الزيارة
نص / بقلم : مجدي جعفر
لا أحب عادة زيارة المرضي ، يؤلمني منظر المريض وهو يتوجع ، تخرج الآه منه لتمزق قلبي ، وتفتت أعصابي .
أحياناً أدعو له بالرحمة ، والرحمة في عُرفي – كما في عُرف العامة تعني الموت .
نعم .. فالموت أرحم ، فالمريض يتمني ولا ينال ، يشتهي ولا يستطيع ، يبطل جهده ، وتتبدد طاقته ، تتعطل عنده قوانين الجهد والطاقة والفعل ، وينعدم عنده رد الفعل تماماً ، بل يصبح لا يربطه بالحياة سوى صوت الألم .
كان راقداً في سريره ، في غرفة واطئة مصنوعة من الطوب اللبن ، ومعروشة بالغاب ، وعندما دخلت عليه ودارت عيني في الحجرة ، لا أدرى لماذا تذكرت على الفور " أمل دنقل " وقصيدته المشهورة .
" في غرفة العمليات .
كان نقاب الأطباء أبيض .
لون المعاطف أبيض 0
تاج الحكيمات . أردية الراهبات .
الملاءات .
لون الأسرة ، أربطة الشاش ، والقطن ، قرص المنوم ، أنبوبة المصل ، كوب اللبن .
كل هذا يشيع بقلبي الوهن .
كل هذا البياض يذكرني بالكفن " .
هل اجتزائي لهذا المقطع من قصيدة شاعرنا الجميل يغنيني عن الوصف والسرد ؟ وهل اجتزائي لهذا المقطع يكفي لتعرف يا قارئي العزيز كم أنا أكره المرض وأهرب من المريض .
أقسم من البداية أني سأصدقك القول :
فحين أستعيد المشهد الآن ، أجدني وقد سرت رعشة خفيفة في بدني . كانت تقودني عبر سلم طيني إلى غرفته بالطابق الثاني .
ولأني أقسمت على قول الصدق .
تمنيت لحظتها – لو كان راقداً بالدور العاشر ، وأصعد السلم خلفها درجة ، درجة .. لأمتع ناظريَّ ، باهتزازات ردفيها ، واستواء ظهرها . هذه هي الحقيقة ، حتى لو لوى كاتب أو ناقد سلفي بوزه ، وامتشق قلمه ، وراح يلعن جدودي .
كانت شاهقة مثل جبل ، وعالية مثل نخلة .
حينما استويتُ أمامها – أمام الدار ، وهي تفتح لي الباب ، لا أدرى لماذا شببتُ على أطراف قدميّ ، عادة قديمة لازمتني كلما صادفت امرأة شاهقة.
بالكاد وصل رأسي إلى مستوى صدرها المنتفخ . لثوانٍ حار البصر بين الصدر وبين العينين السوداويين الواسعتين .
اختلج القلب حين استراحت يدها في يدي
- أنت الأستاذ عبد الله النهري ؟
طربتُ لأنها نادتني باسمي ، وعرفتني دون أن نلتقي من قبل0
هممتُ أن أسألها : كيف عرفتني ؟!
ولكني تذكرتُ أن صورتي تتصدر المقالة الأسبوعية التي أكتبها بالجريدة اليومية الأكثر انتشاراً ، وأن قصصي ورواياتي صدرت في عدة كتب هي الأكثر توزيعاً رغم ندرة القراء في وطننا العربي .
قلت " بفخر وثقة " : وهل يعجبك ما أكتبه؟
قالت : بالطبع لا !
ابتلعتُ غيظي ، ضاق صدري عن الغيظ ، فانتفخت أوداجي وجحظت عيناي ، واحمرت أذناي ، ونفختُ حتى لا تتفجر رأسي ، فخرجت الأنفاس حارة ملتهبة .
قالت " ببرود " : هل أزعجتك صراحتي ؟
حككتُ أرنبة أنفى التي أحسستُ بها كقطعة من الجمر ، وعبثتُ بنظارتي الطبية ، ولم أعلق .
قالت : " الصراحة " كده " ، " دايماً " مؤلمة .
هممتُ أن أقول : ثمة فارق بسيط ، وفاصل صغير بسُمك شعرة بين الصراحة وبين الوقاحة . ولكني لم أقل .
" كنا نجلس بالغرفةِ – الراقد فيها صديقي – أتحاشى قدراستطاعتي النظر إليه ، وبين الحين والآخر ، أختلس النظر إلى سمانة رجلها الممتلئة و…"
( أعتقد أنه لا داعي لإكمال المشهد ، فالقارئ يستطيع أن يكمله )
قالت وهي ترى القلق بادياً على وجهي :
لا تقلق ؟ 00
كوب من الليمون أصنعه لك بيدي يزيل عنك التوتر والقلق ، ويهدئ من أعصابك .
ونهضت وهي تقول :
دعني آتي لك بليمونة أو بليمونتين ، " تخمشهما " بأسنانك – كما أفعل – حين يداهمني الأرق " وتضحك " :
فليس لدينا سكر حتى أصنع لك كوب ليمونادة ! عموماً لليمون فوائد جمة ، أظنك لست بحاجة لأن أشرحها لك ، ولست بحاجة أيضاً لأن أبين لك أضرار السكر .فأنت تعلم أضرار كل ما لونه أبيض .
السكر ، الدقيق ، الملح .
لا أدرى . هل المرض هو الذي حرمنا منها أم الحكومة ؟
وراحت تثرثر :
هذا البيت المتواضع ،سورته بأشجار الليمون والنخيل بدلا من " الفيكس " لماذا نُصِر على غرس شجر" الفيكس " الذي بلا ثمر وبلا رائحة ونترك أشجار الليمون والخوخ والبرتقال والنخيل ؟0
تمد يدها . لتفتح النافذة الصغيرة - حيث كانت تجلس علي الأريكة التي أسفل النافذة مباشرة ، بينما أجلس أنا على الأريكة المواجهة للسرير الراقد عليه صديقي وأتحاشى النظر إليه ما أمكن .
يتسلل ضوء صغير ، ورائحة أشجار الليمون ، يبدد الضوء مساحة من عتمة الغرفة ، وتطرد رائحة الليمون رائحة الأدوية .
تنحني على النافذة ، تسد بجسمها الممتلئ فضاء النافذة تماماً ، أتأمل مؤخرتها وهي تفرط يدها عن آخرها ، تقطف بضع ليمونات ، تلف بنصف جذعها ، وتقف في مواجهتي وتقول :
مُبلل بالندي ، ومغسول بماء المطر ، ويؤكل هكذا ..، و " تخمش " بأسنانها ليمونة …وتقول وهي تلوك الليمونة بقشرتها في فمها :
- يجب ألا نلوثه بماء " الطلمبة " ولا بماء الحكومة المخلوط بالمجارى ! 00
تتلذذ بمضغ الليمونة ، تمسك بليمونة أخرى ، تقلِّبها بين يديها ، وفجأة تدفعها إلى فمي " وتضحك " :
- اغرس أسنانك فيها أيها الكاتب الكبير ؟….. لماذا تجزع وتغمض عينيك ويختلج وجهك هكذا ؟ ..ازدرد ماء الليمون ، دعه ينزلق إلى جوفك ليطفئ ناراً ، وليكن برداً وسلاماً على قلبك ، على صدرك .
(( قطع المشهد ))
** إستدراك :
فاتني أن أحكي لك عزيزي القارئ عن دواعي وملابسات الزيارة ، وأنا الذي لم أزر مريضاً قط من قبل ، وإذا ما سقط زميلٌ أو صديقٌ أو قريبٌ لي فريسة للمرض . أكتفي بإرسال باقة ورد له أو برقية أدعو له فيها بالشفاء . قد أزوره عندما أتأكد أنه قد امتثل للشفاء تماماً . أما واجب العزاء ، فلا أتخلف عنه أبداً ، وأنا حينما ذهبت إلى صديقي – كنت أظن والله أنى سأقدم واجب العزاء لزوجته التي لم أرها من قبل . هل أنا فعلاً لم أرها من قبل ؟00 ولأني أقسمتُ على قول الصدق أقول : ليس من الضروري أن يري الإنسان إنساناً آخر رؤيا العين ، فقد يراه بعين الخيال أو بقوة الحدس ، فأنا أزعم أنى رأيتها من خلال حديث صديقي عنها ، عندما كان يخصني وحدي بالحديث عنها ، فكان يرى أنني صديقه المفضل فيؤثر أن يفضفض معي ، ويبوح لي بأسراره ، ورغم أننا والله على طرفيّ نقيض ، فهو في زعمه وزعم كل أصحابنا الملتزم وأنا المنفلت ، *ولا أجد غضاضةً أو حرجاً في أن أفضي إليك بواقعة قد يجد المتنطعون من القراء والنقاد على السواء أنه لا ضرورة لها . ولا فائدة منها ، ولا تخدم النص الذي أكتبه ، ولكني أقسمت :
فذات يومٍ بعيد ، تركتُ له سريري ، رغم البرد القارص ، فكان يُمنى نفسه ويحلم بأن تأتيه في المنام ، فأفسحتُ لها مكاني على السرير ، وافترشتُ الأرض راضياً وضاحكاً ، وفى الهزيع الأخير من الليل ، تسللت على أطراف أصابعها ، وأطفأت النور ، وشاركتني أنا النوم على الأرض !
** ملحوظة :
هذه الواقعة " المنامية " التي لا أنساها أبداً ، كانت سبباً في عدم حضوري حفل زفافه ، واكتفيت بإرسال باقة ورد وخطاب تهنئة .
** عودة إلى المتن :
ذات صباح من صباحاتي المكرورة ، كنتُ جالساً بمكتبي بالجريدة ، وجاءت السكرتيرة الجديدة الحسناء ، بتلالِ الخطابات ، وكان هذا بداية عملها معي ، عشر سكرتيرات ارتبطن بي قبلها على مدى خمسة عشرة عاماً وعملن معي ، ما بين سمراء وشقراء ، طويلة وقصيرة ، ثيب وبكر، نحيفة وسمينة ، و " بين بين " . من تستعصي على أطردها ، ومن تسلم لي نفسها بسهولة ويُسر أملها وأطردها أيضاً .
كنت أتأملها – أقصد السكرتيرة الحسناء – وهي تقرأ علىَّ ما دبجه القراء ، لم أجد فيها ما يغرى بما فيه الكفاية ، رغم جمالها اللافت بمقاييس السينما المصرية والغربية أيضاً .
( أعتقد أن كلمة مقاييس السينما – تكفى لأن يضع القارئ تصوراً لما تكون عليه السكرتيرة ، ويرسم لها الصورة الجمالية المناسبة وفقاً لمواصفاتِ ومعايير السينما )
المهم أنى شعرتُ بأني التقيت بها من قبل في أخريات : ربما في النادي أو الجريدة ، في الشارع ، في السينما …وحينما أقول السينما أُذكرك بأني كاتب روائي ، ولى روايات أخذتها السينما ، وقام بتمثيلها .ممثلات ملء السمع وملء البصر . وأظن أن الإشارة هنا تغني عن العبارة والتلميح أفضل من التصريح كما يقول نقادنا الأشاوس !.
معذرةً إذا كنتُ أخرج أحياناً عن الموضوع ، وأقطع حبل التواصل ، فلا أكتمك سراً – أني في قصص وروايات البدايات ، كنتُ أحرص فيها على مد جسور التواصل والمحبة معك أيها القارئ العزيز ، وقد أجمعَ النقاد علي أني موهبة لافتة ، أفوق في بداياتي ، بدايات يوسف إدريس ! ولكن مر عامان ولم أكتب رواية ولا حتى قصة قصيرة ! ، لا أظن أنني أفلست فنياً كما يُشاع ، ولكني أحلم بكتابة نص أفجر فيه قاعدة الثبات ، أحطم السائد ، وأخرق المسار الأدبي المألوف ، وأنا أعوِّل عليك كثيراً في هذا النص أيها القارئ .. أنا والله لا أكتبه عن قصدٍ أو عمدٍ ، ولكن الموضوع ، موضوع الزيارة ، هو الذي فرض هذا الشكل …. المهم أنى أريدك قارئاً نشطاً ذهنياً ووجدانياً ومعرفياً أيضاً ، تعمل فكرك ، وتجهد عقلك ، لا كسولاً تطلب الفكرة المجانية ، فعليك أيها القارئ ، أن تُشارك معي في إنتاج المعني أو في إنتاج الدلالة ، وتساهم في صناعة النص وأن تكون – كما نادي – رولان بارت – مُؤهلاً علمياً ومعرفياً وفنياً لتلقي النص ، ومناوشته والاشتباك معه … فهل أنت مستعد؟*
** هامش صغير :
" رولان بارت " هو الذي أعلن موت المؤلف ، وناقش مفهومات مؤلف وقارئ ، وبشر بعصر القارئ ، ولكي يتحقق عصر القارئ الذي بشر به ، فإنه يفتح لهذا العصر مجال النص بأن يعرض له نوعين من النصوص هما النص القرائي والنص الكتابي . والنص الكتابي هو النص الحديث الذي يدعو إليه بارت ، وهو نص يمثل الحضور الأبدي ، والقارئ أمام هذا النص ليس مستهلكاً وإنما هو منتج له ، والقراءة فيه هي إعادة كتابة له .
وللمزيد من المعلومات اقرأ : د .عبد الله محمد الغذامي . الخطيئة والتفكير – كتاب النادي الأدبي بالسعودية ، العدد ( 27 ) ، عام 1985 ، ص 73 وما بعدها .
** عودة إلى المتن مرة أخرى :
كانت السكرتيرة الحسناء " بمقاييس السينما " تقرأ علىَّ ، وأنا شارد الذهن ، موزَّع الفكر ، وأقول لنفسي : لماذا لا تُثيرني هذه الفتاة وأنا الذي أُستثار بسهولة ؟….
أحاول أن أتخيلها وهي بين ذراعيَّ …
( فاتني أن أقول لك – أنه منذ أن صعد نجمي في سماء الصحافة والأدب وأنا لا أجد صعوبة في اصطياد الجميلات ، بل أن معظمهن كن هن اللاتي يسعين إلىَّ )
كانت لم تزل تقرأ . وعندما تحسستُ شعري فجأة ، أحسستُ بزيف سواده ، منذ متى وأنا أصبغه ؟……" تساءلت بيني وبين نفسي " : هل انكسر الزمن في داخلي ؟ هل ؟…..وهل ….؟
أحاول أن أبعد هذا الهاجس عن نفسي ، فأنا رغم الخمسين عاماً التي تركتها ورائي ، أعتقد ، بل متأكد ، أنني لم أزل قادراً 00 حتى لو فرت منى السكرتيرة السابقة في ليلة خائبة ، مجرد ليلة من آلاف الليالي خابت ، ومحاولة من آلاف المحاولات طاشت – هل هذا يعنى أنني ….لا …..لن أعلن انهزامي ، ولن أستسلم لهذا الهاجس الشيطاني 0
أحسستُ بيدها الرقيقة تهزني :
- أستاذ ؟…..أستاذ ؟…..هذا الخطاب ، اقرأه بنفسك ؟
نحيتُ الخطاب جانباً ، وأمسكتُ بيدها ،تحسست خديها ، ولضمتُ فمي في فمها ، أحاول 000 ، تسحب فمها 000، وقلبها يعلو ويهبط …وتشير ناحية الباب ، أمضي إلي الباب ، أتأكد من غَلقـه تماماً ، أنزع قميصي وأزيح الستارة التي تفصل السرير عن المكتب ، وأدعوها لتطارحني الغرام ، أحاول وأحاول ، ولكني أفشل . وبينما أنا أخبط بيدي عارضة السرير( كما يفعل البطل المأزوم في الأفلام العربية !! ) ، كانت ترتدي ملابسها ، والدموع في عينيها ، وتلقي على مسامعي ما ألقته السكرتيرة السابقة : أنا مستقيلة يا أستاذ .
** حاشية :
خطاب مهمل ، ملقى على المكتب ، غير ممهور بتوقيع ، وليس فيه ما يشفي الغلة ، مكون من سطر واحد فقط ، مرت عليه عينيّ فتجمدتا ، فقط أربع كلمات لا غير " صديقك سعيد صبري يحتضر" ، حوقلت ، وجلست على الكرسي ، وأسندت بمرفقيّ على المكتب ، وحشرتُ رأسي بين راحتيّ ، وأغمضتُ عينيّ ، تواردت على ذهني صور وحكايات ، شخوص كانت ساطعة تتوارى ، أشياء تخبو ، وأشياء تتوهج ، أشياء تذبل وأشياء تتفتح ، ومن رحم حكايات " سعيد صبري" القديمة كانت تتخلق ، تنمو شيئاً فشيئاً ، تشب عن الطوق ، خراط البنات يخرطها قبل ألاوان : جبهتها العريضة ، وصدرها العالي ، قوامها الممشوق ، وعودها السامق ، شعرها السارح خلفها ، باسمة الثغر ، ضاحكة السن ، دقيقة الأنف ، حلوة الملامح ، عذبة التقاطيع ، اسمها " سلوى " ، دعاها سعيد في المنام فجاءتني أنا 0
تحتل سلوى الآن الكادر بالكامل ، أُثبت الصورة عليها ، تتوارى كل النسوة اللائي عرفت ، أتأملها ، أزدرد ريقي وأنا أتذكر يوم أن طارحتني الغرام على الأرض . أشعر بدبيب الشباب يغزوني ، بدماءٍ عفية تتدفق في عروقي ، تضخ سلوى في شراييني دماء جديدة ، أنهض ، أرتدي قميصي على عَجل ، وأُعلق " الجاكيت " على كتفي ، وكشاب في العشرين ، أقفز درجات السلم قفزاً ، لم أنتظر المصعد ، أدير المفتاح في السيارة ، أنهب الطريق إلى قرية " سعيد صبري " نهباً ، وصورة " سلوى " المتخيلة . ولا يخامرني شك في أنها ستطابق الواقع – تخايلني ولا تفارقني .
( أكتفي بهذا القدر من الحاشية ، التي تتسع للمزيد من الفضفضة والبوح ، وهذا القدر يكفي تماماً للكشف عن الجوانب الجوانية للشخصية الإنسانية التي نحن بصددها ، ويكفى أيضاً لكي لا يدعى دعيٍّ علىّ ويتقول بما ليس فيّ ، فمن يدرى – ربما قارئ ترك اللحية ، وقص الشارب ، ولبس الجلباب القصير ، يقرأ ما كتبته ، فيحل دمى ، رغم أنني والله أكتب هذا النص – ونحن في أحد الأشهر الحرم )
** عودة مرة ثالثة إلى المتن :
طول عمري – وأنا أكره الخط المستقيم ، وكنت ومازلت – أفترض أنه خط وهمي لا وجود له في الواقع ، فالأصل هي الدوائر وأنصاف الدوائر ، والمنحنيات ، أعشق المنحني وخاصة في لحظات الصعود والهبوط ، أكره القطر وقضيب القطر ، فالقطر ينطلق من نقطة محددة ، ويسير في اتجاهٍ واحد ، ليصل بسلام إلى محطة الوصول ، في تقديري ليست الحياة هكذا – ورحلتي معها لا تعرف الطرق المستقيمة الممهدة ، ثمة طرق متعرجة ، وملتوية ، وحواري ، وأزقة ، ثمة طرق غير مطروقة ، أسعى للسير فيها ، يكفيني شرف المحاولة ولذة الاكتشاف .
** عودة إلى سلوى :
قالت سلوى : لماذا جئت ؟
قلت " وأنا أراوغ " : غلبني الشوق .
قالت "متهكمة " : الشوق لي أم لسعيد ؟
ألجمتني عبارتها ،وكأنها كانت تقرأ ما في داخلي ، رغم حِرصي علي إضماره .
( أُذكرك عزيزي القارئ ، بأن هذا أول لقاء لي معها في الواقع وأصدقك القول : أن الصورة المتخيلة لها عندي قد طابقت الصورة الواقعية تماماً ، ولا أملك إلا أن أقول – إن لله في خلقه شئوناً ، ويمكنك عزيزي القارئ إذا كنت في شك أن تطلع على ما دونه علماء النفس المعاصرون وتقترب من شطحات المتصوفة والعارفين ، و أفلح من قال : " قلوب العارفين لها عيون / ترى ما لا يراه الناظرون …..)
قالت : أعرف ما توسوس به نفسك ، وما يدور في خَلدك !
قلت " ضاحكاً " : ولى زمن المعجزات يا سلوى .
قالت : لكن الله يختار من عباده من يشاء ليكشف عنهم الحُجب .
ولم تمهلني لأتجاذب معها أطراف الحديث وراحت تقول فيما يشبه البوح : كان يحدثني عنك كثيراً ، كان يحبك رغم انفلاتك ، وكان يحرص على شراء الجريدة التي تكتب فيها ، ويترقب صدور مجموعاتك القصصية ورواياتك ، أحياناً كان يوازن بين شراءها وبين شراء أرغفة الخبز ، كان ينتصر لجريدتك وكتبك !
لم تعد كلمتك كما كانت ، أحسَّ بأنها فقدت اتصالها وتواصلها بروح الأمة وضمير الشعب ، لم تعد تحفز الهمم ، وتنهض بالعزائم ، لم تعد تحرض وتغير …كان يحزن لتغيرك ، والانسلاخ من جلدك ، امتنع عن شراء جريدتك وكتبك – لما انحزت علناً لطبقة الأثرياء والحُكام ، أصبح جُل همك أن تصوغ أحلامهم وأشواقهم لا أشواق وأحلام الناس البسطاء العاديين ، وقعت في غرام وهوى أهل السلطة وأهل المال ، وتحولت إلى بوق لهم ، تحمل رؤيتهم وأيدلوجيتهم ، وانصرفت عن الناس وقضاياهم ، سافر إليك ليصارحك ، زغت من مقابلته ، بعث إليك برسائل يبثك فيها مخاوفه ، كان مكانها سلة القمامة ، فعل كل ما يستطيعه من أجلك ، كان يرى فيك موهبة كبيرة تتبدد ، فيترقرق الدمع في مآقيه ، معذرة ، معذرة أيها الكاتب الكبير، كانت كل أمانيه أن يلتقي بك ، لا لتنقده مالاً لنسد الرمق أو لندفع أجرة الطبيب ، والصيدلي ، ونسدد دَيننا ، بعنا كل شيء : أساوري ، قطعة الأرض ، الراديو ، التلفاز، المتاع ، خاتم الخطوبة . و ها أنت ترى . لم نعد نملك غير هذا السرير الراقد عليه وهاتين الأريكتين . لا موقد للكيروسين ، لا حلل ولا أطباق ولا ملاعق . معذرة ، معذرة أيها الكاتب الكبير ، فليس لدينا سكر ولا دقيق و لا ملح ، وهذه أول مرة تزورنا ، وليس لدينا ما نقدمه لك ، لا تتعجب كيف نعيش ؟!
تنظر إلى زوجها الراقد على السرير ، صامتاً ، لا يتحرك ، وتخاطبه :
قلت له كل ما كنت تتمنى أن تقوله له ، حققت لك أمنية عزيزة لم تستطع أن تحققها ، كم كنت أتمنى أن أحقق لك أعز وأغلى أمانيك ، وتلتفت إلىَّ :
كان يحلم بولد ، تصور كان يريد أن يسميه عبد الله !!
لا أتمالك نفسي ، أنهض والدموع تنهمر من عيني ، أرتمي بجواره على السرير ، أغمره بالقبلات ، و أجدني أصرخ : سعيد لازم يعيش ، لازم يسافر بره النهار ده قبل بكره ، فرنسا ، إنجلترا ، أمريكا ، أتحسس جيبي ، " الموبايل " ، أين " الموبايل " ؟ يبدو أنى نسيته بالسيارة ، أهم بالخروج ، تمسك بذراعي .
- لا داعي أيها الكاتب الكبير ، فات الأوان ، سعيد يحتضر ولا جدوى مما تفعله الآن .
وتمد يدها أسفل الوسادة ، تسحب مصحفاً وتقول :
- سعيد يحتاج لمن يقرأ له القرآن .
وبينما أمد يدي لأتناول المصحف ، تسحب المصحف بسرعة و تقول :
" لا يمسه إلا المطهرون " وتطلب منى أن أذهب إلى " الطلمبة " بالدور الأرضي لأتوضأ وأتطهر ، نتحلق معاً حول سعيد على السرير ، نقرأ له القرآن .
** رؤى :
وفى تلك الليلة ، رأيت ، عزيزي القارئ العجب ، بل عجب العُجاب وإليك بعض هذى الرؤى ، ولك أن تتصور مكابداتي .
* الرؤية الأولى :
كان الليل قد أرخى سدائله ، وأظلمت الدنيا تماماً ، طويتُ المصحف ، فلم أعد أرى الآيات في المصحف ، وأنا لا أحفظ سور القرآن ، وربما تكون هذه المرة الأولى التي أتلو فيها القرآن ، لا أذكر أني قرأت القرآن منذ أن كنت في المدرسة ، فقط كنت أحفظ قصار السور التي ندرسها في منهج اللغة العربية والتربية الإسلامية .
كان صوتها وهى تقرأ القرآن ندياً وجميلاً ، ولما حانت منى التفاتة ، رأيت ، ويا للعجب ، هالة من النور ، تخرج من المصحف ، فتحت عينيّ عن آخرهما مأخوذاً ومشدوهاً ، خلعتُ النظارة وفركتُ عينيَّ ، كلما تقلب صفحة من صفحات المصحف ، تغطيها هالة من النور ، رغم بُعد المسافة بيني وبينها ، أرى الأسطر والكلمات ، واضحة جلية ، أقرأ معها على البُعد ، كلمات المصحف مكتوبة بحروفٍ من نور ، أقترب منها وأقترب وأنا مشدوهٌ ، لا أصدق ، أمد يدي لأتناول المصحف الذي تقرأ فيه ، وما كاد المصحف يقع بكاملة بين يديّ . حتى اختفت هالة النور . أبتئس ، تتناول المصحف منى ، تطويه ، تقبله ، وتضعه تحت الوسادة ، وتربت على كتفي .وتنهض .
الرؤية الثانية :
في جوفِ الليل ، تفترش الأرض ، تحت النخلة السامقة ، تهز جذعها، يتسَّاقط في حجرها ، بلحٌ ، ر طبٌ جنيٌّ ، ـ أزعق في داخلي : مريم تلك أم سلوى ؟!
تتناول البلح ، تمضي إلى سعيد الراقد في فراشه ، تزيل قشر البلح الرطب ، وتنزع النواة ، تدغدغه بأسنانها ، قطعاً صغيرة ، برفق تُنهض سعيد ، ترخي رأسه على كتفها الأيسر ، تُطعمه قطع البلح وهى تغني له أغنية أم لطفلها ، ألمح في الظلام بياض أسنانه وكأني به يبتسم ، تهدهده وهى تخرج له صدرها ، وتلقمه حلمة الثدي ، أغمض عينيَّ ، وأنا أحس باللبن يتسرسب لذيذاً وينغمر على جانبيّ فمه ، أجرى من الغرفة ، وأسند رأسي على الجدار الخارجي للغرفةِ وأبكي .
الرؤية الثالثة :
قبيل الفجر ، تنشق الأرض عن دجاجة ، ذات جناحين كبيرين وريش وفير ، ناصع البياض ، تقفز على الأريكة ، وتضع ثلاث بيضات ، وتختفي ، تتناولها سلوى وتقول :
- هذه لسعيد ، وهذه لي ، وتلك لك .
وتمد يدها لي بالبيضة الطازجة ، الساخنة ، أتوجس ، تبتسم :
إنها نصيبك ، لا تخف ، هي رزقك ، نحن لا نحتاج إلا لبيضتين فقط ، ولا تضع الدجاجة عادة غيرهما ، ولكنها هذه المرة وضعت ثلاثاً ، وما زاد عن حاجتنا ليس رزقنا .
هممتُ أن أتكلم . أشارت بيدها :
أنا فقط التي أتكلم ، أما أنت تري فقط ولا تتكلم ، أعرف ما يدور بخَلدك ، اصبر وإلا الفراق ؟!
أتناول البيضة ، وأضعها في جيبي ، وأفرط يدي إلى السماء وأنادي : ألهمني يا رب الصبر، ولا تجعلني عجولاً مثل موسى ، وأقول في داخلي : سأستطيع معك صبراً يا سلوى .
ولكن موسى لم يستطع صبراً على أكثر من ثلاث مشاهدات ، ضاق به الخضر وكان الفراق ، لا أريد الفراق يا سلوى .
** رؤيـــــــا :
أخذتني سنة من النوم ، أرى سعيداً يعود عفياً ، تبتسم سلوى ، تبلل دموع الفرح عينها ، تحضنه ، تقبله ، يتحسس شعرها ، خدها ، يأخذها في حضنه ، وطيور بيضاء وخضراء تحلق حولهما ، أصحو على صوت سعيد وهو يقول : إني أشم رائحة الجنة .
ويشير لسلوى : إنها على بُعد فرسخ واحد !
أرفس البطانية بقدميّ ،لا أدرى من ألقاها علىَّ ، إنها بطانية سعيد ، أهزُ رأسي ، أتلفتُ حواليَّ ، لا أثرَ لسعيد ولا لسلوى ، مُسرعاً أهبط الدرج ، لا أجد أمام الدار سوى سيارتي وحولها أولادٌ صغارٌ يعبثون بها ، ويتنططون عليها ، أسأل الأطفال :
- حـد منكم شاف سلوى ؟
** عودة أخــيرة إلى المتن :
ولأني أقسمتُ من البداية على أن أكون صادقاً معك فقد حدث الآتي :
أنني أخذت أسير بسيارتي في الشوارع ، والطرقات ، على غير هدي ، لا يخامرني شك أنى سأعثر على سلوى وسعيد ، ولما أعياني البحث والتطواف ، ذهبتُ إلى شقتي مكدوداً وحزيناً مكتئباً ، أصطدم بتلال الكتب ، سحبتُ " فيشة " التليفون ، وأغلقتُ " الموبايل " وتمددتُ على سريري ، وأغمضتُ عينيَّ ، أحاول أن أستعيد سلوى ، وما جرى في تلك الليلة ، نظرتُ إلى مؤلفاتي التي وضعتها في مكان بارز ولا فت بالمكتبة ، وإلى أكوام الجرائد التي تحمل مقالاتي ، وتتصدرها صورتي :
كانت عيناى على الكتب وصوت سلوى يرن في أذنيّ :
" أصبح جُل همك أن تعبر عن الوجهاء والأثرياء ، تعبرعن أهل السلطة ، تصوغ أحلامهم وأشـواقهم لا أشواق وأحلام الناس العاديين البسطاء "
أعتدل على السرير ، ورأسي بين ذراعيّ ، تكاد تتفجر وصوت سلوى يبعثرني ، يجعلني أتشظى ، أتناثر ، أتفتت .
" وقعت في غرام أهل السلطة والحُكم…وقفت تغني بين آيادي الملوك والأمراء والسلاطين…
انصرفت عن الناس وقضاياهم ، تحولت إلى بوق …"
أنهض ، بصعوبة أنهض ، أحاول أن أتماسك ، أتسند على الجدران ، أصل إلى مكتبتي ، أتناول كتبي ، وجرائدي ، أحزمها ، تتلبسني روح أبو حيان التوحيدي :
- هل أمضي بك أيتها الكتب إلى جبل ، وأحرقك كما فعل التوحيدي ، أم أمزقك وريقة ، وريقة ، وأذروك مع الرياح كما فعل أبو سفيان الثوري .
أشعل فيها النار ، أضحك ، وأنظر إلى كتب الأصدقاء من مصر وسوريا ، والعراق وفلسطين ، كتب من كل الأقطار العربية .
ألقي بها في النار ، وأصرخ : إلى الجحيم … ، إلى الجحيم .. ومع آخر كتاب أحرقه ، أشعر بدبيب الراحة تغزوني ، ولكني بدأت أشعر بالجوع والعطش ، أتحسس جيبي ، ما زالت البيضة التي أعطتني سلوى إياها ، ساخنة ، طازجة ، وكأن الدجاجة وضعتها تواً ، أقلِّبها بين يديّ ، أتأملها ، أزيل عنها القشرة ، يتصاعد منها بخار ساخن ، ألوكها في فمي ، أشعر بالشبع ، ولكني رحت أبحث عن صدر سلوى ، لتريحني عليه ، وتهدهدني ، وتلقمني حلمة الثدي ، وتسقيني من صدرها شربة لا أظمأ بعدها أبداً .