بسم الله الرحمن الرحيم
انستاسيا ..وردة الهزيع الأخير ..رواية
عبدالغني خلف الله الربيع -الخرطوم
الحلقة الأولي
أويس .... نعم؟! إسمك مرة أخري يا ولد ..إسمي أويس مرغني الفاضل .. واضح .. هيا أجلس . .بعده .. كان ذلك أول سؤال أتلقاه وأنا أخطو أولي خطواتي بالمدرسة الابتدائية .. جاري في الفصل همس في أذني بلطف لا يشبه السن التي نحن بها قائلاً .. منو السماك كده .؟. أبوي طبعاً .. وده اسم شنو ؟ .. في الواقع لم أكن أعرف الإجابة .. وعند عودتي لمنزلنا لم يكن والدي قد حضر من العمل .. فهو ضابط إداري .. فتوجهت بالسؤال لوالدتي .. ماما .. ماما.. ما معني أويس؟! أويس .. إنتظر لما بابا يرجع ..انتظرت عودة والدي بفارغ الصبر وعندما هممت بسؤاله كلفني بحزمة من المهام .. ( دخّل الرغيف.. .. تلقي الجرايد في المقعد الخلفي وأمشي نادي أستاذ عبدو عشان اتغدي معانا) وكان ثمة ضباطاً آخرين في معيته ..وهكذا ضاعت عليّ فرصة التعرف علي كنه اسمي وبت مستعداً لسخرية زملائي .. ولكن ظل الفضول مسيطراً عليّ إلي أن حانت اللحظة المناسبة .. إذ دخل علينا أستاذ اللغة العربية فتوجهت إليه بالسؤال دون تردد .. أستاذ .. أستاذ .. ممكن أسألك سؤال ؟ .. طبعاً يا ابني تفضل .. أويس معناها شنو؟ .. أغلب الظن أن المقصود هو أويس القرني وله قصة معروفه فقد أوصي الرسول صلوات الله وسلامه عليه أصحابه بأن يطلبوا من أويس هذا أن يدعو الله لهم كلما لقوه .. لأن دعوته مستجابة وهو من عباد الله الشاكرين علي الابتلاء مثل سيدنا أيوب عليه السلام .. فهمتوا المعني يا أولاد ؟ .. فهمنا .. ومن ثمّ واصل الحصة ومذ ذاك الحين وأنا أمشي مشية الخيلاء بين التلاميذ وتناقل الجميع قصة اسمي وتنازل لي الألفة طواعية عن موقعه وانهالت علي الهدايا من زملائي بالفصل .
أويس..؟ .how do you spell it كيف تتهجاه ؟ أنستاسيا .. وقد راق لها الاسم .. هل يمكن أن أكتبه (oh ..Yes? ) .. بالطبع ولم لا ..( سباسيبا ) .. لا شكر علي واجب .. ومرة أخري وجدتني وأنا أشرح لها معني الاسم .. كانت منفعلة بما تسمع .. وتوقفت كثيراً عند مدلول الشكر علي الابتلاء .. لا بد إنه كان إنساناً رائعاً .. وفي زمننا هذا يصعب العثور علي شخص كهذا .. تأمل معي الزملاء في ال( أونفيرستيت دورشبي ) .. بجامعة الصداقة والذين حضروا إلي موسكو من جميع بلدان العالم الثالث .. ولكنهم وبدلاً من التفرغ للدراسة تجدهم يتبادلون خبراتهم في صنع الألغام والمتفجرات ويحملون بين جوانحهم حقداً هائلاً علي مجتمعاتهم التي حضروا منها لا سيما الأنظمة الحاكمة في بلدانهم .. إنهم ثوريون وأنتِ تعلمين ذلك وبلدكم تمنحهم فرصة الحضور إلي هنا ليصبحوا شيوعيين ثوريين .. شيوعيون نعم أما ثوريون فلا .. وما الفرق يا أنستاسيا ؟ الفرق كبير .. نحن لم نطلب منهم إراقة الدماء .. فقط أردنا منهم التبشير بقيم ومبادئ ثورة (البروتاريا) ونشر الفكر الاشتراكي لا أكثر ؟
أنستاسيا ..أنستاسيا .. مهرة آسيوية من الزمن الجميل تمتلئ حيوية وسحراً ..تركض من غرفتها حتى الكافتيريا وتركض من الكافتيريا حتى قاعة المحاضرات وتركض من قاعة المحاضرات حتى نزل الطالبات ..فهي في حالة ركض مستمر ..أحياناً تركض في الميادين الفسيحة بالجامعة في زمهرير الشتاء لا تأبه بالرياح العاصفة والمطر ..لم تركضين هكذا يا قمري ودوائي في هذه البلاد الثلجية المذاق ؟.. أنستاسيا كفاك ركضاً فأنا أريدك في أمر هام .. قله لي وأنت تركض بجانبي ..أريد أن أعترف لك بأنني .. بأنني .. تكلم فأنا مصغية لك .. ( يالوبلو تيبيا) .. ماذا قلت ؟ الرياح قوية وأنا لا أسمعك جيداً ..لا بأس عندما تكملين هذا الشوط انضمي لي بالكافتيريا ..لأقول لك ..أحبك يا ( أنّا ) ..بكل لغات الدنيا ..فقط أحبك وليتك تفهمين ؟
***
شتاء موسكو القاسي يمزق أوصاليّ ..فأنا لم أتمكن من دفع فاتورة التدفئة فقطعوا عني الغاز ..إن المصاريف لا تأتي من السودان بانتظام والكمبيوتر المتنفذ لا يفهم أن الناس في دول العالم الثالث يعانون من البيروقراطية لدرجة الجنون .. ولم تنجح الألحفة الكثيفة في كبح جماح الرياح العاتية التي تولول في الخارج ..وهاهو الكون يطرح جانباً ستر الظلام ويتهيأ لاستقبال يوم جديد ..
ارتديت ملابسي علي عجل وتوجهت نحو أقرب مقهىً لتناول قدحاً من الشاي إذ لم يكن بمقدوري صنعه بنفسي .. فكل شيء ب(الشقة) معطل .. كنت علي موعد مع أنستاسيا لأحدثها عن تأريخ المنطقة العربية وتاريخ السودان علي وجه الخصوص وقد لاحظت اهتمامها بالتاريخ ..ولم أدرِ وأنا أقطع المسافة من علي الرصيف الخالي من المارة .. أن أكثر من مفاجأة تنتظرني داخل المقهى .. لم أكترث لها في بادئ الأمر وأنا أخلع عني الجاكتة السوداء ذات الأزرار المدببه وأسلمها للنادل .. كانت تجلس في أقصى ركن بالمقهى وأمامها قدح من القهوة وهي تدخن .. سيدة في مقتبل العمر ذات ملامح لاتينية والأرجح أنها من البرازيل أو ربما كولومبيا .. كانت ساهمة ومهمومة لا تشعر بما يدور حولها تنفث الدخان من سيجارتها فينداح دوائر غامضة ترسم أنماطاً من الصور المبهمة ..وبدا وكأنها تتابع بنظراتها كل نفثة منذ أن تغادر فمها الرقيق وحتى مصافحتها لزجاج النافذة المبلل .. جلست بالقرب منها وأنا أرتجف من شدة البرد .. قلت لها صباح الخير ..ردت بإيماءة مترددة وأشاحت بوجهها عني لتراقب عبر الحاجز الزجاجي مجموعة من الصبية يتزحلقون علي الجليد بأحذيتهم ذات العجلات .. الناس هنا يتأقلمون مع كل الأجواء في سهولة ويسر أليس كذلك ؟! .. همست بهذه الملاحظة وأنا أوجه السؤال مباشرة نحو عينيها ..عينان زرقاوان فيهما عوالم من السحر غريبة .. وزاد الموقف غموضاً صوت المغني الذي ينداح عبر جهاز التسجيل ( إنني أبحر إلي وطني مرة أخري ..إنني أبحر ..) وصوت (رود ستيوارت) المفعم بالشجن يحاصرنا ..( لن أبكي أبداً بعد اليوم .. لن أبكي أبداً ) .. هي إذن لحظة مشاركة وجدانية لهموم الغربة بعيداً عن الوطن ..فعادت هي مباشرة إلي( بوقوتا ) وعدت أنا إلي (وادمدني ) وذكريات طفولتي هناك وإلي (رزان ) .. ولماذا رزان بالذات؟! ..كنا جيراناً ووالدها يعمل معلماً بالمدرسة الوسطي .. ولمّا كانت المدرسة التي تدرس بها في جوار مدرستي فقد طُلِب مني أن أقوم بتوصيلها كل يوم وإعادتها بعد نهاية اليوم الدراسي .. كانت لطيفه ولديها مقدرة فائقة علي سرد القصص المسلية عن والدها وأمها وإخوتها الصغار .. بيد أننا افترقنا بعد حين وتفرقت بنا السبل .. نقل والدها في بادئ الأمر ونقل والدي بعد فترة قصيرة من مغادرتهم .. بكت وهي تودعني وكنا وقتها قد صرنا في الصف الخامس .