إلى يمامة
أَيَّتُها المُحَلِّقَةُ عَبْرَ الحُجُبِ ، تَأْتينَنا وَقَدْ غَمَرَتْكِ الرِّحْلَةُ ، تَنْفضينَ عَنْ جَناحَيْكِ مِنَ المَنْثورِ مَنْثورًا . حينَ أسْتَمِعُ إِلَيْكِ يَأْتيني الصَّوْتُ مِنْ عُمْقِ الصَّمْتِ الَّذي تَدْخُلينَهُ كُلَّما أَرَدْتِ البًوْحَ ـ وعالَمُ الصَّمْتِ أًرْحَبُ الْعَوالِمِ ـ حينَ تَأْتينا الْكَائِناتُ فيما فَوْقَ قانونِ الْمَادِيَّةِ ، حينَ تَنْعَدِمُ جاذِبِيَّةُ الكَوْنِ لِتَكونَ جَاذِبِيَّةُ الأَرْواحِ هِيَ الْقانونُ اْلفاعِلُ ، ألا تَذْكُرينَ حينَ دَخَلْتِ عالَمَ الصمْتِ تُعانِقينَ أمًا عَنِ الْمَوُجودِ إِلى الْوُجودِ قد رَحَلَتْ ، تَأْتيكِ في مَساءاتِ الزَّيْزَفونِ ؟ وَما الزَّيْزَفونُ إِلا ظِلُّها ، حينَ أَوْرَقَ قُلوبًهُ الْخَضْراءَ يُوَشْوِشُ شَذاهُ الكَوْنَ مِنْ خَطِّكِ حينَ يَجْري بِالْمِدادِ المُسْتَمَدِّ مِنْ روحِكِ الشَّفيفَةِ الَّتي وَسِعَتْ الْكَوْنَ يَسْكُنُها ، لِتُعانِقَ الأَقْمارَ مُنْبِتَةً تَحْتَ كُلِّ قَمَرٍِ بَساتينَ الْفُلِّ والْياسَمينَ ، وَتَسْكُبينَ الْبَحْرَ في النِّسْيانِ لِتَعودَ مَوْجَاتُهُ وَقَدْ حَمَلَتْ إِلَيْكِ الذِّكْرَياتِ عَلى مَراكِبِ الشَّمْسِ وَقَدْ جابَتْ فَضاءاتِ روحِكِ المُحَلِّقَةِ في الْجَمالِ فَتَحْتَضِني أَغْصانَ أَرْواحِنا تَسْتَبْرِئينَ عَلَيْها مِنْ عَناءاتِ الرِّحْلَةِ ، وَهَلْ لِلأَرْواحِ مُسْتَراحٌ غَيْرَ أَرْواحٍ تُجانِسُها؟!
قَرَأْتُكِ كِتابَ الْكَوْنِ ، حينَ تَتَأَمَّلينَ كائِناتِكِ البَيْضاءَ ، تُحَلِّقينَ وَتُحَلِّقينَ حينَ تَعْتَكِفينَ في مِحْرابِ الْجَمالِ تَتَعَمَّدينَ في يَنابيعِ النَّقاءِ حينَ تَسْتَجيرينَ بِهِ مِنْ لَهيبِ الْمادِيَّةِ ، وَأَنْتِ كَمْ مَقَتِّ كُلًّ ما يَصْرِفُ الإِنْسانَ عَنْ ذاتِهِ ، تِلْكَ الذَّاتُ الَّتي تُحَلِّقينَ فيها تَرَيْنَ مِنْ حِضْنِِ السَّماءِ عَناءاتِ الأَرْضِ وقَدْ زُلْزِلَتْ بِها فابْتَلَعَتْ مِنَ الْجَمالِ جَمالَهُ ، تَأْتينَ باعِثَةً الْجَمالَ كُلَّما حَوَّمْتِ في فَضاءاتِ ذَواتِنا تَبُثينَ تَرانيمَكِ عازِفَةً عَلى النَّايِ تَشْدينَ مَوّالَ الصَّبْرِ لِمَنْ لَيْسَ مِنْ طَبْعِهِ الصَّبْرُ ؛ فَيَحِنُّ مِنْهُ الْقَلْبُ وَيَجْري السِّحْرُ في الشُّرْيانِ يُهَدْهِدُ الزَُّهَيْراتِ تَنْظُرُمِنْ خِلالِكِ إِلى الأُفُقِ وَقَدْ تَبَسَّمَتْ شِفاهُ الشَّمْسِ مُنْبَعِثَةً مِنْ بَعْدِ الرَّحيلِ ، تَنْفِضُ عَنْها آثارَ نَوْمِها لِيَسْريَ الدِّفْءُ في أَوْصالِ الْحَياةِ فَتَهْرَعَ إِلى مَحْبوبِكِ الإِنْسانِ ، أَنْ يا إِنْسانُ سَبِّحْ اللهَ في الْجَمالِ .
أَتُراكِ اسْتَعْذَبْتِ تَشْويقَنا إِلَيْكِ ، أَمْ راقَ َلكِ الاحْتِجابُ ، تَبُثِّينَ إِلَيْنا رَسائِلَ وُدِّكِ عَبْرَ حُدودِ الصَّمْتِ الْعازِفِ فينا أَلْحانَكِ الآتِيَةَ مِنْ كَوْنِكِ الَّذي لا نُدْرِكُ مِنْهُ إِلا هالاتِهِ الطّاهِرةَ بِطُهْرِكِ ، َنَتَرَقْرَقُ كَحصَيَّاتٍ اسْتَعْذَبَتْ حُنُوَّ خَريرِكِ حينَ تَنْسابُ صَفَحاتُكِ في وجْدانِنا كُلَّما تَدارَسْنا السِّحْرَ المُنْسابَ مِنْ يَراعٍ احْتَضَنَتْهُ أًنامِلٌ طَهَّرَها بَذْلُ الْحَرْفِ النّابِضِ مَخْلوقًا مِنْ تَحَرُّرِهِ .
رَأَيْتُكِ عَروسَ النَّثْرِ... في تَرْحالِ الرّافِعِيَّ في عَوالِمِ الْحُبِّ وَالْجَمالِ ، وَفي كُلِّياتِ جُبْرانَ وَأوْجاعِ آهاتِهِ حينَ رَكَبَ مَرْكَبَهْ باحِثًًا عَنِ الإِنْسانِ ، إلاّ أَنَّ الْمُقامَ لَمْ يَرُقْ لَكِ فَآثَرْتِ تَأْسيسَ مَمْلَكَةِ الْبَوْحِ بَيْنَ مَمْلَكَتَيْهِما عَروسًا زُفَّتْ إِلى الْبَيانِ فَأْمْهَرَها قَلائِدَ الْقَوْلِ مَسْبوكَةً بِالأَلَقِ تَأْسِرُ أَلْبابَنا مُكَبَّلَةً الْقُلوبَ بِخُيوطِها الْمَغْزولَةِ مِنْ ضَوْءِ الْقَمَرِ فَلا تَرْجو الْقُلوبُ انْعِتاقًا مِنْ أَسْرِها الَّذي يُحَرَّرُها مِنْ ضيقِ عالَمِها إِلى رَحابَةِ عالَمِ الْحِقيقَةِ ، وَقَدْ زَعَموا أَنَّهُ عالَمُ الْخَيالِ وَالتَّخْييلِ ، هَذا الْعالَمُ الَّذي تَعْرِفينَ كَيْفَ تَدْخُلين إِلَيْهِ ، مُمَهِّدَةً دُروبَهُ وَمَسالِكَهُ ، فاتِحَةً أَمامَنا بَوّاباتِ الْوُجودِ الرَّحْبِ الَّذي تُؤَسِّسينَهُ كُلَّ يَوْمٍ في مِنْطَقَةٍ بَيْنَ السَّمْعِ وَالرُّؤْيَةِ حَيْثُ يُعانِقُ الْقَلْبُ عَقْلاً فَيُمْسِكا بِالْمِجْدافِ إِلى قارِبٍ يَحْمِلُهُما عَلى صَفَحاتِ الصُّبْحِ ، وَقَدْ وَدَّعَ اللَّيْلُ عَتْمَتَهُ ، وَتَنَفَّسَ الإصْباحُ عَنْ أَمَلٍ بِنَقاءِ روحِكِ .
أَيا أَسْماءُ ، يا سَيِّدَةَ الْحُزْنِ ، وَالْحُزْنُ أَصْدَقُ ما في الإنْسانِ مِنْ شِيَمٍ ، أَيَّتُها الرّوحُ الَّتي حَلَّقَتْ حَوْلَنا، الآتِيةُ مِنْ مِنْطَقَةِ النّورِ ، والنَّوْرِ في قُلوبِ مَنْ أَحَبّوكِ ، كُلُّنا شَوْقٌ .
مأمون المغازي
11 / 3 / 2007