النقد الأدبي ومقاييسه
خلال عهد الرسول صلى الله عليه وسلم
وعصر الخلافة الراشدة
للدكتور محمد عارف محمود حسن
المدرس في كلية اللغة العربية - جامعة الأزهر
لا يستطيع أحد أن ينكر ما أحدثه الإسلام من ثورة شاملة في جميع نواحي الحياة وجوانبها: الدينية، والسياسية، والعقلية، والاجتماعية، والأخلاقية...
وكانت الناحية العقلية - أو الفكرية - من الجوانب التي أثر فيها الإسلام تأثيرا بالغا، وهذا يعني أن اللغة العربية التي عبر بها الإسلام عن مبادئه ومعتقداته قد تأثرت تأثرا شديدا بهذا الدين الجديد، تأثرت به أسلوبا وموضوعا، أو لفظا ومعنى، وينسحب هذا التأثر على جميع الفنون والعلوم العربية، سواء أكانت شعرا، أم نثرا، أو لغة، أو نقدا...
ويعنينا في هذا المقام أن نعرف الآثار التي أحدثها الإسلام في النقد الأدبي، وإلى أي مدى كان تأثر النقد به؟ وما الأسس والمقاييس التي سار عليها النقد في عصر صدر الإسلام؟.
الرسول صلى الله عليه وسلم والنقد الأدبي:
الرسول صلى الله عليه وسلم هو صاحب هذا الدين الجديد، وحامل لواء الدعوة إليه، ولذا فمن المهم أن نتعرف على موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من الشعر، وعلى موقفه من النقد الأدبي، ودوره فيه، وأن نستعرض جوانب من نقداته صلى الله عليه وسلم، لنتعرف من خلالها على الأسس والأصول التي كان بمقتضاها ينقد الرسول صلى الله عليه وسلم الشعر ويحكم عليه.
على الرغم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل الشعر ولم يعلمه الله إياه، إلا أنه لم يكن يتحرج منه ويتألم بالقدر الذي يظنه كثير من الناس، بل كان يعجب له ويطرب له إعجاب وطرب العربي صاحب الذوق السليم؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم عربي، وقد وهبه الله من صفاء الذهن، وسلامة الذوق، والقدرة على تمييز الحسن من القبيح من الكلام - ما فاق العرب جميعا، وهو ذوو بصر بصناعة الكلام، فيعجب الرسول صلى الله عليه وسلم بشعر النابغة الجعدي، ويقول له: "لا يفضُض الله فاك"، وبلغ من استحسانه لقصيدة (بانت سعاد) أن صفح عن كعب وأعطاه بردته، واستمع إلى الخنساء واستزادها مما تقول، وتأثر تأثرا رقيقا لشعر قُتيلة بنت النضر..1.
بل إن الأمر ليتعدى حد الإعجاب إلى الدعوة إليه؛ إذ دعا الرسول صلى الله عليه وسلم شعراء المسلمين إلى الدعوة إلى الإسلام، وإلى هجاء المشركين الذين وقفوا في وجه الدعوة الإسلامية، فالشعر ما زال سلاحا ماضيا من الأسلحة العربية التي لا يستغني عنها صاحب دعوة.
إننا نعلم من التاريخ الإسلامي أن معركة كلامية دارت بين المسلمين والمشركين بجانب المعركة الحربية، وأن شعراء المسلمين كانوا يقفون في صف واحد أمام شعراء المشركين، كي يردوا عليهم افتراءاتهم وأباطيلهم التي كانوا يرمون بها الإسلام والمسلمين، لا سيما وأن الدعوة الإسلامية كانت بحاجة إلى من يدافع عنها ويرد عنها أعداها؛ لذلك لا نعجب إذ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعراء المسلمين من أمثال حسان بن ثابت2، وكعب بن مالك3، وعبد الله بن رواحة4 - إلى الدفاع عن الإسلام، وإلى الدعوة إليه، والإشادة بذكره وبمبادئه، وهجاء الكفر والكفار، ولا عجب - لكل هذا - إذ رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحسن الشعر، ويستنشده أصحابه ويمدح به، ويثيب عليه، بل ينقده ويصلح منه.
أما دعوته صلى الله عليه وسلم شعراء المسلمين إلى الدعوة إلى الإسلام، وهجاء المشركين فيدل عليها ما روي أنه: لما كان عام الأحزاب، وردّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من يحمي أعراض المسلمين؟" فقال كعب بن مالك: أنا يا رسول الله! وقال عبد الله بن رواحة: أنا يا رسول الله! وقال حسان: أنا يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: "نعم اهجهم أنا (يعني حسانا) فإنه سيعينك روح القدس".
وروي أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت عبد الله بن رواحة، فقال وأحسن وأمرت كعب بن مالك فقال وأحسن، وأمرت حسن بن ثابت فشفى واشتفى"5.
وأما نقد الرسول الكريم للشعر، وإصلاحه منه، فسوف نورد الأمثلة والشواهد ما يدل عليه، ولكن قبل أن نورد هذه الأمثلة وتلك الشواهد ينبغي أن نقرر الأساس الذي قام عليه نقد الرسول للشعر، ليسهل بعد ذلك تطبيق هذا الأساس على ما سنورده من الأمثلة.
المقاييس النقدية عند الرسول صلى الله عليه وسلم:
ينبغي أن نلاحظ أن الرسول الكريم قد جاء بدين قويم يدعو إلى الفضائل، وينهى عن الرذائل، ويدعو - قبل ذلك وبعده - إلى عبادة إله واحد لا شريك له، وإذا لاحظنا ذلك علمنا أن المقاييس النقدية التي كان على أساسها يحكم الرسول على الشعر ويبني نقده وتوجيهه له - هي المقاييس والأسس الإسلامية التي جاء بها القرآن الكريم، من التسامح والتواضع والعدل والإحسان والخلق الحسن، وهي الأسس والمقاييس العربية التي أقرها الإسلام، كالكلام والشجاعة والنجدة وحفظ الجوار، وهذه الأسس هي أسس تتصل بالمعاني التي يجب يدور حولها الشعر، وإذا كان الرسول الكريم قد اتخذ من المعاني الإسلامية والتوجيهات الخلقية لهذا الدين مقياسا وأساسا ينقد الشعر على أساسه، ويصلح منه - فإنه صلى الله عليه وسلم قد اتخذ من القرآن الكريم - أيضا - أسلوبا ولفظا ونظما أساسا له ومنهاجا؛ لما امتاز به من سماحة في القول، وسلامة في التعبير، وطبعية في الأسلوب، وبعد عن التكلف والغلو.
ولا نعجب إذ رأينا شعراء المسلمين يتمثلون القرآن الكريم في شعرهم - على اختلاف فنونه وأغراضه - يتمثلونه معنى وموضوعا، وأسلوبا ونظما، فيبنون فخرهم ومدحهم وهجاءهم.. على أسس من المبادئ الإسلامية، والقيم الأخلاقية الرفيعة التي استحدثها الدين الإسلامي، في هذا المجتمع الجديد، وعلى دعامة من الفضائل العربية التي أقرها الإسلام، كما كانوا يتخذون من بلاغة القرآن وسحر بيانه أساسا لنظمهم ودعامة لبيانهم...
ولعلنا نلاحظ - من خلال ما تقدم - أن هناك أساسين أو مقياسين كان على أساسهما يحكم الرسول على الشعر وينقده، هذان الأساسان أو المقياسان هما: المقياس الديني الإسلامي، والمقياس البياني.
- المقياس الديني الإسلامي:
حينما نستعرض نقدات الرسول الكريم التي وجهها إلى الشعر والشعراء، نلاحظ أن الجوانب الدينية والمعاني الإسلامية كانت المحور الأساسي، لنقد الرسول الكريم، ولعلنا نستطيع أن نرى هذا المقياس بوضوح في النقدات الآتية:
روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "أصدق كلمةٍ قالها شاعر قول لبيد6: ألا كل ما خلا باطل".
ونلاحظ من هذا الحكم الذي حكم به الرسول صلى الله عليه وسلم على قولة لبيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد رأى فيها ما يتسق مع الروح الإسلامية، ويترجم عن وحي الإسلام.
وحينما ينشده النابغة الجَعدي7 قصيدته التي مطلعها:
خليلَيّ عُوجا ساعة وتهجَّرا ولُوما على ما أحدَث الدهر أو ذرا8
يُعجب الرسول هذا الشعر، وحينما يبلغ قوله:
بلَغْنا السماءَ مجدُنا وجدودُنا وإنا لنرجو فوقَ ذلك مَظهرا
يظهر الغضب في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول للنابغة: "إلى أين أبا ليلى؟" فقال: إلى الجنة، فيقول الرسول - وقد اطمأن إلى أنه حين عبّر بمجد جدوده المتطاول قد انتهى إلى التطلع في ظل الإسلام إلى ما هو أعظم -: "نعم إن شاء الله".
ويمضي النابغة قائلا:
ولا خير في حِلمٍ إذا لم تكن له بوادرُ تحمي صَفوَه أن يُكدَّرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له حليمٌ إذا ما أورد الأمر أصدرا
فيزداد ارتياح الرسول الكريم إلى ما يسمع من وحي الروح الدينية، ومن التوجيه الخلقي الرشيد، ويقول له: "لا يَفضُض الله فاك"9.
ويطرب الرسول لشعر كعب بن زهير حين يمدحه بقصيدته التي مطلعها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول
وحين يبلغ كعب قوله:
إن الرسول لنور يستضاء به مهند من سيوف الهند مسلول
يصلح له الرسول قوله هذا ويجعله:
................................ مهند من سيوف الله مسلول
ونلمح من خلال هذا النقد النبوي ما انطوى عليه من تعديل وجّه كعبا إليه، حيث الرأي الصائب والقول السديد، وهو أن سيوف الله هي التي لا تفل، ولا تنبو ظباتها، ولا تحيد عن مواطن الحق، أما غيرها من السيوف فهي تفل وتنبو وتتلثم، وهذا معنى إسلامي جميل.
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما على كعب بن مالك، وهو ينشد، فلما رآه كعب بدا كأنه انقبض، فقال الرسول: "ما كنتم فيه؟" قال: كنت أنشد، فقال له: "أنشد"، فأنشد حتى أتى على قوله:
مَجالِدنا عن جِذْمِنا10 كل فخمة
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "أيصح أن تقول:
مَجالِدنا عن ديننا كل فخمة؟
قال: نعم، فقال له: "فهو أحسن".
وواضح من هذا التوجيه الذي أسداه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى كعب أن الجلاد والقتال إنما ينبغي أن يكون عن الدين، لا عن الأصل والنسب.