لست بناقدة ولا أنا ممن يجيدون النقد أو يعرفون حتى مصطلحاته، ولكني حين أقرأ الشعر أحسه وأعيشه وأغرق في قيعان معانيه لأتأمل من جماله، وبهذا الذي أمارس وجدتني هنا أمام قصيدة بهرني تفوقها، فكأنها أم القصائد التي قرأت منذ وعيت بهذا الجمع بين دفتيها لكل ما قرأته وما أعرفه عن ألق الشعر عبر عصوره منذ الشعر الجاهلي وصولا الى اللمسة الحداثية الملتزمة التي لا تعريه من عذوبة موسيقاه وأناقة خطوه على صفحة البحور الفراهيدية، بتفوق غير عادي وشاعرية جمعت كل أغراض الشعر العربي في قصيدة واحدة وبانسيابية غير معقولة، فقلت نقرأها معا ونتأمل هذا الجمال بروح الشاعر وحس الانسان بعيدا عن تعقيدات النقد التي نتركها لأهلها.
قصيدة من كل العصور
أزعم أني قرأت هنا زخما من جماليات الشعر في كل حرف وفي كل كلمة وفي كل تركيب، وكأنما تعمد الشاعر تضمينها ألقا يشهد بقدرته أو يحكي إمكاناته، فأودق الغزل وشعر الوجدان والفخر والهجاء والمديح والرثاء والدعاء ، وهطل بحالة فريدة في الشعر العربي في قصيدة يفوح منها عبق كل أزمنة الشعر العربي لفظا وتركيبا وصورا فأنت تحس بروح الشعر الجاهلي في بناء القصيدة ومعناها، حيث تتألق حكمة زهير بن أبي سلمى وصور امرئ القيس وسلاسة طرفة وسهولة انسياب معانيه وجمالية استهلال المعلقات تتجلى في جرس القصيدة متناغما مع مشهدها الافتتاحي، حيث يرتفع الستار عن الحبيبة موضوعا تدور في فلكه بواكير بوح الشاعر كما كانت الأطلال أو الحبيبة مشهدا افتتاحيا لشعراء فرشوا لنا درب القصيد قلائد متلألئة
أُفَـتِّـشُ الـشُّـهْـبَ عَـنْـهَا وَهْيَ غَـائِـبَـة = وَأَفْـرشُ القَلْـبَ مِنْـهَـا وَهْــيَ تَــأوِي لِــي
وتقرأ هنا ما يحاكي بل ويباري بهجائيته شعراء العصر الأموي ولربما بز جريرا والفرزدق في ذلك إذ تراه يمعن في مهجوه تقريعا دون أن يسقط في سفاسف، أو ينسب إليه شتم مباشر
أَطُاعِنُ الدَّهْرَ عَنْهُمْ كُلَّ نَابِيَةٍ = فَيَطْعَن القَومُ فِي فِعْلِي وَفِي قِيلِي
يَعِيبُ فِيَّ الحَسُودُ القَدْرَ مُمْتَعِضًا = كَمَا يَعِيبُ قَصِيرٌ فَارِعَ الطُّولِ
والفخر المستتر
هَـذَا الـزَّمَـانُ الــذِي يَشْـقَـى النَّبِـيـلُ بِـهِ = بِـالـطَّيِّـبَـاتِ وَيَـهْـنَـا ذُو الـعَـقَــابِـيلِ
أَكُـلَّمَـا غَـاظَ حُـسَّـادِي جَـنَـى رُطَـبِـي =رَمَــوا نَـخِـيـلِــي بِـتَـسْـفِيهٍ وَتَـسْـفِيـلِ
وتكاد تقرأ هنا العصر العباسي في رقة غزل أبي العتاهية وحكمتة وموعظتة ، وعقلانية أبي تمام ،وجزالة لفظ البحتري التي جمعت الفصاحة والسلاسة .
يَـا لَهْفَـةَ الـرُّوحِ طِـيـرِي حَيثُـمَـا رَحَـلَـتْ = فَـإِنْ بَلَغْـتِ مَـدَارَ الصَّفْـوِ فَاحْـكِـي لِــي
يَـا حَـبَّذَا سَـاعَةٌ أَغْـفُـو عَـلَـى يَـدِهَـا = وَالـرُّوحُ مَا بَينَ تَـدْلِـيــهٍ وَتَـدْلِـيـلِ
مُـرِّي عَلَـى خَاطِـرِي مَـرَّ النَّسِيمِ عَلَى =خَـدِّ الأَصِيلِ وَعُفْرَاتِ الـرَّآبِـيـلِ
****
هَـابِـيــلُ مَـاتَ وَلَـمْ يَــمْــدُدْ يَــدًا لأَخٍ = بِالسُّـوءِ لَــكِنَّنَا أَبْـنَاءُ قَــابِـيلِ
وَقَـــدْ عَـلِـمْـتَ بِـــأَنَّ الـعِــرْقَ نَـسْــلُ أَبٍ = فَكَيـفَ تَـأْمَـلُ مِنْـهُـمْ يَــا ابْــنَ مَقْـتُـولِ؟
****
عَــمَّ الـبَّـلاءُ فَـمَـا أَبْـقَـى الـمَــدَى سُـبُــلا = لِـلـعَـارِفِــيــنَ وَمَــا أَلْقَى بِمَدْلُولِ
تَـقُــودُنَــا أُمْـنِـيَـاتُ الـعَـجْــزِ شَــاحِـبَةً = إِلَـى غَدٍ خَـائِرِ الأَنْفَاسِ مَـجْـهُـولِ
وانظروا إلى هذا البيت الذي لا يقوله إلا من عاش في زمن زهير وامرئ القيس ..
مَـنْ يَنْشُـدُ الظَفْـرَ فِـي عَـرْجَـاءَ مُقْعِـيَـةٍ= وَيُنْشِبُ الظُفْـرَ فِـي النُّجْـبِ المَرَاسِيـلِ؟
وفيها بساطة ووضوح الشعر الأندلسي وبعدها عن التعقيد والمحافظة على رقة وعذوبة الألفاظ والعبارات دون تفريط بالصنعة اللفظية فكأنك تقرأ بشار بن برد
مَـاذَا جَنَيـتُ مِــن التَّحْلِـيـقِ فِــي لُغَـتِـي = غَـيـرَ الجِنَـايَـةِ مِــنْ هِـطْــلٍ وَمَـطْـلُـولِ؟
يَنْسَـاقُ بِالحَـمْـدِ عُجْـبًـا كُــلُّ ذِي بَـطَـرٍ = وَيَشْـتَـرِي الـمَـدْحُ بَخْـسًـا كُــلَّ مَـخْـتُـولِ
بل وفيها تشكيل من مدارس العصر الحديث كلها
من صور شعرية مبتكرة
مُرِّي عَلَى خَاطِرِي مَرَّ النَّسِيمِ عَلَى =خَدِّ الأَصِيلِ وَعُفْرَاتِ الرَّآبِيلِ
وانزياحات رشيقة غير مجحفة بمعنى المفردة
حَتَّامَ أَعصرُ أَيامِي مُكَابدَةً = وَأَحْتَسِيهَا بِتَسْوِيفٍ وَتَسْوِيلِ؟
لمن أغني؟ فَرَاشَاتُ المُنَى احْتَرَقَتْ = وَحَطَّمَ اللَيلُ أَنْوَارِي وَقِنْدِيلِي
ومع أن شاعرنا ليس حداثيا بالمعنى المتداول للمصطلح، غير أنه رائد تحديث مثابر وحريص في الوقت ذاته على الأطر التي تحمي الشعر من الخروج على جنسه وأصوله ونكهته المحببة على مر العصور، ومن هنا جاءت هذه المعلقة زاخرة بالإبهار والابتكار تأتلق بانزياحات وتقابلات وصور شعرية غير تقليدية دون خروج ولو محدود على وضوح المعنى وترابط الفكرة وموسيقى المفردة وانسجام جرس القصيدة وحسها.
قصيدة باهرة فيها خطوط من الشعر متباينة ، فما تعملق بجزالة اللفظ ومتانته وفخامة الأسلوب فحاكى أبي عمرو الشيباني وابن الأعرابي وأبي عبيدة، وما ترقق لفظا وتيسر معنى فحاكى ابن هانئ وما اعتمد الطرافة في المعنى بلفظ مستعذب رصين يحاكي الفرزدق والجاحظ
************************************************** ****************
البناء العام للقصيدة
كعادتة فرش شاعرنا ساح القصيد بتراكيب وألفاظ مبتكرة رائعة السبك تباهي في دنيا الحرف برشاقتها وتميزها لغة ونحوا، وتطرب الذائقة لانتظامها في تلاعب جرس موسيقي وجدته غير مسبوق بتفاوت إيقاع القصيدة وتبدل جرسها بتبدل الفكرة والمشاعر بين بيت وآخر، وتناغم مذهل في الانتقال من فكرة لأخرى دون إخلال بسبك ولا ضعف في انسجام المفردات والجمل الشعرية، بما يشهد بتميز القدرة الشعرية للكاتب وتمكنه من توظيف مبهر لمفردته وتشكيلاته اللفظية.
فلو سألت لمن مجد الحياة لمن = فَخْرُ الأُبَاةِ؟ لَقَالَ الحُمْقُ: لِي لِي لِي
فيا لجمال هذا التركيب وهذا الترديد كبلبل غريد في قوله الذي لا أحسبه مسبوقا "لي لي لي" وفيه ما فيه من تأثير على مستوى النغم والجرس الموسيقي ولكن فيه ما فيه على مستوى رسم الصورة التامة لكل تصرف أحمق وكل نفس تسارع في التفاخر بما ليست له أهل وتسارع في الطعن بمن هم أهل تقدير وتكريم كأنهم يحسبون أن القول يكفي أو أن القدح يرفع وهذا يذكرني بقول شاعرنا العمري في قصيدة قرأتها ولا أتذكر اسمعها يقول:
أتظنُّ طعنَكَ في الجَليلِ عليكَ يرفعُ من جَلالِكَ؟
ثم لننظر إلى قوله المبهر هنا
وَإِنَّهَا لَو أَدَامَتْ حَثَّ خُطْوَتِهَا = أَحْيَتْ كَلِيلَ الخُطَى فِي سَاقِ مَشْلُولِ
أَمْ جُلَّنَارٌ سَقَانِي الطُّهْرَ نَشْـرَ فَمٍ = فَأَنْبَتَ الشُّكْرَ فِي وُجْدَانِ مَذْهُولِ؟
سنلاحظ أنها خرجت بمهارة حافظت على التوازن البنائي ووحدة الموضوع في قصيدة شمل مضمونها محاور شتى حظي كل منها بمساحة من النص تكفي لإفراده بقصيدة مستقلة، وكعادة الشاعر ظل مغدقا على عباراته الشعرية فيضا من المحسنات البديعية لا يبلغه بذلك الزخم غير شاعر يمسك في كف حَرْفه خِزامة أنف القصيد باحتراف، وبها رسم لنا أخيلة وصورا نقلتنا في البيت الواحد من فضاء لآخر ، نتأمل مشاهد انسانية يحلق فيها الحس عاليا لينهمر ودقا يتغلغل في الأرواح ويرسم لها خطوط تفاعل مع نص القصيدة وحسها.
يَا أَنْتِ مَا أَنْتِ؟ إِلا أَنْ تَكُونَ أَتَتْ = مِنْ عَالَمِ الغَيبِ فِي وَحْيِ القَنَادِيلِ
أَمَا هَلَكْتَ شَهِيدَ العَفْوِ مِنْ ظَمَأٍ = وَأَنْتَ تَنْضَحُ صَبْرًا بِالـغَرَابِيلِ؟
أما ألفاظ القصيدة ومفرداتها فشهادة بمعجم لفظي ثري ومردود لغوي مبهر رفد الشاعر بزخم من المفردات الأدبية السامقة حشدها في مطولة يعز في مثلها هذا النجاح بتجنب الألفاظ المبتذلة والملحونة، وجاءت الألفاظ ساحرة بدلالاتها وعمق معانيها، وبرغم حمولتها الكبيرة من ألم وعتاب بل وغضب استوجب تقاربا ومشاكلة وائتلافا في تخير المفردات وتحري انزياحات معانيها، فلم يفقد هذا النص الفاره التناسب مركبا يحمل مفرداته الى منازلها، والتناسب كما نعلم من أجمل المقاييس الجمالية في فن الادب
مُرِّي عَلَى خَاطِرِي مَرَّ النَّسِيمِ عَلَى =خَدِّ الأَصِيلِ وَعُفْرَاتِ الرَّآبِيلِ
لِمَنْ أُغَنِّي وَفِي عَينِ المَدَى غَلَسٌ = وَفِي المَرَايَا عَرَايَا فِي السَّرَاوِيلِ؟
هنا ، في كف وإزميل تغوص في تفاصيل حسية وملامح خيبة وألم وخذلان تكاد لوضوح الصورة تحياها معايشة ، وتحملك المفردة بدلالاتها وحسن توظيفها في بيان قسوة التجربة وحدة الجرح الذي أحدثت لاستشعار ألمه وكأن الطعنة نالت من خاصرتك أنت، فتقرأ تطبيق مقولة شيخنا الإمام عبد القاهر الجرجاني بأن اللفظ خادم للمعنى، حيث زخم من المعاني والأفكار والمشاعر الجياشة تمور عبر أبيات القصيدة /المطولة ولا تجد في مفردة منها لفظا يحيد عن المعنى أو يجنح لتفاسير وتأويلات مغايرة.
ولعل من حشو القول أن نعود للحديث عن التمكن اللغوي للشاعر في معلقة حوت أحس البلاغة من اتساق البناء واعتدال الوزن واشتقاقات اللفظ وتألقت فيها المحسنات البديعية والصور البلاغية التي اتسعت فضاءات خيال الشاعر في رسمها وتشكيلها فجاءت لوحات فنية مميزة، والانزياحات السلسة التي اجتنبت الإجحاف بأصول المعاني فجاءت منسابة مقبولة كماء الغدير
بِقَلْبٍ بِمَاءِ الطُّهْرِ مَغْسُولِ
طَرْفٍ بِصِدْقِ العَهْدِ مَكْحُولِ
فَإِنْ بَلَغْتِ مَدَارَ الصَّفْوِ
بَوْحُ أَقَاحٍ فِي مَيَاسِمِهَا
فَزَمِّلِينِي إِذَا اهْتَاجَ الأَذَى حَرَضًا
تَأْكُلُ الخُبْزَ مِنْ شِعْرِي وَتَنْقُرُنِي
**************************************************
سمو المعاني وهدف الرسالة
هنا تعرف معنى أن يكون للشعر رسالة تأثيرية يهدف الشاعر من خلالها لصوغ معالم جديدة لمجتمعه وأمته، معالم يرتقي فيها الحس وتسمو القيم النبيلة ويتعلم المرء فن كبح جماح شياطين أثرته وحرصه، فهو ينهمر في قالب من العتاب بوصف معالم الخير والنبل منسوبا لنفسه لوما على النقيض
فيصف علاقته بالقوم من حوله
أَطُاعِنُ الدَّهْرَ عَنْهُمْ كُلَّ نَابِيَةٍ ....
وَأَسْتَحِثُّ إِلَى العَلْيَاءِ هِمَّتَهُمْ ....
ويصف الموقف الصحيح من الصديق والشكل السوي للعلاقة معه
وَكُنْتُ فِيكَ بِلا عَينٍ وَلا أُذُنٍ =عِنْدَ الوُشَاةِ وَلَكِنْ عِنْدَ تَعْوِيلِ
ويعيب سوء الخصال من نميمة وغيبة وعجز وتواكل
وَقُلْتَ: قَالَ وَقَالَتْ ، لا عَدِمْتُ أَخِي = مَا ذَاكَ إِلا لِرَبَّاتِ الخَلاخِيلِ
تَقُودُنَا أُمْنِيَاتُ العَجْزِ شَاحِبَةً = إِلى غدٍ خائِـرِ الأَنفَاسِ مـجْهُولِ
ويعيد حسن الخلق في كل أمر لالتزام تعليم الاسلام دينا ونمط حياة
بَعْضٌ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ طَوْعَ شَهْوَتِهِ = إِلا الذِينِ اتَّقَوا فِي هَدْيِ تَنْزِيلِ
مَا مِنْ وَفَاءٍ وَلا خِلٍّ وَلا مِقَةٍ = إِلا بِبَرٍّ بِحَبْلِ اللهِ مَوصُولِ
واستشهاد عبقري بسورة الفيل
فَـإِنْ أَتَـيتَ تَـجْدْ صَفْحًـا بِلا عَـتَبٍ = وَإِنْ أَبَـيتَ فَـرَتِّـلْ سُـورَةَ الـفِـيلِ
حيث يوائم مضمون سورة الفيل مقصودالرسالة هنا بما ينطوي عليه أصلا من نصح وعظة وتوجيه جعل في التوكأ عليها يوصل بصورة منصفة وواضحة تقريعا لمن أبى واستكبر
وبيت واحد من الشعر يوجز صفحات وصفحات تحكي قصة مد يد مبسوطة بالفضل، ومهيئة لمزيد من الخذلان، بصدر حمل تشخيصا لملامح الخلق القويم للكرام بالعفو والصفح دون إيذاء، وعجز اتخذ من المنهج الرباني في النصح والترفع سبيلا ثابتا لا يميد ولا يحيد
وبذكاء وتميز جمع الشاعر بين نمطين لبداية الشعر عند الأقدمين هما بث شكواه والبوح بهواه متغزلا بالحبيبة، فإذا بالقصيدة التي ختمت رسالتها بالاستعانة بالله لما يلاقي الشاعر من خذلان وتضييع حق من الأهل والأخ والصديق، قد بدأت أصلا بنفس الحس وهو الشكوى/ العتاب من ثقل الحبيبة وأثرتها
أَبْكِي اشْتِيَاقًا إِليهَا وَهْيَ تَبكِي لِي = وَأَشْتَكِي مِنْ أَذَى الدُّنْيَا وَتَشْكُو لِي
فالحبيبة هنا وبرغم ما أغدق عليها الشاعر من صفات صنعها الحب ونطق بها التحبب، كانت في حقيقتها شبيهة بالصاحب الذي خذل وظلم، فهي أنانية تحكمها أثرة وذاتية اهتمام حدا يشقيه ويؤلمه
نَاشَدْتُكِ اللهَ لا تُشْقِـي الذِي اقْتَرَفَتْ = فِيهِ الخَطَايَا ضَلالاتُ التَّمَاثِيلِ
**************************************************
نظرة عامة
وفي العودة على القصيدة مرة ومرة، تتأكد لك قيمة الفكرة الأدبية الراقية بأن الشعر ليس مجرد "غزو انفعالي لحواس القارئ"، فهو آلية لغزو العقول والأفكار وإعادة لقراءة القيم واستقراء ثقلها في المجتمع وأثرها على الوعي الاجتماعي والممارسة الانسانية، وهو بالتالي أداة للتأثير فيها وإعادة صياغتها وتشريبها للفكر الانساني للارتقاء بالفرد والأمة، ومن هنا تجد بأن وعي الذات لدى الشاعر جاء مؤطرا بوعي الواقع العام لمحيطه، على كافة المحاور التي تحكم هذا المحيط ثقافيا واجتماعيا وتاريخيا ودينيا، وترى في القصيدة رسالة تغيير واضحة يضع الشاعر فيها ذاته على مشرحة التوصيف، لبث صور شعرية تخلق في داخل القارئ ذاتا أخرى مستنسخة من وحي القصيدة، تعيد على مسامع روحه انفعالاتها ومضامينها، وتتعهدها في أعماق تلك الروح غرسة إصلاح فتجادله بوحي منها في شأنه، تعيب العيب وتدعو لمعاني الخير والحق والجمال وتنجز أولى خطوات التغيير المنشود
وحين يتكامل هذا الوعي الانساني والبعد الرسالي السامي مع قدرات شعرية محلقة عاليا في سماء الابداع والتمكن، يكون الهطول الإعجازي لمطولة تباري ولعلها تبز أروع ما كتب الشعراء على امتداد عصور الشعر ...
وأزعم بيقيني أن هذا لا يفعله إلا شاعر العرب.