لقمة عيش وزوادة
مأمون أحمد مصطفي
- 2 -
- يا أم إبراهيم، الله لا يحرمني منك، الأشياء الطيبة والمميزة اتركيها للأطفال، هم أحق مني بها، بالنسبة لي أنا مستعد لان آكل أي شيء، خبزة ناشفة مع كوب شاي، نعمة وفضل من رب العالمين، ومن يرضى بما قسم له يرضى الله عنه. والأطفال أولى مني بكثير، هؤلاء هم عصافير الجنة، أحباب الله، وما يأكلونه هم استمرئه أنا، والله لو طلبوا قلبي وحبة عيني لأعطيتهم ما طلبوا، هؤلاء وجزء من روحي.
- وأنت تتعب، تجهد، ويجب أن تتغذى جيدا، ولزاما أن تأكل أحسن وأجود الطعام، والاهم، انك تاج رأسنا، حامينا، أبونا، ومثلما تنزع اللقمة من فمك لتضعها في فم أطفالك، يجب أن انزع اللقمة من فمي لأضعها في فمك، وزوادتك ليست من حصة الأطفال، بل من حصتي، منذ أسبوع وأنا اجمع فيها لك، واليوم شعرت أنها كافية، ولا يهمك، فالذي تأكله أنت مكسب لي وللأولاد، تلذذ أنت اليوم بهذا وما عليك أن تحمل هم الأطفال، الأطفال اليوم سيأكلون وجبة أخرى يحبونها كثيرا، وعندما تعود، سآكل أنا وأنت ما تبقى خلفهم. ولكن أمانة عليك أن لا تفتح الزوادة إلا وقت فرصة الإفطار في العمل.
- لا تخافي، والله لن افتحها إلا وقت الفرصة في العمل.
ونهض أبو إبراهيم من مكانه، انتصب حاملا زوادته، ولكن زوجته تناولتها من يده وتبعته نحو الباب الخارجي كعادتها في كل صباح، وعند الباب ناولته الزوادة وهي تدعو \" الله يسهل أمرك يا رب \"، \" الله يكفيك شر اليهود \"، \" الله يعمي قلوبهم وعيونهم عنك \". أما أبو إبراهيم فقد التفت نحوها كعادته وقال:\" ديري بالك على الأولاد، هؤلاء روحي\" وتدحرجت دمعتان قاسيتان، ولمع بريق غريب في عينيه، فانقبض قلب زوجته مرة واحدة ليتحول كل فرحها وسعادتها إلى مجهول قاس قساوة الدمعتان اللتان تدحرجتا من عيني زوجها. تابعته بنظراتها كعادتها، لكنها اليوم وبسبب الدمعتين والبريق، أحست بأنها تود اللحاق به لتعيده إلى البيت، وبين هذه الرغبة والدهشة والذهول كان أبو إبراهيم قد التف ليدخل الزقاق الاخر المؤدي للشارع الرئيسي والذي تصطف فيه السيارات التي تقل العمال إلى حاجز الطيبة العسكري.
دخلت أم إبراهيم المنزل وقد تبدلت حالتها تماما، أصبحت لا تعرف ماذا ستفعل، أو ماذا يجب عليها أن تفعل. توجهت مباشرة نحو الأطفال وبدأت بذهول غير معهود تدقق في ملامحهم واحدا تلو الاخر، هذا فيه جبهة أبيه، وذلك انفه، أما الاخر فان الذقن والمحاجر هي نفس ذقن ومحاجر والده، وتلك الطفلة فيها خفة روحه ودمه، وتلك فيها نسمات أنفاسه وتكوير رأسه، جميعهم يحملون ملامحه وتقاسيمه، جزء من أنفاسه الحبيبة إلى قلبي، وجزء من روحه المحلقة، جزء من بسمته، وجزء من ضحكته المدوية. كلهم أبو إبراهيم، حبيب قلبي، شريك عمري، أب أطفالي، رفيق دربي، مؤنس وحدتي، هؤلاء وأبيهم محور حياتي ووجودي، ينبوع روحي وبقائي، بهم ولهم احيا وافنى. لماذا تدحرجت دمعتا اليوم من مقلتيه؟ لماذا بدت مؤق عينيه على غير عادتها؟ وما هذا البريق الغريب الذي لمع مرة واحدة وعلى غير عادة من عينيه؟ هذا البريق، تلك الدمعتان، لم ارهما طوال حياتي معه إلا اليوم. أبو إبراهيم لا يمكن أن يتخلف عن صلاة الجماعة في المسجد، اليوم تخلف، ما السبب؟ ولماذا لم أوقظه أنا أبكر حتى لا تفوته صلاة الجماعة، لماذا تركته نائما على غير عادتي حتى فاتته الصلاة في المسجد، لماذا واليوم بالتحديد، قال انه يراني شجرة زيتون، ويرى شجرة الزيتون أنا، الأمر غريب، غريب جدا، \" يا رب سترك ورضاك، يا رب أبو إبراهيم أمانة عندك، يا رب أعده سالما لنا \".
وصل أبو إبراهيم إلى السيارة، ألقى التحية على سائقها وهو يهم بالركوب على الكرسي المحاذي للسائق، لكن السائق بادره بالقول:
- أبو إبراهيم، اليهود مشددين اليوم على الحاجز، الطريق صعبة وغير آمنة، اغلب العمال عادوا والذي استطاع النفاذ نفذ في الصباح الباكر جدا.
- جميع المنافذ مغلقة، معقول، طريق فرعون، طريق السكة، خربة جبارة، طريق الواد، معقول انه لا يوجد أي منفذ نستطيع المرور منه.
- كلها مغلقة، مطوقة تماما، والعمال الذين عادوا قالوا انه لا يمكن للنملة أن تمر من هناك، اليهود منتشرون بكثافة، مسعورون، يطلقون الرصاص على كل شيء، حتى السيارات التي كانت متجهة نحو الحاجز لم تسلم من نيرانهم.
- يا ساتر، يا حفيظ، وماذا سنفعل نحن؟ الزوادة جاهزة، والأطفال نائمون، والرزقة مهمة. الأولاد يأكلون الحجارة. كل يوم حاجز، كل يوم إغلاق، كل يوم إطلاق نار. ما الذي نستطيع فعله نحن؟ الحال صعب، صعب جدا، وأخرتها مع هذا العمر الذي كله شقاء في شقاء، هذا زمننا، الله يعلم كيف سيكون زمن أطفالنا؟!
- إنشاء الله سيكون زمنهم أفضل من زمننا.
- الله كريم.
- طيب وطريق باقة الشرقية، مدخل نزلة عيسى مفتوح أم هو الاخر مغلق؟
- مدخل نزلة عيسى مغلق، لكن مدخل باقة الشرقية من الجهة التي توصلها مع الشارع الرئيسي لباقة الغربية وزيتا مفتوح، لكن يجب أن تقطع البيارة حتى تصل للشارع الرئيسي.
- توكلنا على الله.
تحركت السيارة من وسط المخيم نحو المدخل المؤدي لقرية شويكة، وعند مدرسة الصناعة الفاصلة بين ارض المخيم وارض المدينة كانت السيارات تشكل صفا طويلا بانتظار التفتيش من قبل اليهود، وبسرعة كانت جملة السائق واضحة ومحددة: \" نحن مسافرون باتجاه عتيل، انتم تحفظون الدرس جيدا، لأنكم إذا قلتم نحن متجهون نحو باقة الشرقية فلن يسمحوا لنا بالمرور\".
- حافظين الدرس عن غيب، مثل درس المحفوظات، لا والله مثل اسمنا وزيادة. يا رب، العمر كله عذاب في عذاب، قصف في الليل، اجتياح وراء اجتياح، رعب من القذائف والصواريخ الساقطة من الفضاء، من الطائرات، ورعب من قذائف الدبابات، جثث، دمار، حتى رغيف الخبز، لقمة العيش التي تطلبها أفواه الأطفال، أصبحت جزءا من تركيبة المستحيل. وعلينا أن نواجه المستحيل باجزائه، جزءا خلف الاخر، علينا أن نفتت الصخر لنستل منه لقمة العيش لأفواه الأطفال، يا رب إننا لا نسألك رد القضاء ولكنا نسألك اللطف فيه.