زمن الشمع
حاصرَتْـني الجهات الستّ هذا المساء، كشَّرتْ عن أنيابها كوحوش أسطوريّة، وأنشبَتْ مخالبها في حجارة منزلي، فانبجست منه اثنتا عشرة عينا، لا تصلح منها عينٌ واحدةٌ للشرب.فالدموع لم تكن يوما ماءً قراحًا، ولا تحوّلت الدماء إلى سلسبيل.
وطني ليس هذا المخيّم، فمنزلي إذًا ليس منزلي، حتى وإن كان يقيني لفْـحَ الهجير ولسع الزمهرير.
كلّ شيء صار مؤقّتا؛الأوطان والحريّة والسلام والعدالة والديمقراطية،كلّها مؤقتة. الدوام لله وحده وللحقّ السليب.
أخجَـل أن أذكر حدود منزلي من الجهات الستّ.
نعم ! الجهات الستّ وليس الأربع. السماء والأرض من ضمن الجهات أيضًا.
ليس صحيحا أنهما جهتان ثابتتان! فالأرض تختلف من شبر إلى شبر؛ وسماء (مونت كارلو) ليست كسماء (الخليل) أو (قانا الجليل) أو (بحر البقر).
لا داعي للخجل، فمنزلي مُحَـاط من الشمال بالمزبلة العموميّة، ومن الجنوب بالمراحيض العموميّة ومن الشرق بحنفيّة الماء العموميّة، ومن الغرب ببحر الأوهامِ ذلك المستنقعٍ الآسنٍ الذي تنتشر على ضفافه نباتات طفيليّة،لا حول لها ولا قوّة وتعشّش في أحشائها الديدان، وأصناف البعوض ؛ بعضها كالعلقة يعيش على دماء الأحياء، وبعضها كالفُسّاق الطائفين حول البيت العتيق ، ضجيج وعجيج ، ولا حجيج !
أعوذ بالله من كلّ الفصول ومن كلّ الجهات!
أطبقت عليّ الروائح الستّ هذا المساء ممزوجة بظلمة حالكة، فأزلجتُ باب غرفتي اليتيمة، وخنقتُ المسارب المحتملة لأي شعاع يحاول التسلل لتعكير خلوتي مع هذه التماثيل التي شكّلـتُها بيديّ.
أريد أن أرحل إلى داخلي.. أن أسافر عبر هذا الجِرم الصغير.
تحسّستُ جسدي وحمدتُ الله لأنني ما زلت جزءًا من هذا الوجود.
تخيّرت وسط الغرفة، لا إيمانا بخيريّة الأمور الوسطى ، بل تشبّها بالرهبان البوذيين.لا يرضى بأواسط الأمور إلا عديم الطموح،و لا يقبل بأنصاف الحلول إلا من لا حقّ له .
تربّعت، صافقا باطن كفي أمام جبهتي، وأسبلت جفوني،مطأطئا رأسي.
وجدت الظلمة الداخلية أخفّ ممّا يحيق بي من ظلمات. ورأيت خيط نور وردي فارتحلت معه إلى شعاب الذاكرة !
لا أرغب في اجترار الماضي القريب،فأنا أكره الزيف والتخاذل وأمقت الظلم والتنازل!
أحبّ الطفولة،هي البراءة البِكر، تظلّ المعين الأصفى والأغزر، هي عماد شخصية الإنسان وملهمة الأديب والفنان؛معها يطيب الارتحال .
قيل لنا يومها: رئيسكم هو ذاك الرجل.. رئيس من لا رئيس لهم.
لم نجد غضاضة في تمجيده، والغناء له على رؤوس الأشهاد، وفي حلقات الرقص الطفولية.
ولم يساورنا أدنى شكّ في أن صورته محفورة على وجه القمر.
إذا حلفنا يمينًا غير حانث قلنا : وحياة الرئيس. وإذا ادلهمّت حولنا الخطوب قلنا: لن ينقذنا منها الاّ هو .
كان مقداما قوي الشكيمة ، لا يخشى في الحقّ لومة لائم .
إذا جلجل صوته ارتَجَّ الغرب والشرق.و إذا صَمتَ حسب العالم لصمته ألف حساب .
يومها،صنعت لرئيسنا تمثالا ضخمًا طويلا من الثلج، وخلعت عليه بردتي السمراء، وقبعة عسكرية كانت جزءًا من بزّتي العسكرية الصغيرة.
فجأة.. سطعت شمس حارقة وأذابت تمثالي، فقررت أن أنحت لحبيبي تمثالا من الصّخر الأصمّ، لا تقوى عليه نوازل الدهر، ولا تقلّبات الطقس.
كان مخيّمنا مكبّلا بالشّوك والصخور ، وكان والدي حجّارا، يجتاز حقول الشوك يرويها بقطرات حمراء تنزّ من ساقيه، ليصل إلى منبت الصخر ، يقضي نهاره بين نارين : شمس لاهبة ، وحجر كالجمر يشوي يديه تحت ضربات الإزميل والمطرقة ليخرج الحجر بعد عناء طويل، أملس متساوي الأضلاع والزوايا، يبيعه والدي للبنّائِين بثمنٍ بخس دراهم معدودات، لا تسمن ولا تغني من جوع .
اختلست من والدي الصنعة، وإزميلا صغيرا ومطرقة، وغامرتُ في الخروج من بوابة المخيم، لا ألوي على شيء، ولا أكترث للشتائم ولا لركلات أبناء العمومة!
جلستُ جلستي التأمّـلية هذه أمام صخرة صغيرة،اخترتها هشّة لتطاوع عدتي الصغيرة، وقوّتي الواهنة. ورحت أُعمِل الأزميل في جسد الصخرة حتى استحالت تمثالا، قدّرت أنّه يشبه رئيسنا.
وقعت في مشكلة عويصة! كيف سأفصل التمثال عن جذوره الضّاربة في أغوار الأرض؟
تركُهُ في العراء أمرٌ غير وارد !
قبـَّـلته قبل أن أقف وقلت له : سأعود لنقلك إلى داري.
ماذا حدث بعد ذلك؟ ..ماذا حدث؟ أسعفيني أيّـتها الذاكرة!
أجفلت لرؤية والدي، كان يرقبني من خلف إحدى الصخور.. تأمل التمثال وأطلق صفرة مدوّية: هو..هو.. الخالق الناطق هو.. حقا أنت ابن أبيك!
وعالج الصخرة بمهارته، فإذا التمثال يتربّع من منزلنا سدّة الطاولة، إلى جانب الراديو، فصار الجيران يتهافتون لسماع خطب الزّعيم في بيتنا، شاخصين بأبصارهم إلى التمثال الصخري 0
ما زال الظلام دامسًاهذه الليلة .. لن أفتح عينيّ وإلا فقدت شريط الذكريات.
أين خيط النّور الوردي، يقودني إلى تلك المرأة الحنون؟ شَعرٌ فاحم، وثغرٌ باسم، تروح تشرح للجارات دلالات خُطَب الزعيم، وتداعياتها المرتقبة ، ثم تتمايل أمامهنّ في خفّة واعتزاز مفتخرة بتمثال صخري نحتته أنامل ابنها الغضّة.
كان في إعجابهن بعض الإطراء وكثير من التملّق والمبالغة في تقريب أوجُه الشّبه بين التمثال والزعيم.
مخاتِلة هذه الذاكرة.. تُسجِّـل الأحداث بالتتابع لحظة فلحظة؛ ولكنها عند الاسترجاع تخلط الحابل بالنابل ، وتخبط في الزمان والمكان خبط عشواء!
ها هي أمّي تصحبني إلى السوق ، لشراء حذاء من الكتّان الأبيض، هو أول حذاء تنتعله قدماي حتى ذلك التاريخ.. والمناسبة جليلة وتاريخية.. لن يكرّرها الزمان.. سنجتاز الحدود لسماع خطاب الزّعيم!
سيقول كلامًا خطيرا ، مُشافهًا ملايين المنتظرين المتلهّفين لرؤيته، سيعلن أمرًا طال انتظاره من الماء إلى الماء!
لم أَنم تلك الليلة ثانية واحدة! شَغَلتْني الرحلة المرتقبة بكل دقائقها، بدءًا من الحافلة التي كنت سأمتطيها للمرة الأولى، وانتهاء بالطريقة المثلى لتقديم التمثال إلى الزعيم.. ولعل رائحة الحذاء الجديد الذي كنت أتوسّده، ساهمت في طرد شبح النوم عن عيني أيضا!
لماذا أنشج الآن .. بعد ثمانية وأربعين عاما!
أجل ... هكذا ذرفتُ دموعًا حرّى آنذاك، لا لأن الرّحلة أُلغيت فقط، بل لأن السبب المعلن للإلغاء: خطورة سكّان المخيّمات على حياة الزعيم!
لم أصفع التمثال يومها- لا يصفع الحبيب حبيبه- لكنني رمقتُه بأسى ،ومرارة ما زال طعمها يمرّغ حلقي.
كبرتُ.. وكبر المذياع والمذيع واستطالت نشرة الأخبار.ولم أعد أسمع خبرا واحدا عن رئيسنا.
تطاحن حولنا الرؤساء. تقلّصتْ أوطانٌ وتبدّلتْ خرائط.. والنشرات الإخبارية تنفَـلِش شعارات وشعائر.
عدلتُ عن قراري بصنع تمثال أضخم للزعيم ،وتحوّلتُ إلى تشكيل تماثيل الشمع!
الشمع يناسب هذه المرحلة!
صنعتُ عشرات التماثيل .. بعضها ساخر تهكّمي.. وبعضها تهكّمي ساخر!
نصبتها في أرجاء غرفتي الوحيدة، بعد أن كسَدتْ تجارتهاولم يُقبل على شرائها أحد ؛هاهي حولي الآن،يطمسها الظلام ويلفّها سكون قاتل و تجثم جثثًا بلا حراك..
كنتُ أصنعها كيفما أشاء! أضع الرأس مكان الذيل،والثدي مكان الشارب المعقوف!
أُجلس هذا المسؤول على عرش شمعيّ، وأُجلس ذاك على خازوق خشبيّ!
عود ثقاب واحد.. وتسيل التماثيل حولي.. تصبح أثرا بعد عين!
عود ثقاب واحد أَحرقَ روما من قبل! وعود مُشابهٌ سيحرق مُدن الشمع!
" أصحابَ التماثيل الشمعيّة التي تحتلّ غرفتي وأعصابي:-
بما أنّني أخرجْتُكم من العدم إلى دائرة الوجود الشمعي، فأنا أُصدِر إليكم أمرًا بتوجيه خُطَبكم الرنّانة إلى شعوبكم الخَلوقة والمطيعة، كي تهبّوا هبّة رجل واحد، لإنقاذ امرأة تصيح في أرض كنعان: واشرفاه!
وإلا- وأُقسم بقوميّـتي ومعتقدي- فتحتُ جفوني الآن. وقطعتُ جلسة التأمّل هذه.. وأشعلت عود الثقاب في وجوهكم . سأطمس معالمها وأجعلها شوهاء!
لا يهمني هذا الهدير، يهزّ الأرض تحتي، ولا يعنيني ارتجافكم اللحظة كمرضى (الزهايمر).. لا تخافوا.. إنه اختراق بسيط ومألوف لجدار الصوت!
قد يُقصف المخيّم اللحظة.. أو في أية لحظة.. وأغلب الظن أنهم لن يقصفوا محتَرفًا لصنع التماثيل.. هم على يقين بأن الروائح ستخنقه من جهاته الستّ عاجلا أو آجلا !"
أين خيط النّور الورديّ.. أين اختفى..؟
لاوتسي.. لاوتسي ..!
ما الذي استحضرك أمامي الآن؟
أقوالُك ترنّ في رأسي:"خيرما في المسكن الأساس".
منزلي بلا أساس: لبِنات مصفوفة ، و ألواح مسقوفة 0
سأُكمل جلستي التأملية هذه، تحت الأنقاض، إذا قُصفت المدينة المجاورة لمخيّمنا0
قل لي: كيف متّ يا جدّ الحكماء؟
هل قُصفتَ بالأباتشي أم بالمدفعية البعيدة المدى؟
لا تبتسم ببلاهة دبلوماسيّة صفراء اصفرار وجهك! سؤالي واضح ومحدّد!
لا تأخذني في رحلة فلسفيّة بحثا عن جواب غامض ومعقّد حول مفهوم الموت والحياة !
وهل تتوقع أن يموت إنسانٌ ما في القرن الحادي والعشرين ميتةً طبيعية؟
(يعني بالمشبرح موت ربّو).
أجبني.. على الأقل لأنّني أُقلّدك الآن في جلستي التأمليّة هذه!
أجبني قبل أن ..
الاهتزاز يشتد تحتي، يا (لاوتسي)-مع حفظ الألقاب- أَسمعُ وقع انفجارات بعيدة... أجبني قبل أن..
الانفجارات تصمّ أذنيّ.. والتماثيل حولي تتأرجح.. أجبني قبل أن أفتح جفنيّ
لا أريد أن افتقدك.. أجبني قبل أن .. أجبني قبـ.. .. .. ..
-(لا يعلم إلا الله كيف حُشرتْ أشلاءُ النحّات في قالب من الشمع…
هذا ولم يعثر رجال الإنقاذ بين حطام المنزل، إلا على تمثال صخريّ يُشبه شخصا ما.)