتاة أصيبت بالارتباك والدهشة ، نظراتي كانت قوية ، خارقة ، أنا لم اشعر بذلك ، لكن تفاصيل الدهشة التي كست سحنتها قادتني للتراجع عن التأمل .

    وصلت بقالة الحافي ، التف حولي الجيران والأصدقاء ، قبلات وعناق ، شق الجمع صديقي جهاد عطار ، هزني بقوة ، ضمني إلى صدره ، همس ، رائحتك لم تتغير ، عرقك ما زال غزيرا ، امسك بيدي ، دخلنا الزقاق المؤدي لبيت الوالدين ، لبيتي ، وبيت أطفالي ، تسللت روائح الطبخ والمخيم إلى أعماقي ، كانت النساء المارات يلقين بالتحية ، بمودة خالصة ، وبفرحة لا توجد خارج ارض المكان الذي غرزت عبقي به .

    الباب مغلق ، والبيت مهجور ، تعلوه وحشة ضارية ، ويسكنه موت خانق ، المفتاح مع أخي عبد الرحيم ، نظرت إلى صديقي ، وقبل أن يفوه بكلمة ، كنت قد خلعت الباب من مكانه .

    الموت يحاصره من كل زاوية ، هنا مات أبي ، وهنا ماتت أمي ، وربما أنا هنا أو هناك ، من يعلم ، هنا مات أخي محمد ، وهناك أخي قاسم ، وباسم مات على تلك البقعة من الأرض ، هنا ماتت أختي خالدية ، وماتت ميسون على بعد قليل ، وكذلك صفاء .

    تحسست الجدران ، بيد تعرف كيف تسترجع الماضي ، كيف تخرج خفقات وأنات ، كيف تبرز البسمات والدمعات ، شعرت بالغصة ، بالقهر ، بالغضب ، بالتوق المتفرع المتلولب ، يتشكل بأعماقي بقوة وسرعة ، توجهت نحو صنبور المياه ، أرويت ذاتي من ماء اشتركت فيه مع أهلي وخلاني .

    قال صديقي : أنت تشعر بالجوع ، لنتناول الغداء ، حدقت بوجهه ، لفترة طويلة ، تقاسيمه تغيرت ، يد الزمن صنعت بداية ترهل أسفل الرقبة ، لا يلمح إلا بالتدقيق ، شعره انقلب إلى بياض مزرق ، بين ثنايا وجهه طفولة اعرفها ، اعشقها ، نفرت مرة واحدة من بريق عينيه ، أحاطت اللحظات بغشاء يدفعك للبكاء والفرح في نفس الآن ، احترم صمتي ، بطريقة غير معهودة فيه ، ترى ، كيف تعلم جهاد احترام صمت مثقل بالأسى وحساب الزمن ؟ لعلها الحاسة التي تأتي مرة واحدة لتغير معالم الناس لهنيهات أو دقائق .

    أريد أن أرى صنو روحي وفلق قلبي ، أختي إيمان ، أريد أن اقبلها ، من رأسها ، يديها ، قدميها ، أود أن اشرب عرقها ودموعها الهاطلة فرحة ، حتى أغادر الكون ولا طعم في ذاتي غير طعم فرحتها ، لمسة واحده لشعرها الأسود ، قبله واحدة لجبهتها وخديها ، تستطيع أن تلغي حساب الزمن المتبقي في ذاكرتي ، إيمان فقط ، من تستطيع أن تمنحني عمرا أطول واكبر ، عمر يمتد بي الآن إلى أزمان لا تدخل ضمن الساعات والأيام .

    سرنا بالسيارة ، طلبت منه التمهل ، للشوارع والجدران والأرصفة مكانا بالعين ، بالساعات ، أو الأيام التي يجب أن تتقاسم وجودي عليها ، أشجار النخيل ، وأشجار الزيتون ، الدفلى ، كلها ما زالت بأمكنتها ، لكنها حزينة ، شجرة الجميز الوحيدة بالمخيم تطاولت ، امتدت في الأفق ، المسجد الجديد ، والمسجد القديم ، ما زالا على نفس البقعة ، مدرسة الأصمعي ، خاوية ، تحولت إلى أحشاء خالية ، غادرتها أنوثة المدينة المترعة بالخجل الكرزي ، البيارات سحقت على جانبي الطريق ، جدران تسد النظر ، تبعث رائحة الحرارة والرطوبة .

    مسجد السفاريني ، على بعد أمتار منه ، يقع بيت أختي إيمان ، طلبت منه التوقف بعيدا ، حتى لا تسمع صوت السيارة ، أردت أن تكون مفاجأة ، مثل باقي المفاجآت كلما عدت من سفر طويل أو قصير ، للفرحة المداهمة بريق العين ، وتقاطيع الدهشة ، مذاق خاص ، وذكرى خاصة .

    ترجلت من السيارة ، شجرة الحناء التي غرست بوجودي ، تبسمت ، أرسلت شهقات متوالية ، أحسست بها ، الدرجات ما زالت تحمل نفس العدد ، كل ما طرأ عليها ، أنها تحولت من شكل الاسمنت إلى شكل الرخام ، صديقي كان يراقب المشهد ، هو أيضا يحمل ذكريات العائلة ، عاش بيننا ، كواحد من الأسرة ، لم يكن يشعر بالغربة ، أو الخجل ، وصلت الباب ، على يميني كانت شجرة التفاح ، وعلى يساري شجرة الدراق .

    طرقت الباب ، بيد ترتجف ، كنت أخشى أن يرد علي احد أولادها ، سمعت حركة القدمين ، عرفتهما جيدا ، وصلت ، خفق قلبي ، صوت الملائكة ، من بالباب ، تجمدت مكاني كقالب ثلج ، أعادت السؤال ، راودتني أفكار كثيرة ، لكن لساني أصيب بالشلل .

    فتحت ، التقت العيون ، ورجفت القلوب ، تهاوت نحو الأرض ، مذهولة حائرة ، أمسكت بها ، " اخوي " ، نعم .

    رن الجوال من جديد ، أين أنت ؟ الغداء جاهز ، ساره بانتظارك ، حسنا ، أنا قادم .

    ما زالت جملة الطبيب تسيطر على عقلي ، " هناك ورم بحجم أربع سنتمترات وبعض المليمترات ، نحن لا نعرف عنه شيئا ، لا أستطيع الجزم الآن بأي شيء ، لكن علينا الانتظار ستة اشهر أخرى .

    رائحة إيمان ، تتداخل وتشتبك ، مع رائحة أمي وأبي ، فيها من رائحة من رحلوا كثير الكثير ، وفيها من عطف أمي وحنانها ما يكفي لدفن راسي بحضنها الزاخر بالذكريات المتلاطمة ، بكت ، فرحا ودهشة ، بكيت حنينا وتوقا ، قالت : أنت شاحب الوجه ، هو السفر المتواصل ، أنت تشعر بالجوع ، بالعطش ، ربما تشعر بالحنين للقهوة المعدة من يدي ، أو للشاي الغارق برائحة النعناع ، كانت مضطربة ، لا تعرف ماذا تفعل ، أشرت لها بالجلوس على الأرض ، جلست ، ألقيت راسي بحضنها .

    مرت بيديها على صلعتي ، شعرت براحة من نوع خاص ، تسللت من أناملها إلى عقلي ، إلى الدماغ ، هي لا تعرف شيئا عما يحدث بداخله ، حتى زوجتي وأولادي ، لن يعرفوا بذلك ، ربما في وقت ما ، تكون المعرفة حتمية ، لا اختيار فيها ، أما أنا فلن أبوح بكلمة ، أحسست بشيء ساخن ، يسقط على خدي ، عرفت أنها الدموع ، نظرت إليها بحركة نصف دائرية ، حتى لا ارفع راسي من حضنها ، ابتسمت ، عرفت فورا أنها ابتسامة مرسومة ، تريد أن تخفي ما بالداخل ، رفعت راسي وأنا محشو برائحة الحنان .

    صديقي معي ، سأعود ، علي المغادرة الآن ، نحو أخي عبد الرحيم ، أمسكت بيدي ، سبرت أعماقي ، ضمتني إلى صدرها ، قالت : أنت لن تعود .

    وصلت بيت أخي ، محاصرا بالحنين الظامىء ، لم يكن بالبيت ، قلت لابنه ، أنا في الطريق إلى مقبرة ذبابة ، حيث أمي وأبي ، الشوارع كلها تحمل ملامح إيمان ، شكلها ، انهيار صوتها وهي تقول " أنت لن تعود " ، وصلنا المقبرة ، لم اشعر بهيبتها كسالف العهد ، وصلت القبر المزدوج ، ووقفت .

    أمي ماتت ، بكائن غريب سكن دماغها ، وأبي مات بجلطة أطاحت بدماغه ، والدي عبر إلى الموت دون عذاب ، أيام فقط هي التي تناوشته ، وزعته بين الألم الحارق ، والحرقة المضنية ، أمي ، لم تعبر النهاية ببساطة ، سنوات ثلاث ، تقلبت فيها على غضى الألم المستبد المتواصل ، تصحو من غيبوبة ، لتدخل في أخرى ، تَسَلًخَ جلدها ، سقطت أجزاء من جسدها ، كانت تنظر إلينا نظرة مترعة بالانكسار ، بالهزيمة ، بتمني الرحيل من دنيا أحبتها وعشقتها ، أخي مصطفى اتصل لينقل لي نعي خالي صبحي ، لم اخبرها عن ذلك ، لكنها عرفت ، بحاسة الموت الزاحف فيها ، في لحظات صحوها ، كانت تخبرني بان أخاها صبحي قد زارها ، الذهول كان يمزقني ، لماذا تتحدث عن صبحي الذي نزل إلى حفرة النهاية ؟ وليس عن فؤاد القابع بأعطاف الحياة ؟ هناك صلة ، مفقودة ، لا ندركها نحن ، بين لحظات الموت وبين الحياة ، غريبة ، لكنها موجودة ، بكل ثبات ويقين .

    رن الجوال ، أين أنت يا رجل ؟ سارة أخذت كل وقتي ، عليك القدوم مباشرة ، حسنا ، أنا قادم ، لماذا يبدو صوتك مكسرا ؟

    أحقا صوتي مكسر ؟ سألت الشابة التي بجانبي ، لكنها أمعنت النظر بدهشة ، هي لا تعرف العربية ، أدركت ذلك تماما ، وكأني اعرفه لأول مرة ، منحتها دخينة جديدة ، وأنا أهم بالانصراف ، وبعد خطوات قليلة ، عدت ومنحتها علبة الدخائن مع الولاعة ، شاهدت الفرحة التي كست وجهها ، تبسمت لها وانصرفت .

    وجوه تمر وتختفي ، حركة سريعة ، لا رابط بيني وبينها أبدا ، تحمل سحنة تختلف عن سحنتي ، وتسير بخطى تتغاير عن خطواتي ، حتى الهواء المشترك الذي نتنسمه ، فيه تباين وتفارق ، هنا لا حبيب ولا صديق ، لا جدران تشبه الجدران ، ولا أرصفة تحمل أنفاس الحياة ، الجليد الممتد إلى ما لا نهاية ، يطوف بأعماقي ، يستبد بي ، ينتشر بخلايا الوجود الدافق الممتد ، بيني وبين السيارة خطوات تحتاج إلى دقائق ، وبيني وبين أختى صبحية ، من المقبرة إلى بيتها ، جدار بناه الاستعمار ، ليحول مسافة الساعة ، إلى أيام وربما اشهر ، هل لدي من الوقت ما يكفي للوصول إلى صبحية في حيفا ؟

    صديقي تلفع بصمت غير معهود ، النخلة الصغيرة ما زالت تغطي أطراف القبر المزدوج ، والصخرة الملساء الوجه ، بقيت مكانها ، حيث زرعتها للجلوس مع روحي أبي وأمي ، الاسم فوق القبر بدأ بالاختفاء التدريجي ، الحواف متصدعة متشققة ، تحتاج إلى ترميم ، على الجهة اليسرى تماما ، مكان يتسع لقبر جديد .

    نظرت إلى صديقي ، تحول شكله إلى طلل متآكل ، في عينيه بريق تساؤل ، وفي قلبه رغبة للسؤال ، هيبة المكان ، وسهومي ، كانا يدفعانه للالتزام بصمت مغلف بالسواد .

    اقترب نحوي ، قال : أنت لم تذرف دمعة كعادتك ، في الأمر ريبة ، قلق أنا من قادم تحمله بين ضلوعك ، في مركز القلب والذهن .

    أشرت بيدي للتصدع ، وللأسماء المتآكله ، عليك إصلاحها ، وهنا في البقعة الخالية ، عليك أن تضعني ، دون اسم ، ودون تاريخ .

    مأمون أحمد مصطفى
    فلسطين – مخيم طول كرم
    النرويج – 6- 5- 2008

  2. #2
    الصورة الرمزية وفاء شوكت خضر أديبة وقاصة
    تاريخ التسجيل : May 2006
    الدولة : موطن الحزن والفقد
    المشاركات : 9,734
    المواضيع : 296
    الردود : 9734
    المعدل اليومي : 1.48

    افتراضي

    تجمدت الدماء في عروقي ، والدمع في المآقي ..

    حوار ذاتي ، أخرج كل مكنونات النفس ، فكان كل حرف هنا زفرة ألم ..
    ما بين المراوحة بين الماضي والحضر ، كنت أمعن النظر مع كل خطوة سرت بها من خلال هذا السرد ،
    هذا السرد المليء بالخوف بالذكريات بالغربة والوحشة والشوق ، قفزات متسارعة متوالية بين الوجوه والأمكان ، المشاعر الرائحة الأصوات ، الدروب ، البيوت والمحلات ، كلها كان لها صوت وارئحة ودفء ، حملت الغصة وأنا أنتقل من سطر إلى سطر أتابع بتمعن كل حرف وكل إحساس هنا ..

    لا أدري ما أقول هنا ..
    نص فيه حياة كالمة ، صببت فيه كل خلجات نفسك ..
    أتعبني نصك حد الإرهاق ..

    أعتقد بأن لي عودة بعد أن ألتقط انفاسي ..
    أخي مأمون ..
    أسأل الله العلي القدير أن يمن عليك بالشفاء ..
    وأن تتأبط يد حفيدتك يوم زفافها ..

    لك الدعاء بظهر الغيب أخي ..
    رعاك ربي وحفظك ..
    //عندما تشتد المواقف الأشداء هم المستمرون//

  3. #3

  4. #4
    الصورة الرمزية عصام عبد الحميد قلم مشارك
    تاريخ التسجيل : Apr 2007
    الدولة : مصر
    المشاركات : 198
    المواضيع : 15
    الردود : 198
    المعدل اليومي : 0.03

    افتراضي

    قليل هى النصوص التى تستدعى دموعنا بهذا النزف الحارق
    هذا نصك ياسيدى
    لم أعد أرى حروفه سوى بصعوبة بالغة
    استدعت أن أمسح دموعى عدة مرات لأواصل القراءة
    لا أعرف كيف أعلق
    فعلا أحتاج لوقت حتى اعاود الابحار فى بحر أحزانك
    دمت بخير سيدى
    الأحباب ليسوا سوى قنابل موقوتة للحزن والفرح فهل من الحكمة أن نزرعهم فى الحنايا

  5. #5
    الصورة الرمزية سحر الليالي أديبة
    تاريخ التسجيل : Sep 2005
    الدولة : الحبيبة كــويت
    العمر : 38
    المشاركات : 10,147
    المواضيع : 309
    الردود : 10147
    المعدل اليومي : 1.49

    افتراضي

    موجعة هي قصتك أستاذي (مأمون) موجعة حد الثمالة !!
    أراني عاجزة كما دوما عندما أعانق لك نصا ...

    شغاك ربي وألبسك ثوب الصحة والعافية دوما

    احترامي وتقديري الكبيرين

  6. #6
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Jul 2005
    المشاركات : 320
    المواضيع : 85
    الردود : 320
    المعدل اليومي : 0.05

    افتراضي

    الاخت وفاء :

    نعم ، للاماكن ، روح ، حية ، تتنفس ، تتنسم ، تتالم ، تبكي ، ونحزن ، تماما كما نحن ، ومن يشك بذلك ، عليه ان ينقل انفاسه من موقع الراس الى الغربة ، ليرى ، ويعرف ، ويحس ، كيف ستصله روح المكان والجدران والارصفة والشوارع .

    انا اجهز لبوح ، دفعني اليه زميل ، حين قال ، لو اعطيت الفرصة والحظ ، بين ان تحيا بالحجاز او مخيم طول كرم ، ايهما ستختار ؟ اجبت فورا ، ودون ادنى تردد ، بالقلب والعقل ، بالوعي وباللاوعي ، في مخيم طول كرم ، قال : انا اقصد مكة ، فلت : انا اعرف مخيم طول كرم واعنيه .

    هل ساكون مبالغا لو قلت : بان الامة الاسلامية كلها ، تحمل وزر خروجي من المخيم ؟

    اعرف ان مفرداتي تصلك تماما ، لاني اعرف كم الوفاء الذي احطت به الاخت حنان رحمها الله .

    سنلتقي ، يوما ، على بساط الريح ، لنذرو الحروف القا على وجع يسكن باعماق المهاجرين والمهجرين .

    مع كل المحبة والتقدير

  7. #7
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Jul 2005
    المشاركات : 320
    المواضيع : 85
    الردود : 320
    المعدل اليومي : 0.05

    افتراضي

    الاخ علاء عيسى :

    اشكر لك هذا الادب الجم ، بانتظار عودتك التي تستحق الانتظار .

    مع كل المودة

  8. #8

  9. #9
    الصورة الرمزية صبيحة شبر قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Mar 2007
    المشاركات : 590
    المواضيع : 69
    الردود : 590
    المعدل اليومي : 0.09

    افتراضي

    الأخ العزيز مأمون أحمد مصطفى
    قصة متقنة تتضمن رحلة طويلة ، صحبتنا معها ، غربة كبيرة تجتاح النفس
    وتدمي الفؤاد ، وطن جريح يأبى الا مصاحبة الانسان اينما حل ، ورغبة في التمتع
    بأحضان الأحفاد الذين يمنحون الدنيا السحر والجمال ، ومخاوف يكتمها الطبيب
    ومواصلة التحمل ، عشت مع قصتك اخي العزيز ، وجدت نفسي غريبة مهملة حائرة
    في دنيا لم تعد تأبه بأوجاعنا

  10. #10
    الصورة الرمزية خلود محمد جمعة أديبة
    تاريخ التسجيل : Sep 2013
    المشاركات : 7,724
    المواضيع : 79
    الردود : 7724
    المعدل اليومي : 1.99

    افتراضي

    سرد ماتع وان طال واسلوب مشوق وحبكة متقنة
    مؤلمة بجمال
    بوركت
    تقديري

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. ورم 1
    بواسطة مامون احمد مصطفى في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 23-02-2019, 09:31 PM
  2. ورم (2)
    بواسطة مامون احمد مصطفى في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 11-08-2017, 01:38 PM