طيف
جلس أمامي ، في ركـن لـم يكـن- لساعـات مضت – يضم إلاي وهواجسي الطافية في ذاكرتي المرهقة بتفاصيل تجارب خائبة .
نعم ... تجارب حمقاء لامرأة أشد حمقا في عالم يعج بالأذكياء ، وها هوذا ، طيف جميل ، يغوص في وثير " الفوتيه ".
يشير إلى النادلة .. تأتيه في دلال... إنه يستحق كل هذا الغنج ... قفز قلبي إليهما ؛ يتلمس أغوار النظرة المعجبة من النادلة الحسناء لوجهه ... كم وسيم وجهك يحيى .. ياالله ... لو قدر لي أن أعرفك في أوج شبابك ؟!! ... بالتأكيد لم تفرق عن هذا الوجه شيئا سوى لحيتك الكثة ، وفلجة أسنانك المثيرة .
إنه أنت بلا شك ... نسخة بالكربون من " يحيى عبد الفتاح " في عنفوان الثلاثينات ... حتى بدء بياض الفودين ، طريقة تصفيف الشعر، الحركة العفوية لأصابعك المتخللة خصيلات الحرير المرفوعة فوق جبينك في تأنق شديد ... " الأنسيال " الفضي حول معصمك الأيسر المتلألئ بين شتلات العشب المنمقة على ساعدك .
الجو مازال يحمل وسوسات البرد القادمة في غفلة المتوجسين .... وأنت أنت .... مفتخر دائما بعودك الرياضي ، عضلاتك المفتولة ، صدرك المملوء رجولة وعنفوانا تشرعه في وجه الصقيع مشمرا عن سواعدك الفتية في شمم .
مازال إباؤك يأسرني ... تملأني ثقتك بنفسك إحساسا بالضعف أمام نفسي ... ليتني أملك جزءا يسيرا من هذي الثقة .
دائما ما كنت تدفعني للحياة بجرأة ، تطالبني بالتعبير عن الذات بصدق أمام حياتنا الكاذبة ، ولما لم تستطع معي صبرا تركتني أواجه ما بقي من العمر وحيدة .... آه يا يحيى ! .... كم مرة هذه الوحدة .... غائلة موحشة ... تجرفك إلى غاباتها ، وتسلط عليك وحوشها تفترسك نفسا نفسا ، ولا تترك لك من الخيار سوى اجترار الأحلام ، وذكريات العمر الذي مضى .
كلما نظرت إليك وأنت تحتسي كأس ليمونك في خيلاء ، تذكرت أيامنا الخوالي وأنت تهمس لي : أحبك ....
- أصمت ....
- تبسط ذراعيك القويتين تضمني ....
- أرتجف رهبة .. وأصد عنك ..
- تقول : ألا تحبينني ؟! ...
- .... ... يرتعد جسدي خجلا ... لكن قلبي يصرخ : بلى ... بلى أحبك ... أحبك بكل ما في من قوة ورغبة ، وشوق إلى دفئك .
تطل في نافذتي روحي .. تقول : عيناك رائعتان ، تنبئاني بعمق حبك ... انطقيها إذن ... قوليها همسا .. جهرا .... أحب أن تتلمسها أذناي كما تلمستها روحي ... تجرئي مرة ... قولي أحبك مثلما تحبني وأكثر ... قولي أرغبك كما أنت ... بعنفوان مشاعرك .... حرري هذا الصوت من سجن خجلك ... دعيه يحمل لي أحلى لحن أود سماعه ... انطلقي مغردة بما تحمل نفسك من رغبات صادقة في وجه زيف العالم المحيط بنا .... أرجوك .... ساعديني كي أحيا في روحك أنشودة دافئة ... وهجا يذيب صقيع الخوف والهزيمة المعشش في وجدانك .
- ....... مازال الخوف يكبل صوتي وروحي ... لا فكاك .
منذ تركتني ، أجتر ذكرياتي الجميلة البائسة اليائسة من حلم التحقق ، لكنك عدت الآن ... في تلك اللحظة التي كنت أتمنى فيها أن أبكي على صدرك .
عدت يا يحيى لتحيا روحي من جديد ... ضمني إليك .... خبئني في صدرك ... دع جسدي المشتاق إلى وخز أعشابك يطفئ غلته المرهونة بفيض حنانك ، دثر شفتي بقبلاتك الوثيرة ، لتبحر دفئا في برد جوانحي فتشعلني رغبة ... تتوقد أشواقي الملتاعة كي ترتمي عند قدميك باكية أيامنا الخوالي التي ضيعتها حمقا وبلادة .
تصرخ الروح : أحبك .... تومضها عيناي برقا : أحبك .... تطلقها شفتاي زغرودة فرح بعودتك ... أحبك .... ألف ألف أحبك .........
تجمدني نظرة الدهشة في عينيك ، صوت لم آلفه قبلا يوقظني على حمق نفسي من جديد : - - عفوا سيدتي ... هل قلت شيئا ؟!!
ألملم نفسي المبعثرة أمامك ... أنسحب في تخاذل إلى قوقعة الروح ... أغوص أغوص في مقعدي متوارية من تلك النظرة القاتلة في عينيك ...
تلفني برمقة إشفاق كبير وحسرة أكبر .... تقف ممشوقا في إباء ، تضع " بلوفرك " الأسود فوق كتفك اليمنى ... تمر طيفا من أمامي كما جئت .... لكن نظرتك المشفقة المتوجسة ... مازالت تكفنني من بعيــــــــد .