بقيت قابعة على كرسيها المعتاد ، أجلستها ابنتها قبل قليل وغادرت ، هل تظل جالسة حتى تعود الابنة ؟ أم تحاول ان تعتمد على نفسها ، وان تنهض من جلوسها الذي طال ، تحاول أن تتوكأ على شيء قريب منها ، تسقط وقد أعياها التعب وأنهكها أنها وحيدة ، لا احد معها يعينها وتستند عليه ليقيها عثرات السقوط ، سقطت قبل فترة وأصيبت قدمها ، وجبّرها لها الطبيب ، وظلت تنتظر معونات أفراد أسرتها ، لا تطلب منهم صراحة، تخشى ان تثقل عليهم ، وألا تكون عاجزة في نظرهم عن القيام بأبسط الأمور ، كانت نحلة عاملة في المنزل والعمل ، هرمت نفسها قبل الأوان ، واستبد بها الإعياء ، من يعيد إليها القوة الراحلة دون وداع ، ومن يمكن ان يريحها من عناء السؤال الذليل ، هل السقوط وحده جعلها في منتهى العجز ؟ ام مواقف اللامبالاة التي يواجهها بها من أحبت ؟ حاولت مرة أخرى ان تقف على قدميها ، وان تذهب إلى مرآتها ،التي اعتادت منها الصدق في المواقف الحرجة ، أحقا ما يقولون ان الذبول أدركها سريعا ؟ وان نفسها التواقة الى الربيع أدركها خريف العمر ؟ تسير ببطء شديد ، خطوات وتكون المرآة أمامها ، تتنفس بعمق وتتنشق نسمات الهواء العليل
نظرت الى المرآة متمعنة بوجهها ، وتنهدت بحسرة :
يتعبها حالها ، إرهاق متواصل يرتسم بوضوح على وجهها ,، و علامات الشيخوخة والهرم تهزأ من محاولاتها للعيش بسرور ، قد تكون الأقل تمتعا بصفات الجمال بين صديقاتها ، أحبت رجلا طيبا، كل النساء يتقن الى نيل الحظوة لديه ، وأتعبها انه سهل المنال ، يمكن لكل من أعياها العثور على مطلبها من الرجال ان تدعوه إليها فيستجيب ، حاربت كل العالم كي تقترن بمن أحبته أكثر من نفسها وفضلته على الجميع ..
- مضى شبابك يا امرأة وولى عهد الوصال
عبارته الأثيرة على نفسه يرددها دائما حتى أصابتها العدوى ، هل هي حقا كما يقول ؟ وهل نال منها الإرهاق قبل الأوان ؟ أين ذهب جمالها ؟ وجهها الصافي المعبر ماذا حل به ؟ وصوتها الجميل الحنون ،هل تعرض للتغيير أيضا ؟ وهل يتغير الصوت بهذه السرعة ؟
تطيل النظر الى صديقتها المرآة ، علها تجد الجواب ا لصحيح ،عن الأسئلة العديدة التي تجول في ذهنها ، وان تعثر لديها على الدواء الشافي لكل أحزان النفس وأسقام الفؤاد ، تنظر مليا ، ترتسم ابتسامة هازئة على مرآتها حافظة سرها
كانت ساحرة الجمال، أنيقة، رائعة الهندام، صوتها يثير الحنان ، وعيونها كحيلة ، طويلة الرموش ، فكيف تعرض جمالها ذاك إلى الضياع ؟
حاربت الجميع لتقترن بالحبيب ، وما ان ضمهما العش الكئيب حتى غدا يذكرها في صباحها ومسائها :
مضى شبابك يا امرأة وولى عهد الوصال..
أخاديد الزمن محفورة بوضوح ، وتعب السنين تجد نفسها عاجزة عن إخفائه ، ومراهم حفظ الشباب لم تقدم لها شيئا ، خسرت نقودها بلا جدوى ، ابتسامتها التي كانت مشرقة صارت بائسة ، لا تنبع من القلب ، عيونها انطفأ بريقها ،وصوتها أضحى خشنا، ووجهها المعبر عن الفرح، صار يتحدث عن المعاناة التي لا تنقطع والحزن المقيم ، أين حبورها ؟ وأين ذهب نشاطها المثير للإعجاب ، وكيف رحل عنها الشباب ، وهجرها مرح السعادة والهناء ، أعوام قليلة عاشتها بنكد، كانت قادرة على إحداث انقلاب كبير، في مظهرها وعقلها وتراجع نفسيتها وتقهقر عواطفها..
تحاول أن ترسم ابتسامة على ثغرها اليابس ، تأتي الابتسامة حزينة تخلو من المعنى ، تكرر المحاولة ، تخيب مرة أخرى ، تقهقه محاولة ان تجلب موجات الفرح ، تنظر الى المرآة بإصرار ، تقترب منها ، تمد إليها يدها مصافحة ، تبتعد عنها ، تحاول مرات أخر ،تستجيب المرآة ، تنطلق ضحكة صادقة من القلب ، تدمع عيناها ، تأتي ابتسامتها جميلة آسرة :
تتطلع إليها المرآة بتفهم ، تبحث عن أخاديد الشيخوخة ، لا تجد لها أثرا ، تحاول ان ترى علامات الإرهاق ، فتدرك إنها هربت منها أخيرا ، تتساءل اية لعنة انصبت عليها وقتلت في نفسها السرور ، بعض الوقت ؟و أية كلمة قادرة على بذر الهزيمة في نفوسنا ؟ هل تستطيع الأعاصير أن تقلع الأشجار الثابتة في الأرض ، وها تتمكن الرياح الهوجاء ان تزيل مدن الفرح والشباب ؟