في حُلَّةٍ قشيبةٍ راقية صدرَ عن دائرة الثقافة والإعلام - حكومة الشارقة رواية أديبتنا القديرة الدكتورة علا حسان :
لميس
العالم يصب في ذاتي
ضمن سلسلة روائعها الحاصلة على جائزة الشارقة لللإبداع العربي
في 576 صفحة مشحونة بروعة القص ، وشاعرية السرد ، وتدفق الرؤى.
صورة غلاف الرواية :
الدكتورة علا حسان ، وروايتها الرائعة :
***
وإليكم هذه المناجاة الوجدانية المشوِّقة التي حلقت بالأحداث الإنسانية في عالمٍ روائي فريدٍ مفعم بالرؤية، والتأمل، والشجن، ترنيمةً للعشق ، وغوصًا في العمق ، وإبْحارا في رحلة المصير :
" كفاكِ بكاءً . . ألم تسأمكِ المآقي مثلما يسأمكِ كل شيء!
انكسر الوجود في ناظريها ..فشق أذنيها صوت تكسره الزجاجي الحاد، وتحطمت كل أحلامها .. تحيا في مجتمع لا يصدق إبداع المرأة .. مجتمع ذكرى لا يعترف بقدراتها وباستقلاليتها .. "ريشتي تشهد أنى رسمت جميع لوحاتي بها، "البلتة " التي مزجت فوقها ألواني .. الليالي التي سهرتها ، الوجوه التي نقشتها أناملي، كلها تشهد أنه إبداعي ، وصنع يدي .. الظلم قاهر كالموت ، والغبن بركان يزحف نحو الزهور والأجساد والبيوت والشهيق الحالم ، والزفرات المطمئنة ، والضحكات المترعة بكؤوس البقاء ، والسرائر المفروشة بأوشحة حريرية فيحيلها جمرات داخل موجاته الثقيلة ، ويجعلها زادا لطغيانه المهيمن "..
تقف أمام لوحاتها ، تتأملها في حسرة .. جميعها لبنات من قلبها وعقلها وروحها .. وكأنها أجنة نبعت من رحمها .. إنه لا يجيد إخراج دفقة المشاعر كما تخرجها ، ريشته عاجزة عن حمل النبض البشري ، يجيد المقاييس فقط ، بينما تجيد هي رسم الإحساس ، بخطوط سريالية مبحرة في مكونات الطبيعة ورموزها وأشكالها.
ها هم يحرمونها ما تملكه، يحرمونها من انتماء أعمالها إليها، وميلادها بين يديها، يضنون عليها بالإبداع والفكر، يظنونها بلهاء، عاجزة. تبكي في حرقة .. حتى متى تذرفين دموع الهوان يا " لميس " ؟ حتى متى يغتالون براءتك وإقبالك على الحياة ؟.. تُمسك بإحدى لوحاتها ... عساها تنطق فتخبرهم أنها شيء من نفسها ولحمة ذاتها .. نتاجها البكر .. الذي تعهدته بالرعاية والرواء حتى نما واكتمل .
تركع باكية ، متألمة وقد علا نشيجها حتى شق أستار الليل المسدلة من حولها .. مازالت اللوحة في يدها تقاسمها الألم ، الى ان توارت داخل غيمة بكاء مظلمة ، فاستحالت أشباحا هائمة ، وخيالات راقصة .
كفاكِ بكاءً . . ألم تسأمكِ المآقي مثلما يسأمكِ كل شيء .. عقلك وتاريخك والجدران وغلافك الناقم؟..العالم يغني وأنت تبكين .. الأحياء يرقصون وأنت تنشجين؟ انهم يكرهون البكاء .. ينفرون من نظرات الألم .. حذار أن تبدي شيئا من أوجاعك .. إنما يسعدهم من ينسيهم حسراتهم فلا تذكريهم بها .. وإلا تنبذك الأزهار والأغصان وتعرض عنك الأسنان الضاحكة .. ويفزعك مردتهم الذين ينكلون بأمثالك من مثيري السأم .
تجلس بجانب صخرة تنطوي ضخامتها على دهور ضوئية ، ربما كانت من قبل في حضن جبل شامخ الأوتاد .. راسخ الجذور .. متصل بالجوف المنصهر وبالسحاب الأملس .. اختبر البرد والزمهرير وشام البرق وتوعد الرعد .. ربما كانت تشكو سوء الحال فهبط بها تيار السيول الجارفة الى بطن واد ترعاه قردة وخنازير .. فكانت موطئا لنعالها المسمومة .. ومراحا لأظفارها الملوثة ..
بعد قرون مخادعة .. جرفتها رياح الهبوب نحو شاطئ ذلك البحر المبتسم ، توارت خجلا من خدودها المنشوبة ، وتعرجاتها البينة ولكنه راح يمسح عنها آلامها .. يطمئنها أن مياهه المالحة قادرة على ضماد تشققاتها .. وعند كل فجر كانت تلطمها أمواجه في قسوة فتلحم جروحها الغائرة وتزيل قشورها البارزة .. حتى استوت في نعومة ليستند عليها الباكون في مختلف العصور.. ويتناجى عندها العاشقون .. أما هي فتجلس اليوم بمفردها تندب وحدتها وحظها العاثر .. تنظر نحو البحر فتجده مهيبا واثقا متفائلا رغم الظلمة المحدقة به ..
" بهاء " يضيق بكآبتها وحزنها ، وعزلتها عن العالم . تنثر نبرة صوته القوية رذاذ الفن والإبداع .. كلماته تثير سخريتها فتحدث نفسها هازئة: " عن أي فن تتحدث.. تساقطت أحلامي معك حلما وراء حلم ، مشيت خلف سراب ، ولم أظفر منه بقطرة ماء تنقع غلة ظمئي ، انها تجارة ومن يدفع الثمن يحظى بالمجد ، قائمة خسائري أطول من حبال نفسي المعقودة"..
تختلس النظر اليه في مرارة قائلةً لنفسها " فتر ينبوع حبه الخادع ، لم يقدم لأجلك شيئا ذا قيمة ، ووهم المجد الذي حلقت به في السماء كان خرافة كبرى. فلا تعودي أسيرة وهم ماض خادع . الآن أكرهك من صميم قلبي ، أكره قبحك ، وطولك المفرط ، وكتفيك المحنيين ، ولؤمك وكذبك وحقدك الخفي".
متجهمة ، حادة ، حزينة.. ينفر منها أولئك الذين يقيمون عقدا لا تنفصم عراه مع البهجة والنشوة... توقن أنها لو طلبت منه إعلان زواجهما رسمياً اليوم فلن يقبل ، تبتلع غصتها صامتة.
يتسلل إليها شعور النقمة على حالها .. ويمتد شعورها ليشمل أولئك المعذبين في فلسطين المحتلة.. فلا تدري نقمتها معهم أم من أجلهم .. هي مثلهم تتجرع نخب المرارة وسم الموت .. من أجل ذاتها المهزومة .. كارهة لسكون الكون وهمسه ، ضائقة بالموجودات ، مهمومة بضياعها ووحدتها وذهاب ريحها .. ومجدها الغـارب .. حين كان يمشي في ركاب حسنها المعجبون والعاشقون !
" لميس " يا زهرة الندى البرية .. حطي شراعيك فوق أرض ثابتة ..العقي سقطها وبردها.. حدقي بمنظار الشجن نحو طيور مرفرفة .. فارغة الهم .. تحيا طواعية دون كرب او تمرد ، طفئت شعلة قلبك المنصهرة في أتون الديمومة الآفلة.. ".
وأصدق دعواتنا لأديبتنا البارعة بمزيدٍ من التألق، والتفوق .
ولواحتنا الظليلة بمزيدٍ من الروعة، والازدهار.
***