أبنائي سبب بلائي
في الأسبوع الماضي ذهبتُ في زيارة لابنتي المتزوجة في معسكر خانيونس ، وعندما هممتُ بركوب السيارة سمعتُ بداخلها ما يشبه الشجار العنيف ، ركبتُ وإذا هو نقاش شرقي بين أحد الركاب وآخر يجلس بجانبه . الأول رجل في الستينات من عمره ولكنه شديد البنية ، عصبي المزاج ، والآخر شاب في الأربعينات من العمر ، تبدو عليه ملامح الذكاء والفطنة ، وكذلك ملامح الأدب والاحترام . استمعت إلى النقاش فإذا هو ليس نقاشًا ، إنما ذلك الشيخ يتذمر من حياته ويتأفف ، وأحيانًا يصرخ متأوهًا ، والشاب يحاول تهدئته وإقناعه بأنه أفضل بكثير من غيره ، وأنه بدلاً مما يقوم به ، عليه أن يحمد الله تعالى .23/ 4 / 2018م
وبالرغم من نيتي عدم التدخل في النقاش ، إلا أنني لم أدرِ كيف دخلتُ فيه . قلت للشيخ : ما مشكلتك يا حاج ؟ رد بعصبية : أبنائي ، غضب الله عليهم ، فأنا لي من الأبناء سبعة ، علمتهم أحسن تعليم ، وفقهتهم في الدين ، وكانوا إلى وقت قريب يُضرب بهم المثل في الأخلاق والتميز في الدراسة ، زوجتهم جميعًا من نفقتي الخاصة ، ووفرت لهم كل أسباب السعادة ، ولكنهم لم يكونوا بالصورة التي رسمتها في مخيلتي لأبنائي ، وأنا الذي يُضرب بي المثل في العلم والأخلاق والأدب . صحيح أنهم ليسوا فاسدين أو منحرفين ، ولكني كنت أطمح أن يكونوا غير ما هم عليه الآن ، خاصة أن أحدهم يجلب لي المشاكل كثيرًا مع الناس ؟ هل قصرتُ في حقهم ؟ هل تقاعستُ في تربيتهم وتهذيبهم ؟ واللهِ لقد كانوا في المرحلة الابتدائية من أوائل الطلبة ، ويحفظون أجزاء لا بأس بها من القرآن الكريم . كانوا هم الذين يوقظونني لصلاة الفجر ، اشتركوا في الكثير من المسابقات وفازوا بها ، كان كل أقاربي يعيرون أبناءهم وزوجاتهم ويقولون : انظروا إلى أبناء فلان : علم وأدب وأخلاق .
قلتُ له مهدئًا : اسمح لي أن أقول لك بعض الكلمات ، وليس معنى ذلك أني أكثر منك علمًا وفهمًا وخبرةً في الحياة ، حاشا لله ، ولكني أعلم أن من يكون خارج المشكلة يستطيع أن يفكر فيها بهدوء وروية أكثر ممن هو واقعٌ فيها . أولاً أنت – بالقياس إلى غيرك – في نعمةٍ كبيرة ، بل في نعمٍ كثيرة . فغر الرجل فاه وقال : أتهزأ بي يا رجل ؟ قلت : أبدًا . أنت تقول بأنك معروف عند الناس بالعلم والأخلاق والأدب ، أليس ذلك نعمة يفتقدها الكثير من الناس ؟ إن هذه النعمة أفضل بكثير من نعمة المال والولد . ثم إن الله رزقك بسبعة من الأبناء ، انظر إلى من حُرِم هذه النعمة ، لقد تمنى أحدهم أن يرزق بابنٍ واحدٍ حتى لو كان معاقًا . أما عن سلوكهم فأنت تقول بأنهم ليسوا فاسدين أو منحرفين ، وحتى لو كان ذلك كذلك فما قصرتَ في تعليمهم وتربيتهم ، فلا تبالغ في لوم نفسك يرحمك الله . ثم كيف تدعو على أبنائك ؟ فما دمت قد دعوت فادعُ الله أن يهديهم ويصلحهم ، فالله القادر على إهلاكهم كما تطلب ، قادر على إصلاحهم .
قال الرجل : نسيتُ أن أقول لك بأن أصغر أبنائي ولد معاقًا ، وأنا وأمه نعاني الأمرين في العناية به وتوفير متطلباته من إطعام وقضاء الحاجة وما إلى ذلك ، فهذا يزيد من همومي وآلامي . ثم إن أغلبهم لا يعمل ، وتركوا مهمة الإنفاق عليهم بدل أن ينفقوا عليِّ ويريحونني في كبري . ألم أقل لك بأني أعاني وأكابد ، إنك لو تعيش ما أعيشه ربما ألقيت بنفسك من علٍ ، أو لأصبت بالجنون ، أو الجلطة الدماغية . يا ليتني لم أنجب أحدًا .. يا ليتني لم أتزوج أصلاً . أبناء ليسوا كما أردت .. ابن يسبب لي المشاكل صباح مساء .. ابن معاق .. أبناء لا يعملون . ماذا أعمل يا ألله ؟
وما إن أتم الرجل هذا السيل من العبارات اليائسة ، وقبل أن أنطق بكلمة إذ بالسيارة تقف .. ياااااه ، لقد وصلت إلى محطة السيارات في خانيونس .. تضايقت كثيرًا .. لماذا لم يتأخر وصول السيارة قليلاً لأخفف عن هذا الرجل مما يعانيه ، ولأزرع الأمل في نفسه .. لكن فات الميعاد . أدعو الله أن يصلح له أبناء هذا الرجل ويجعلهم قرة عين له ، وأن يرزقه من يخفف من معاناته ، ويبث فيه روح الأمل ، مستعينًا بالله ، وبما ورد في كتاب الله تعالى ، وما ورد في الحديث النبوي الشريف من الأدعية التي تزيل الهم والغم .إنه نعم المولى ونعم النصير .