بسم الله الرحمن الرحيم
عزف تحت نافذة المعشوقة ( أقصوصة )
عبد الغنى خلف الله
الحلقة الأولى
أناديك بشتى الأسماء ..أُسميك الكرى والعنادل .. الأشياء والأماكن البعيدة .. ومرة أدعوك انتظار العيد ..الحلم والروعة المستحيلة ..واسمك كان الأغنية العذبة التى تبحر فى ضباب الضباب ..أُسميك شموخ الذرى ..نعومة الكثيب المهيل ونتف الغيوم السابحة فى البعيد البعيد ..وتتوالى السماء ..فأدعوك حكمة الشاطئ ..سر الغابة وغموض الصحراء ..لكن اسمك يهرب منى .. يهرب فلا أجده .. وكانت أسماؤك فى عطش شرايينى عبيرًا وكلمات وارتداد سكون ..كانت أسماؤك موسيقى وخلودًا وأغاريد .. وعندما ضاع اسمك بين فمى وضميرى عدت أُسميك البعاد ..المسافة والنزوح وأغوص بعيداً فى بئر المرارة الفاقمة أناديك ولا اسمع سوى رجع الصدى وعويل الريح ..نعم حبيبتى ..يا تناغم العصافير فى الأماسى الرمادية ..أين أنت وكيف ومتى ولماذا؟ ..الأشياء ماضية فى ثباتها القديم والزمن حقيقة والحزن حقيقة وأنت أجمل الحقائق التى تخطاها الزحام ..انظرى إلى الشمس وهى تتدفق شلالاً من الضياء بين ظلٍ ومسافة .. وهنا وهناك الصمت الماثل بين الرصد والانتظار .. أسطورة أم رؤى ؟ .. خيال مجنح أم طيف شرود ؟ وبينما تقافز بضعة أقدام عند حافة النهر لا يبدو أنه يثير فضول النوارس العائدة من خلف الأفق فإنّ ثمّة اتحادا وثيقًا بين الموج والصّدى .. حبيبتى يا صغيرتى العزيزة..اغمضي عينيك المسافرتين فى فضاءات الشرود واعتصرى حتى الذوبان فنجان القهوة وحافة المقعد .. ولا تدعي منديلك المغسول بدموع المطر يهرب من حمى معاناتك ..واغفري لكل ذلك البهاء وقد توسد الوجه الجميل القامة الباسقة والخصر الغريق .. إنى أتذكر تلك الأيام .. إنها تعيش بكل ذرة من كيانى بكل نبض فى قلبى وكل بارقة فى خاطري ..تعيش وتتوهج بكل دخان من الحرائق التى اشتعلت بخافقي ..إنها تشرنق أخيلتى ..تسافر بعيدًا بهذه الناحية من الكون حيث صورتك البعيدة وأشواقى السادرة فى توهمها ترحل بلا انقطاع باحثة عنك .
كانت الصالة الكبيرة مستسلمة للملل .. غارقة فى عادية قاتلة والموسيقى الهادئة تندس بين المقاعد وخلف النوافذ وأنا أحدق فى وجوه الحاضرين ولم يجد كوب الشاى الثالث شيئًا إزاء النعاس الذى كان يسيطر عليّ ..وبينما أنا أزداد نعاسًا فى آخر الصالة دلفت أنت إلى الداخل مختبئةً خلف رجل طويل القامة مهيب المظهر وبدون أن أدري وقفت وعيناى معلقتان بوجهك الذى لم تتضح كل معالم جماله بعد تماماً مثلما ينبثق النور فجأة فى غرفة شديدة الظلام .. والخطى المتئدة تقطع المسافة نحوى وأنا شبه مصقوع وقد غامت بعيونى الرؤى وبقيت أنت كما النار المتقدة فى غابة من الجليد .. قدم مدير المستشفى ذلك الرجل بعبارات تنضح توقيرًا وتأدبًا وهمهمَ كلانا بعبارات الترحيبب المعتادة التى تفرضها مثل تلك الظروف .. أعلن أنه يشتري نصف اللوحات المعروضة ويهديها لجمعية أصدقاء المرضى .. ولم أبد أية مشاعر نحو هذا التشجيع الكبير فقد كنت مستغرقًا في ما يشبه التأمل متطلعًا نحوعينيك وقد أطرقت حياءً ..وبعد جولة سريعة فى زوايا وردهات المعرض شرحت فيها مغزى بعض اللوحات التى استرعت انتباه ذلك السيد غادرتما الصالة وكأنما أطفئت الأنوار من جديد .. وعاد كل شيء إلى سكونه السابق ولكن ما عاد ذلك الشيء ينعس فى دواخلى .. فكان الرعاف ..تُرى من أنت .. وما هو اسمك ؟ وأسئلة كثيرة باتت تعذّبني .