القول السديد في رائعة عمرو عبد الحميد
( مراجعة أدبية لرواية أرض زيكولا )
كنت قد ترددت كثيراً في دخول تجربة من هذا القبيل، وقد صدمت قبلها ببعض كتابات الشباب التي نالت صدى دون أن تكون قد قدمت أي قيمة فنية معتبرة ، ربما سنختلف حول بعضها وربما نتفق ، لكني وجدت صدى مقبولاً للكتاب بين يدينا بجزئيه لدى قطاع واسع من الشباب، فقلت : لعلها تجربة تستحق ، بل أن من واجبي كشاب أن أشجع الكتاب الشباب ، وأن أدعم تجاربهم ما استطعت ..
الانطباع الأول عن الكتاب "الأول"أرض زيكولا : تمثل في الجزئيات التالية :
أولاً : الأسلوب / الاسلوب هو مثل المذيع الذي يقدم نشرة الأخبار ، يحاول أن يضع الخبر دون أن يتدخل فيه لكنه يضع لمساته الفنية ليقنعك بوجهة نظره دون أن تحس ، كما أن الأسلوب هو الكاشف عن فكر صاحبه، ونفسيته ، الكاتب استخدم اسلوب الراوي العليم \ الراوي الخارجي \ الموضوعي \ المسقط الثالث ، وكما يصفون هذا الأسلوب بمحرك العرائس ، فالكاتب هنا يضع لمسته وأسلوبه بطريقة ذكية ، دون أن يبدو تدخله ظاهراً للعيان ، يبدو محايداً ويترك الحكم للقارئ ، وهذا كان جيداً لسياق القص ، ومناسباً لتنقله بين المشاهد والأبطال .
ثانياً : الفكرة : كل منظري الأدب منذ أرسطو الى اليوم رفضوا تدخل الخوارق والمعجزات في المنجز الأدبي، والكثيرين لا زالوا أكثر التزاماً بقوانين ونواميس الكون ، رغم أن تفسيرنا للكون ونواميسه ما زالت قاصرة حتى الآن .
طرق الكاتب فكرة جيدة ، ولجأ بشجاعة لفن الفانتازيا والروايات الخيالية ، وهو أمر يتجنبه الكثير من الكتاب العرب مهما كانوا مبدعين فيه ، ببساطة لأن شيوخ الكتاب وعجائزهم لا يعتبرون الأدب أدباً الا لو خرج من المدرسة الواقعية التي برع فيها نجيب محفوظ والسباعي ، الأدب ليس أدباً لو لم يتحدث بواقعية عن الحارة والعمدة والعمارة والراقصة والمومس والموظف البسيط والحياة الطاحنة ، الأدب الواقعي هو المدرسة الوحيدة المقبولة ، لأدب الرعب والفانتازيا انتشاراً حديثاً بين قطاعي الأطفال والشباب ، لكن لن تجد اتحاد كتاب عرب واحد يرضى الاعتراف بكاتب يكتب أدب الرعب أو الفانتازيا أو الحركة ، لا ننسى أن نبيل فاروق الذي كتب ما يقترب من ألف عنوان رفضت عضويته في اتحاد الكتاب المصريين مرات عديدة ، أما بالنسبة للغرب فان هذا اللون ليس معترفاً به فحسب، بل وأنه يلقى كل اهتمام وتشجيع ونجاح ، ولنا في روايات هاري بوتر التي أصبحت كاتبتها مليونيرة خير مثال .
نشجع الكاتب، ومن يحذو حذوه ، أن يعيدوا الحياة لألف ليلة وليلة وأجواء علاء الدين وعلي بابا ، أن يدخلوا المدن المسحورة والقبائل المنسية وان يغذوا خيال أطفالنا، فلا شيء يمنح الحياة لطفلٍ سوى حلم جديد ..
ثالثاً : وقع الكاتب ومعدوا الكتاب في أخطاء في التنسيق، والتصاق الكلمات ، والتكرار الذي يضعف النص ، مثل :
( أنا أيضاً سعيدة لأنك تشعر بالسعادة، كنت أعلم أنك ستكون سعيدا هكذا ) ، وغيرها
كذلك فان السرد يدخل كل مرة بعد انتهاء فقرة الحوار، بمعنى تنتهي الجملة بلسان أحدهم فنجد السرد بعدها مباشرة دون بدء سطرٍ جديد، ما يعني ضعفاً في تنسيق النص وتشتيتاً لتركيز القارئ.
رابعاً : الحوار بالعامية المصرية ، هذا أمرُ لا أحبذه وأرى أنه يضعف النص ، لأن الكاتب يجب أن يكتب للعرب كلهم وليس للمصريين فحسب، كما عليه أن يحافظ على رونق اللغة وتميزها ، وأن يكون أداة بناء لا معول هدمٍ ، وحجة أن اللهجة المصرية مفهومة لكل العرب هي حجة واهية فالعامية هي العامية مهما زخرفناها ، على أن هذا ليس التحفظ الوحيد على الحوار ، فالملاحظ أن أهل المدينة يتحدثون باللغة العربية الفصحى ، وهذا جيد ، لكن البطل-خالد- يصر اصراراً غريباً أن يتحدث بالعامية طوال الرواية ، ويصر أبطال الرواية أن يفهموا حديثه العامي جيداً دون أي استفسار عن معنى كلمة أو جملة . وهو ما كان ينافي المنطق تماماً . بل أن الكاتب كان يسهو أحياناً فيجعل خالد يتحدث مع الناس بالعامية ، ويحدث نفسه بالفصحى ، مثلاً عندما حدث نفسه قائلاً : - لا رحمة في زيكولا ، ثم حدث المرأة التي جاءت تبحث عن طبيب وتسأل عن أسيل : انها ستأتي بعد قليل ، لماذا تريدينها ؟
ثم يعود للعامية في حديثه مع ذات المرأة فيقول : لا أنا مش ماهر، أنا مش طبيب
خامساً : في فكرة الدخول عبر السرداب الى عالم آخر أرى اقتباساً أو استعارة من أفكارٍ أخرى ، وهو ليس معيباً في الأدب ، فهنا روح أليس في بلاد العجائب وسلسلة أفلام نارنيا ، لكن في فكرة التعامل بوحدات الذكاء بدل النقود سأتوقف قليلاً ..
"في الوقت المحدد" أو In Time" " هو فيلم أجنبي نال شهرة متوسطة وكانت الفكرة مبدعة بحق ، التعامل كان في المستقبل بوحدات الوقت، من يملك ساعة يعيش ساعة ومن يملك ألف ساعة يعيش ألف ساعة، ومن انتهى وقته يموت، هناك بنوك للوقت، ومناطق يعيش بها الأثرياء وحسب، ومناطق للفقراء الذين يجمعون ساعات يومهم يوماً بيوم ، ويعيشون كل يوم كأنه الأخير ، الأجسام معدلة جينياً بحيث تنهار عند انتهاء هذا العداد المكتوب على معصم اليد ، وعندما تريد التبرع بوقت منك الى آخر عليك أن تضع ساعدك على ساعده، ولسوف يبدأ عداد وقتك بالتناقص وعداده بالتزايد ، ثم تتوقف عندما ترغب بذلك، رأينا أماً تتبرع بساعاتها الأخيرة لطفلها ، ورأينا اقتحام البطل لبنوك الوقت وتوزيع ملايين الساعات على الفقراء ، الفكرة عبقرية ومشابهة لفكرة زيكولا، بل طبعاً أكثر ابداعاً وواقعية ..
اذ لم يجبنا الكاتب عن أسئلة هامة فيما يتعلق بهذا النوع من التعامل بوحدات الذكاء :
- كيف ينقص معدل الذكاء ؟
- كيف يحتسب الذكاء زيادة ونقصاناً ؟
- كيف بدأ كل ذلك ؟
- كيف يتم نقل الوحدات من أي شخص الى الآخر بمجرد موافقته، أين تخزن ، كيف يتم احتوائها واحتسابها ؟
- اذا سرق البلطجي بضع وحدات من الذكاء فلماذا لا يسرق أكثر ؟ واذا سرق أكثر فلماذا لا يصبح أذكى ؟ واذا أصبح أذكى فلماذا لا يصبح أثرى ؟ لماذا يموت الناس وهم يمتلكون قصوراً فاخرة ؟ ما فائدة الذكاء ؟ هل يعيش الناس فقط ليتجنبوا الموت مرة كل عام ؟ من سن هذه القوانين ؟ وما الحكمة منها ؟ وما التفسير العلمي أو الخيالي لهذا الأمر ؟
سادساً : أخطاء منطقية تتعلق بالأحداث، مثلاً: أين كان خالد ينام قرب البحيرة طيلة شهور طويلة ، دون فراش أو غطاء، على الأرض ، دون أن يفكر في استئجار غرفة ، أو يفكر أحد أصدقاؤه أو أسيل في أن يعرض أحدهم عليهم مأوى ,,
وأيضاً مثل ترنح خالد بعد تبرعه بوحدات ذكائه دون أن تفكر صديقته الثرية في أن تتبرع له بأي شيء يساعده في الوقوف على قدميه رغم بكائها عليه ,, وكما قايضت قبلة بالكثير من وحدات ذكائها كان يمكنها أن تفكر بذلك قبلاً ، بمجرد ترنحه أمامها بعد اعطائه حفار الأنفاق أغلب ما يملك ..
سابعاً : يفتقر الكاتب لدقة الوصف، مهارة الوصف ، لم أستطع أن أتخيل زيكولا ، شكل مبانيها، شكل أناسها ، شوارعها ، هي مدينة مقسمة لأربعة مناطق، منازلها مكونة من ثلاثة طوابق متساوية ، مبنية من الطوب الأحمر، الناس يلبسون سروايلاً واسعة من الأعلى وضيقة من الأسفل، وتضاء المدينة بالنار ..
هذا كل ما أعرفه عنها ، ولو كان الكاتب استخدام المزيد من وحدات الذكاء في الوصف، لخرجنا بما هو أجمل من مخيلته التي أثق أنها تحمل الكثير من الابداع .. لعله لم يرد تبديد ثروته ..
ثامناً : سهولة اللغة والأسلوب ، كانت أقرب لقصص االشباب ، قصة كهذه جمهورها بالأساس الشباب ، لم يعكس لنا الكاتب فلسفته الخاصة، ولم يضع لنا لغة غنية بالمفردات ، ولم يحاول ابهارنا بل كان على سجيته تماماً ، القصة تصلح لفئتي الشباب والمراهقين بجدارة ، والكتابة لهاتين الفئتين ليست بالسهلة أبداً ..
على أن هذه ليست علة مطلقة، فقد ساعد الأسلوب في سلاسة الرواية ، وساهم في أنها سهلة متتابعة ومن يبدأ بقراءتها لن يمل ولسوف يجد نفسه وقد انتهى منها في وقت قياسي، دون أن يمر الملل اليه ولو للحظة ..
تاسعاً : الشخوص : كانت شخصيات الرواية قليلة ، أغلبها شخصيات رئيسية : خالد وأسيل ويامن واياد ، والجد وفتاة الليل ، وأيضاً هلال ،الأخ الذي قتل والده ، تناول الكاتب البعد التكويني لأبطاله ، وتجاهل البعد الاجتماعي والنفسي، معرفتنا عن اياد ويامن معرفة سطحية جداً ، عن أسرهم وعواطفهم وفكرهم وخلفياتهم الثقافية ..
عاشراً : الصراع : يعرف الصراع أنه تصادم بين قوتين ، ويقسم الى داخلي وخارجي ، خاض البطل صراعاً نفسياً داخلياً بين رغبته في البقاء ورغبته في الخروج من زيكولا ، لكن الصراع الخارجي كان صراع البطل ضد بعض الألغاز حتى يتمكن من الخروج ، وضد قوة رئيسية وحيدة استطعت استنباطها : جشع أهل المدينة ، لم يكن هناك عدواً رئيسياً ، بطلاً شريراً واحداً ، يكون هو التحدي الرئيس ، لم نكن نتعاطف مع خالد أو نبكي معه أو نحترق معه ، كنا فقط نترقب كيف سيحل اللغز ويخرج . هذا الصراع الذي كان يجب أن يؤدي للذروة، للعقدة ، للحظة التأزم التي بحثنا عنها كثيراً حتى تأخرت ، ثم جاءت حين تم القبض على خالد ليكون من فقراء زيكولا ، ساعتها فقط شعرت بالتوتر ، وبأن هناك حدثاً يستحق قلقي ..
حادي عشر : في زيكولا عنصر الشر شبه مفقود ، ربما باستثناء هؤلاء البلطجية ، وهلال الشرير دون أي سبب ، أما الناس فكلهم طيبون، أسيل وأصدقاؤه، الحاكم الذي لا يرضى الظلم لكنه يرضى بذبح انسان كل عام وكل مناسبة خاصة ، بل وحتى حفار الأنفاق كانوا طيبون، فلم يأخذوا وحدات الذكاء من خالد وينصرفوا وانما التزموا باتفاقهم حرفياً ، ما الضامن لهكذا اتفاقات ؟ لا أدري ..
أخيراً : فان الكاتب ذا خيالٍ خصب ، وأسلوب جميل ، وطريقة سردٍ سهلة جداً ، تشد القارئ وتدفعه رغماً عنه للمتابعة ، كان بحاجة لتربيط القصة أكثر، ومَنطَقتها أكثر ، لكنه بالنهاية خرج لنا بتجربة فريدة تستحق القراءة ، لا أقول أنني ندمت على وقتي، بل أقول أنني أرجو المزيد من الابداع له ، وأرجو أن يحلق في سماء الخيال ما استطاع، فالحلم هو وسيلتنا الوحيدة للتكيف مع الحياة ..
شكراً عمرو عبد الحميد .. أنت بارع .
أحمد عيسى
19/3/2016