الناي المسحور
قصة قصيرة
بقلم فائز حسن العوض
حين وقفت عند خاصرة الرجل والعنقريب(1) بيني والكعبة وأقرب إلي منها نظرت إلي الجسد المكفن بكفن أبيض .... قسته بنظري فبدأ أنحف وأقصر مما هو عليه ، سرحت دون إن أقول شيئاً ، تذكرت قوله لي ذات مرة :- كان جدي رحمه الله يوصي أبي وبشدة أن يوصد باب الدار بالمفتاح وأن يضع عليه ثقلاً يصعب رفعه إلا بقوة من عدة أفراد ، .... كان يقول ذلك بإستمرار فإذا سأله أبي عن السبب يقول :- حذرنا جدنا .... سيأتي يوم والدنيا مقمرة ، دائرة القمر كسطح كوب مملوء بالحليب ، يأتي شخصٌ هو في الحقيقة شيطان يسحر الشباب ويسوقهم أمامه كقطيع أغنام يسوقها راع ٍ متمرس ، يفعل ذلك بأن ينفخ علي نايه المسحور ، لذا عليه أن يغلق بابه بالمفتاح في الليالي المقمرة المكتملة إستدارة القمر ولا ضير إن تركه مفتوحاً في ما عداها !!! .
وجاءت تلك الليلة ذات يوم، تأخر طلوع القمر، لكنه أخيراً جاء فملأ الكون كله بدقيق أبيض ناعم هو بعض ضيائه !!! أحسست بضيق أول الأمر وكأني مقفل في زجاجة ، ولكن ما أن سمعت صوت الناي حتى تقمصتني قوة شيطانية فحملت الصخرة لتي يدحرجها أبي فألقيتها جانباً ثم فتحت الباب فهبت ريح ٌ باردة سرت معها كالمنوٌم وإكتشفنا إننا كنا سبعة عشر شاباً من قرية واحدة ولابد أنهم اكتشفوا غيابنا صبيحة اليوم التالي ، سرنا مقيدين بصوت الناي طوال ثلاثة أيام متواصلة كنا نسير ليلاً ونرتاح بالنهار في الكهوف والمغارات ، سرنا غرباً ثلاثة أيام أو تزيد حتى بلغنا الحدود ثم حملتنا عربة نيسان إلي داخل الحدود الليبية ولم يصادفنا أحد في تلك الصحراء الممتدة إلي ما لا نهاية حتى وصلنا إلي بني غازي بإستثناء مرة ٍ واحدة صادفنا فيها قافلة من الإبل يقودها بدوي شبه عارٍ ونصف مجنون وسراب الصحراء كالرصاص المصهور من شدة الحر .
حين وصلنا بني غازي إنضممنا لجيوش المحور وشاركنا في حرب الصحراء وبعدها غادرنا ليبيا عبر تشاد إلي إفريقيا الوسطي ، بقينا فيها زمناً ثم غادرناها لأثيوبيا وأصبحنا جنوداً في الجيش الإيطالي ، كان بعضنا قد قتل في حرب الصحراء وفي إفريقيا الوسطي مات أكثرنا شجاعة ً _ إسحق _ كان أصغرنا سناً دفناه بعد معركة مع الأعداء استمرت ثلاث ساعات كان هو نجمها بلا منازع ، كان يطلق المدفع ثم يتبعه بالقنابل ورمي أصابع الديناميت ثم يطلق زخات من الرصاص من بندقيته نصف الآلية ثم يعود بعدها ليدخل طلقة مدفع في الماسورة بعد أن يحملها بنفسه ويسحب الحبل فتنطلق القذيفة لتدك أو تمسح كل ما يعترض طريقها وتمتلئ المنطقة بالدخان الأبيض الكثيف وأشلاء الضحايا ، أخيراً أصابته طلقة قناص في صدره فلم يلتفت بل ظلل يمارس هوايته في المعركة ، ولما عجزوا عن إسكاته أمطروه ومدفعه بدفعة دانات كأنٌه حصن فأختفي ، وإنصرفنا بعد أن أخذت أوراقه وغادرنا لأرض الحبشة ، دخلنا إثيوبيا قريةً فقرية .... كلوقزاي .... حدش ... بحر دار حتي الحمراء ثم إجتزنا الحدود الأرترية وتلك هي أشرس المعارك ، كان الجنود الإيطاليون من عدة أجناس ، مغاربة ... هنود .... باكستان ... أحباش ... سودانيون وكنا قلة ولكننا كنا الأشرس حتي وصلنا كرن وهي مدينة في سفح الهضبة الأرترية ومحاطة بالجبال والمرتفعات .... خضنا فيها معركة ضد ثلاثة جيوش ، من ثلاث جهات ونحن بضع رجال ، كنا نبعد جيشاً في كل مرة ٍ فكانوا يطلبون المدد والعون لنكبدهم الخسائر والجنود حتي طردناهم وإنسحبوا يجرجرون أذيال الخيبة والندم وحين إنجلت المعركة عن هزيمتهم وإنسحابهم بقيت جثثهم بأطراف المدينة وقد تهرًأت أوصالها وأنتفخت بطونها بالصديد ّ!! .... كانت رائحة نخاع الجثث وأمخاخها الأنتن رائحة ً ، وأكملت الديدان والكلاب الضالة نظافة العظام عن اللحم وحتي بعد أربعين عاماً أو يزيد إذا هبت الريح تخشخش أظافر الموتى مع الريح لكثرتها !!!
ظللنا نطارد فلولهم حتي مشارف تسني ولا ندع النوم يزورهم لحظة !!! وأطعمنا معظمهم للكلاب الضالة ، ... بقينا خمسة رجال من السبعة عشر الذين إكتشفوا غيابهم في اليوم التالي ولم يعرفوا سرهم حتي الآن .... أنا وود شيخ دواس وسليمان وليد الجبريل وجانو الصغير ووليد الرزيقي _ يعدهم في أصابع يده اليسرى كأنهم أحياء الآن _ .
ثم غادرنا كرن لبارنتو ، كانت محاصرة ً فكسرنا عنها الحصار ودخلناها دخول الفاتحين فدهش الجميع لمنظرنا !! ....- جيش من خمسة رجال- ولم يصدقونا لأن ما قمنا به المفترض أن تقوم به خمسة جيوش ، كان كل منا جيشاً بمفرده !!!
بقينا في تسني عاماً ونصف تزوج خلالها جانو الصغير بأرترية وأنجب منها لكنه توفي بالحمي فدفناه وهو أصغرنا سناً .... دفناه كأننا ندفن أنفسنا ، بعدها قررنا الدخول مرة ً أخري فدخلنا كسلا شيوخاً في أواخر السبعينيات ، والدنيا رمضان أواخر ثمانينات القرن الماضي ، عملت خفيرآ في أحد المباني تحت التشييد ، ثم مات رفيقي الوحيد الباقي معي فدفنته وأحتفظت بجنسيته وأوراقه - هاهي زي- ، وبعض العملة الأثيوبية وبها صورة المبراطور هيلي سلاسي- آخر ملوك أثيوبيا الأقوياء -، ثم يتأوه .... ياآآآآآآآآه ... رحلة ٌ طويلة ٌ جداً ... سنوات !!! .... وكأنه ينظر طريقه أمامه متتبعاً آثاره عليها منذ أن فارق قريته ذات ليلة ٍ مقمرة ٍ ومعه الآخرون متجهون غرباً من غرب البلاد حتي دخولهم من شرقها مرةً أخري بعد أن داروا حولها آلآف الكيلو مترات من أقصي حدود ليبيا الشمالية حتي الحدود السودانية الأرترية وهو علي أعتاب القبر وقد تركت كل رصاصة ٍ أطلقها أو إستقبلها بصمة ً في قلبه الكبير ، مثل محارب ٍ مجرب خاض حروبه وهو مؤمن بشئ ٍ واحد فرضته عليه الظروف وهو حق الجميع في الحياة الكريمة وأولهم الضعفاء والمهزومون وكل الناس بمن فيهم هو نفسه فهل كل ذلك دون تفكير؟!! فقط لأجل الحياة؟ !!!
فعل ذلك مدفوعاً بقوة غناء الناي السحرية وبقوة ٍ شيطانية رفعت الصخرة وفتحت له الباب الكبير للخروج للعالم الكبير وهو الذي لم يغادر بيتهم يوماً !!!. تماماً كالديك يضل بيته إن خرج لبيت الجيران وعاد مجهد العينين كالسهران طوال ليال ٍ لم يذق طعم النوم لحظة ً ، خشي إن غفا مرة ً ستكون الأخيرة التي لا يصحو بعدها !!! وكنت قد تعرفت به قبل شهر ٍ واحد ٍ من حكاية قصته لي رغم أن كثر سبقوني في التعرف عليه بعام ٍ أو عامين ، ظل خلالها يقيس الناس حوله بخبرة تلك السنين ، كان يختبر الرجال أيهم الأقدر علي كتمان السر ؟ !!! ومن منهم سيكون كاتم أسراره الأخيرة !!!كمن يبحث عن حفرة ٍ في مكان ٍ ما بسطح الأرض لا يعرف هو نفسه مكانها !!! .
سألته مرة ً :- هل لديك أطفال ؟؟؟
نظر إليً بعينين صافيتين كأنًه عائد ٌ من العالم الآخر وكمن يفيق من غيبوبة طويلة ... سرح برهة ٍ ظننته سأل نفسه خلالها ثم قال :- محمد أحمد .
كان ينظر في بؤبؤ عينيً كأنه ينظر شخصاً خلفي . قال :- لا تخبر أحداً بقصتي حتي بعد مماتي !!! قال :- سيصفونني بالجبن ... كنت أشجعهم ، وكنت أقاتل وأنا واقف ٌ ولا أعرف القتال وأنا ممدد علي الأرض .
للعمر مدى ولا يأخذه خطأ ، العمر عند رب العالمين ، كم طلقة ً تخطتني وقتلت شخصاً خلفي !!! لكل أجل ٍ كتاب والحياة طريق بإتجاه واحد ... للأمام فقط . بعض الناس يقطعه جرياً وبسرعة ٍ والبعض يتلكأون فيه بعض الوقت لكنهم يعبرونه لأنه لا بد من السير فيه . المهم أن لا تعود القهقري أو تتوقف . إمض . دون خوف وبلا توقف .
حين وقفت بمنتصف الجثمان لأصلي عليه حسب وصيته ، تذكرت كل تلك الرحلة ... دعوت له بالمغفرة والقبول ، ثم قرأت : يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلي ربك راضية مرضية فأدخلي في عبادي وأدخلي جنتي .
السلام عليكم ورحمة الله ،السلام عليكم ورحمة الله. لم أفق علي صوت الجواريف إلا بعد أن تقوس التراب فوق الحفرة وأنصرف الناس جميعاً !!!
(1)العنقريب في اللغة العامية السودانية / سرير من الخشب يحمل عليه جثمان الميت !!!
بقلم : فائز حسن العوض
كسلا السودان _ مارس 2010 م