الطــــالبة
سقف الغرفة أبيض ... الجدران بيضاء ... الأسرة والملاءات ... ملابس الطاقم الطبي وأفرولاتهم ... القطن الطبي ناصع البياض ... أربطة الشاش المعقَّمة ... قناني الديتول المخفف بالماء ورائحته النفاذة ... بياض في كي شيئ .. بياض ناصع وغامر كبياض الورقة.. محايد كالفراغ !!! حتى إنَّ وجوه الطاقم الطبي بدت وسط هذا البياض كحبات الكمون الأسود على قطعة الجبن البيضاء!! .. بدوا له وهو يرقبهم من خلف الزجاج الملمَّع في حركتهم المتوترة تلك كأصابع اليد الواحدة القلقة!!! ، أحدهم يجري عملية تنفس اصطناعي لفتاة بحركة تحاكي ركض جواد يتدرب بمساعدة سائس خيل مقتدر !! ، آخرون يضعون لها قناعاً للأوكسجين لمساعدتها على التنفس. أضاء أحدهم مصباحاً بضوء أبيض في عينيها وأطفأه عدة مرات ثم أمسك بمرفق الفتاة ورفعه عالياً ثم حرره فسقط كما تسقط قطعة الخشب ودون أي مقاومة للسقوط!! وبصوت لم يسمعه أستاذ جلال الموظف الأربعيني بوزارة الزراعة لأن الزجاج ينفذ الصورة ويمنع الصوت .. فكأنه أصم يشاهد الأشياء ولا يسمعها !! وحين كرر كبير الأطباء رفع مرفق الفتاة وحرره، تكرر نفس المشهد مرة أخرى ...
قال: إذاً فالفتاة ميتة !! وأغمي عليه..
سمع أصوات طرقات وصفعات متسارعة أفاق على صوتها ... كانت على خديه .. ورأى بقعاً من الضوء بقاع عينيه تتحرك في فضاء أسود لا نهائي ومن تحتها جاءت عينا د. حسام بصوته الوقور الرزين يقول له: حمداً لله على سلامتكما..
إذاً فقد نجا...
استعاد نفسه من الغياب ... كان يقود سيارته صباحاً - ليست فارهة ولا جديدة! - حين استوقفته جمهرة من الناس الذين سدوا عليه الطريق فتوقف .. ظن الأمر حادث حركة أو ربما لص سرق شيئاً فقبضوا عليه . لكن إذ بشخصان يحملان فتاة فاقدة للوعي – هكذا تبدو – يفتحان باب العربة ويلقيان بها في المقعد الأمامي وإذا بثالث يأمره: المستشفى ... بسرعة ... بسرعة ....
ثم ضاع كل شيئ كشخص أفاق من حلم !!!
حين استدارت العربة ودخلت مقدمتها الشارع الجانبي التالي بدأ يستوعب بعض ما حدث!
الفتاة ترقد وبلا حراك بالمقعد الأمامي جواره .. تساءل هل هي ميتة ؟!! .. صدمتها عربة مسرعة وفرت ؟! أم هي مسمومة !! أم تراها مخنوقة؟! أم مقتولة؟! وهل ترى يصدِّقه أحد إن هو حكى حقيقة ما حدث؟! .. ماذا لو اتضح أنها مقتولة!! سيقبض عليه كمتهم أول لحين ورود تقرير الطبيب الشرعي مبيناً أسباب الوفاة . ومن يدري كم يستغرق ذلك من الوقت؟! .. هل يلقي بجثتها في النيل ؟!! لتختفي الجثة وآثار الجريمة. أم يسلم نفسه ويعترف عليها؟! وهل يصدقون روايته تلك ؟! أم يقوم بتقطيع الجثة ! وبالتأكيد لن يستطع!!
وبينما يقود عربته مثقلاً بالهموم والأسئلة كحصان يجر عربة حنطور محملة بالأثقال لمسافة طويلة! فجأة تذكر صديقه د. حسام !! فجاءه بها !! وظل يرقبه والطاقم الطبي وهم يجرون اللازم لإنقاذها ومن خلف الزجاج شاهد كل شئ حتى سقطة المرفق!
أما وقد أكّد د.حسام أنها تعاني الجوع منذ ثلاثة أيام أو أكثر ووجدوا بطاقتها .. طالبة جامعية. فقد انحصر الأمر في كيفية إيجاد مخرج دون أن يجرح شعورها!! قال: لجأنا لعدة حيل!! أفرغنا حبوب بندول في قرطاس كتبنا عليه
(حبة واحدة بعد الأكل) واشترينا بعض السندوتشات أكلنا بعضها معها منعاً للحرج ثم أخذناها لداخلية الطالبات ومعها عدد لا بأس به من السندوتشات ووضعنا أسفل قرطاس الحبوب مبلغاً من المال هو كل ما معنا من نقود ودعونا لهن جميعاً بالتوفيق ثم انصرفنا.
بعد حوالي عقدين من الزمان كان الطفلان الشقيان وأمهما المهندسة المعمارية يشاهدون فيلماً تراجيديا مفعماً بالإنسانية والنبل. غمز الأخ الأكبر وأشار للأصغر محاكياً سقوط الدموع وأشار نحو أمهما. كانت الأم تبكي كعادتها حين تشاهد مشهداً إنسانياً وإن شهدته عشرات أو حتى مئات المرات ، لكنها كانت تبكي هذه المرة لأنها تذكرت هذا الموقف وهاتيك العينين الحالمتين وهما يودعانها وتذكرت الأصابع النحيلة الطويلة السمراء والتي لم ترها أبداً بعدها منذ ذلك الزمان وتلك اللحظة!!!
قصة قصيرة بقلم:-
فائز حسن العوض الحاج