سلام الـلـه عليكم
ملامح القراءة في "إطلالة أولى على عالم الشاعر: سمير العمري "
للأديب الكبير والناقد الراقي الاستاذ الدكتور مصطفى عراقي
بقلم د. محمد حسن السمان
عندما أقرأ للأديب الكبير والناقد الراقي الاستاذ الدكتور مصطفى عراقي , أشعرني أهيم
في عالم من السحر الحلال , لا ادري كيف يصل الى هذه اللمحات الخارقة , في تذوق اللفظ ,
ويغوص متأملا في حركيته الموسيقية , وكأنه يعالج لحنا موسيقيا , يتعمق في شاراته
وطبقات الصوت والتناغم فيه , يفعل ذلك بشكل مذهل , حتى جعلني بشكل فطري , اتبع معه
النغمات والايحاءات والمدلولات , لأجد نفسي , في عالم ثرّ من المتعة وتذوق الابداع ,
تفوق فيه على مدارس النقاد , حينما يخرج من اطار الشكل , في علوم البديع , ليحس
البلاغة والبعد النفسي ويستشرف الصورة بابعادها اللفظية والموسيقية والنفسية والفكرية ,
قلّما يجاريه في ذلك قارئ أو ناقد , وكأنه جواهري يقدّر قيمة النقاء والصفاء , والوزن
والقيمة , ومستويات القطع وتناغم المستويات , والبريق المتولد عن حركة الضوء في
التشكيل الهندسي , وأشعر برغبة بين الدهشة والاعجاب , لأسوق هنا بعضا مما حلّق به
الأديب الكبير الناقد الراقي :
وأما فيما يتعلق بملمح الجمع بين التشكيل والتوظيف ، فأحب أن اعرض له من خلال مشهد
مثير هو مشهد الطوفان ، من قصيدة : "فلك نوح":
حيث جاء الرمز هنا مصورا موفقا في قلب القصيدة حيث جاء مناسبا للبداية الشبيهة بالطوفان،
وتمهيدا لرجاء الشاعر بالانتصارعلى الظلم وكأنه استحضار ضمني لقوله تعالى :
"فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (سورة القمر: 10)
فنهض الرمز (عبارةً وإشارةً أو تصريحا وتلميحا) بوظيفته في تشكيل القصيدة وبنائها بناءً
جماليا ودلاليا ، ولم يجئ مجرد حلية جمالية !
فجاء المشهد ثريا عن طريق تعدد طبقات الصوت : بين الشدة كما في
"صَفِّقِي يا روحُ
ثُوري
وازأرِي كالليثِ فِي الغاباتِ "
فهو هنا صوت رهيب صارخ كما تدل ظلال الفعل :"صفقي" ودلالة الفعل "ازأري" بما يوحي
بالرهبة والجلال
ثم ينحو منحى الجمال حيث نسمعه
"كالأطيارِ
تشدُو الحبَّ في دوحٍ صدوحْ"
وكما تعددت طبقات الصوت في رسم المشهد حيا متدفقا، يأتي دور الحركة متراوحة كذلك بين
التحليق الخارجي في الأفق مع الأفلاك والأطياف
والتحليق في الذات مع مشاعر العز والإيمان
كما أثرى المشهد هذه المفارقة بين ضجيج ليل الواقع وارتقاب إشراق شمس الأمل
ولم يكتف شاعرنا بتصوير المشهد بل جعلنا نطالع من خلاله رموزا فرعية تتصارع بينها
صراعا فنيا مثيرا
أعاصير و ريح - طوفان آخر داخل قلب الشاعر - خيل جموح في مهجته .
مما جلى المشهد أمامنا حيا مثيرا.
هذا من حيث التصوير
أما من حيث التعبير
فقد وقفت بإعجاب ودهشة عند "القلب النحوي البلاغي" هنا:
قدْ ملَّتِ النفسَ الْجروحْ
حيث جعل الشاعر "الجروح" فاعلا ، و"النفس" مفعولا ، فصارت الجروح هي التي تمل
النفس والأصل أن النفس هي التي تمل، ولكن الشاعر رسم لنا صورة نحوية إبداعية مبتكرة
عن طريق تبادل الوظائف النحوية بمهارة للدلالة على المبالغة الشعورية.
وهذا قريب من التشبيه المقلوب الذي أشرت إليه في قول الشاعر:
|
البَدْرُ يَعْرِفُ فِيكِ رِقَّةَ فَجْرِهِ |
وَالفَجْرُ مِنْكِ الطُّهُرَ فِي الأَبْكَارِ |
|
|
"
ويشدنا الناقد ببراعة وتشويق , نحو تذوق مفهوم البناء التوازني , مستشهدا بنماذج ناجحة ,
في شعر الشاعر الكبير الدكتور سمير العمري , حيث تتضافر الصور مختلفة الانتماء
الاحساسي والحسي , لتستكمل مشهدا ما , او التعبير عن حالة شعرية ما :
"
|
وَبِأَنَّ عَيْنَيكِ ابْتِسَامَةُ خَاطِرِي |
وَحَدِيثَهُنَّ مَوَاسِمُ الأَزْهَـارِ |
|
|
بالجمع بين الابتسامة والحديث لأن بهما كليهما تكتمل الصورة الإيجابية بخلاف ما لو اكتفى
بأحدهما دون الآخر.، ومن الجميل أنه لم يضف الحديث إليها بل إلى روحها وعينيها مستخدما
نون النسوة فكأنها صارت شخوصا حية في القصيدة
فأما على مستوى التشكيل فنلمسه في هذه الأبيات التي تتضافر فيها عناصر الطبيعة مع سمات المحبوبة لرسم صورة شعرية مشهدية ، حيث يتم تبادل الدوار بينها فيما يسمى في البلاغة
العربية بالتشبيه المقلوب تحقيق عنصر الإدهاش في ذهن المتلقي:
|
البَدْرُ يَعْرِفُ فِيـكِ رِقَّـةَ فَجْـرِهِ |
وَالفَجْرُ مِنْكِ الطُّهُرَ فِي الأَبْكَـارِ |
وَالدَّهْرُ لا عَينٌ تَغـضُّ وَلا فَـمٌ |
يَحْكِي وَلا أُذُنٌ لِغَيـرِ السَّـارِي |
وَقَفَ الوُجُودُ عَلَيكِ وَالْتَزَمَ الهَوَى |
يَرْنُـو إِلَيـكِ بِنَظْـرَةِ اسْتِعْبَـارِ |
يَرْنُو إِلَيكِ فَأَنْتِ كُـلُّ مَسَالِكِـي |
وَمَدَائِنِـي وَمَرَافِئِـي وَبِحَـارِي |
|
|
فالبدر هو الذي يعرف فيها رقة فجره ، ولا تقف الصورة هنا بل تنمو تصاعديا فإذا بنا نتأمل
هذا الفجر في الأطهار، بل إن الدهر بل الوجود كله يشارك في هذا المشهد المثير وقد أضحينا
نطالعها وقد أضحت فيه كل المسالك والمدائن والمرافئ والبحار يضيفها الشاعر إلى ذاته .
نجد أنفسنا في هذه القراءة , أمام درس شيّق في الدراسة الفنية والتذوق الجمالي , يعلمنا
ليس كيف نفتح اعيننا على مواطن الجمال في العمل , بل أن نعمل كل حواسنا , لتحسس
الابعاد الفنية والأدبية والجمالية , بل ويقود المشهد نحو تكريس النقد الايجابي , حيثما تلوح
ملامح ابداعية .