بسم الله الرحمن الرحيم
الهلاك الكبير.. قصة
- (غارت المياه. غارت المياه. أصبح ماؤنا غورا)
انطلق الخبر عبر مكبرات الصوت الخاصة بمسجد القرية المهجور، لينزل كالصاعقة على سكان القرية، حتى أن اللقمة بقيت حبيسة أنامل (الحاج حمدون)، ولم تبلغ فاهه المشدوه أبدا، في الوقت الذي راح ابنه (شاكر) يتأمل كوب الماء بيده، وتفيض عيناه كعاشق تلقى نبأ زواج معشوقته بآخر،بينما احتضنت (شكرية) ،الطفلة الصغيرة، قنينة الماء في قوة، -كحال أم (أحمد)، وهي تحتضن ابنها خوفا من أن تفقده مرة ثانية، بعد أن كان قد ضاع منها في سوق القرية-، لكن تشبثها القوي بها لم يمنع شقيقها ذي السبع سنين من أن ينتزعها من بين يديها، ويفر هاربا، تاركا عينا أم تراقبه في ذهول العاجز، وهي أشبه ما تكون بالمروض الذي فقد السيطرة على أسوده فجأة..
******
بعد الصدمة وحالة الذهول، التي لمت بأهل القرية بعد تلقيهم ذلك الخبر صباحا، توافدوا ضحى –صغارا وكبارا، رجالا ونساء- إلى منبع الماء، وهم يتشاركون في مشاعر الاستنكار، والتشكيك في صحة الخبر، وهم بذلك أشبه بحال شخص قوي البنية، لا يعاني من أية أمراض، تقدم للتبرع بالدم فتفاجأ بعد التحاليل الأولية لدمه أنه ملوث، ولا يصح نقله لأي كان، فبعد الصدمة الأولية وحالة الذهول التي يمر بها، تبدأ حالة ثانية من الشك، وعدم التصديق، ثم ما إن يتأكد من صحة المرض- كحال أهل القرية وهم يجدون منبع الماء قد جف- حتى تبدأ حالة ثالثة من التذمر والسخط وعدم الرضا بما قُدر،ويتفوه بألفاظ يرتقي بعضها لألفاظ كفرية، ولهذا لم يستنكر أحد من المتوافدين على المنبع كلام (الحاج شريف)- كما يناديه السكان ،استناد لروايته الوحيدة، التي يقول فيها أنه قد حج البيت راجلا بصحبة جده، أيام شبابه-لم يستنكروا عليه مساسه الصريح للذات الإلهية المنزهة، بل صاح (عبد الشكور) على نفس منواله قائلا:
- قضي علينا والله.. هذا ليس عدلا..ليس من المعقول أن يحدث لنا هذا ونحن كبار القوم، ومواشينا تكاد تغطي الوديان والجبال..
وزاد (حميد) عليه في هستيرية:
- هذا ما كان ينقصنا!!عين أجدادنا، وسر بقائنا، وأمل مستقبلنا، ورمز عزتنا، تنتهي هكذا فجأة!! أليس هذا ظلما؟!!
ارتفعت أصواتهم مؤكدة:
- بلى والله.. بلى والله..
انطلق من بين الجميع صوت (الحاج حمدون)، بلحيته البيضاء الغير المرتبة قائلا:
- يا قوم.. اسمعوا وعوا.. فما جرى سابقة لم تحدث منذ أجيال، وسواء حدث هذا بسبب فساد أفعالنا، ونقص ديننا، بحيث أصبحنا لا نحمل من الدين غير أسمائه، وسواء حدث بسبب الجفاف والتغيرات المناخية، فإن الحصيلة واحدة.. ماؤنا قد نفد، وعليه، فإن الاستنكار والتذمر لن يعيد لنا الماء، فهلموا لنعمل فكرنا ،ونتشاور في مخرج حكيم من هذا المأزق الخطير الذي وقعنا فيه،وإلا فإن مصيرنا ومصير دوابنا، وزرعنا سيكون واحدا..
الهلاك عطشا..
******
همس السيد (شديد) لابنه عنترة، واللغط يشتد بين وجهاء القرية:
- أسمعت! إن أحد خياراتهم بئر العائلة..اذهب حالا لعمك (شداد) وأخبره بأن يحمل سلاحه، ويتوجه لحماية البئر..
ودون كلمة زائدة انطلق (شديد) كالسهم ليبلغ عمه، بينما القوم قد حسموا أمرهم على رأي واحد، واتجهوا ناحية البئر، ولم تمض دقائق حتى كان سادة القوم على مشارف البئر، وعلى مرمى فوهة سلاح صيد متطور، والسيد (شداد) يصيح فيهم محذرا:
- لو تقدم أحدكم خطوة أخرى سيكون هذا آخر فعل يقوم به في حياته..
بدا الجميع غير مكترثين لتهديده، وبخاصة الشاب (شجاع) الذي تقدم خطوة،مستمدا حماسه من مشهد ابنه ذي الخمس شهور الذي تركه يئن من العطش قبل خروجه، قائلا:
- ليس من الأخلاق أن تمنعنا من الماء، فالبئر أصبح الآن من حق الجميع، والماء ماء الله كما تعلم..
ارتسم العناد على ملامح (شداد) وهو يرفع صمام الآمان في سلاحه قائلا:
- إذا كان الماء ماء الله، فهو على أرضي وأرض أجدادي، ولا يحق لأي كان أن يتصرف فيه، بغير إذن من المالكين له..
رد عليه الشاب في صرامة:
- إن سلاحك لن يردعنا، وحتى لو قتلت بعضنا فسرعان ما سيكبس عليك الآخرين، وحينها ستجد وقتا كافيا لتستمع بحميم جهنم..
قال وهذا وصاح في رفاقه:
- هجوم..
وضاعت تحذيرات (شداد) وسط الهرج والمرج، ولم يجد بدا من استعمال سلاحه وهو يصيح:
- قد حذرتكم..
ومن فوهة سلاحه انطلقت خمس رصاصات كاملة، جعلت الشاب (شجاع) يتوقف ثانية ليحصي قتلاه، لكن تفاجأ بأن أحدا لم يسقط، فأعاد نظره ناحية (شداد)، فرآه يلقي بسلاحه على رقبته، ويطلق ضحكة ساخرة، ويغادر البئر في هدوء..
بقي الجميع لوهلة عاجزين عن الحركة وعن فهم ما يجري، قبل أن يفيق (شجاع) من دهشته ويسرع نحو البئر العميقة، ويلقي نظرة على قرارها، ولما لم يتبين شيئا رمى بحجر داخلها منصتا، ثم لم يلبث أن رفع وجهه جهة رفاقه قائلا في امتعاض:
- يا للنذل.. لقد كانت مجرد مزحة.. الجب أيضا فارغ.. فارغ من الماء تماما..
ورغم خطورة الموقف، لم يستطع أحد من الحاضرين كتم ضحكاته..
******
مسح السيد (حرب) معرفة جواده الأبيض الأصيل بأنامله، وهو يراقب استعدادات فرسانه الذين بدو بكامل عدتهم، مع استثناء جوهري وحيد يتعلق بجربنديتهم الخاصة بالماء،فقد بدت غائبة عن عدتهم ، قبل أن يعود ليهمس في أذن جواده بحسرة المضطر:
- الأمر هذه المرة يختلف يا صديقي، إنها ليست رحلة الصيد المعتادة..
هذه المرة هي معركة من أجل الماء، ومن أجل البقاء..
بدا الجواد كأنما قد فهم همس سيده له،فأطلق صهيلا خافتا حزينا، جعل صاحبه يتقدم به ليواجه فرسانه ،ويخطب فيهم باقتضاب:
- أيها الكرام.. أنتم الآن لم تعودوا مجرد صيادين..
أنتم الآن حماة الديار، وفرسانها، وكما تعلمون فالإنسان يقاتل من أجل أربع: دينه، عرضه، دمه وماله..
واليوم نحن أمام قضية أكبر وأخطر، قضية تتعلق بالحياة نفسها..
فعلى الماء يتوقف كل شيء، ولهذا نحن ماضون من أجل البحث عنه، والاستلاء عليه بالقوة، إذ لن يرضى أحد من القبائل المجاورة اقتسامه معنا سلميا..
أيها الفرسان، من فهم منكم أن الموت آت لا محالة، ورأى أن الظفر بالغنيمة أو الاستشهاد من أجلها أرحم وأنبل من التخلف عن الغزو، وبالتالي الهلاك عطشا فليتقدم، وليغادر القرية مغادرة مفارق، فهي معركة حياة أو موت..
قال وهذا واستدار بجواده مشيرا لهم :
- إلى الأمام..
وما كاد يتم استدارته حتى سقط إليه صبي من صبيان القرية، وهو يقول له لاهثا، ومشيرا للوراء في رعب:
- سيدي (حرب).. فريقان من الفرسان مختلفا التشكيل والتنظيم، اقتحما حمانا وهو مقبلون جهتنا..
أطرق (حرب) برأسه طويلا حتى ظن القوم أنه لا يرفعه أبدا، مما جعل الشاب (شجاع) يصيح فيه قائلا:
- لم الانتظار سيدي؟!! لا يجب تفويت هذه الفرصة التدريبية المجانية التي ألقى بها القدر إلينا..
بدا (حرب) كأنه لم يستمع لكلمة واحدة مما قاله الشاب، فهمس لجواده قائلا:
- أتمنى ألا يكون الأمر كما فهمت..
ثم رفع رأسه ناحية أصحابه قائلا:
- لننطلق..
ولم تمض دقائق حتى التقى فريقه بالفريقان ، وقبل حتى أن يتعرفا على بعضهما، ويعرفا بغية كل واحد من الآخر، شق الصف الشاب (شجاع)، وتوسط الميدان، مشيرا لأصحابه بالهجوم، وقبل أن يستجيب أحد لإشارته، جرى (حرب) وراءه وشده من تلابيبه، وصاح فيها ناهرا:
- عد للصف، وتعلم أن تنتظر إشارة قائدك، فهناك فرق واضح بين الشجاعة والتهور يجب عليك أن تتعلمه، ولو عدت لتكرار هذا فسأضطر لحرمانك شرف المشاركة في المعركة النبيلة..
تقهقر الشاب في استحياء إلى الوراء، بينما بقي قائدي الفريقين الغازيين يراقبنا المشهد في اهتمام وصمت، قبل أن تعلو الدهشة والاستغراب ملامح القائد الشاب، بعكس ملامح القائد المسن الذي حافظ على هدوئه، وهو يرى السيد (حرب) يترجل عن جواده ويتجه نحوهما، مما حذا بالمسن أن يترجل أيضا، ويخطو خطوات ليلتقي بـ (حرب)، ويتعانقا..
بقي الجميع عاجزا عن فهم ما يحدث، وبخاصة الشاب (شجاع) الذي كاد الغيظ يقتله، وهو يهتف في جاره (شاكر) مستنكرا:
- لا أصدق ما يحدث!! أعتقد أن القائد أخطأ خطئا جسيما حينما لم يأمرنا بإحضار الورود الذابلة لنثرها على الغازين ، بدل تلقيهم بالرصاص و...
قاطعه شاكر قائلا:
- أصمت.. أنت لا تفقه شيئا..
كاد الموضوع يتطور لشجار حقيقي بينهما لو لا أن سمعا (حربا) يقول بصوت عال:
- يا قوم .. هؤلاء ضيوفنا.. لا يتعرض أحدكم لهم بالأذى..
كاد الشاب (شجاع)، يجن وهو يصيح في جاره (شاكر) مرة ثانية:
- أسمعت!! إنه لم يكتف بالاستلام، بل طلب منا إكرامهم أيضا، ثم بعد ذلك تعيب علي...
قاطعه (شاكر) مرة ثانية:
- توقف.. أعتقد أن حربا حينما نصحك بفهم الخيط الذي يفصل بين الشجاعة والتهور كان يقصد شيئا جوهريا بكلامه،
قال هذا ثم مال على أذنه هامسا في خبث:
- الحكمة.. وأنت تفتقدها تماما..
ودون أن يكترث لغضب (شجاع) راح يكمل:
الأمر واضح وضوح الشمس، فلو عملت عقلك قليلا لاستنتجت أن الموضوع برمته لا يحتاج قتالا.. لاحظ مثلا أن الفريق الذي اقتحم الحمى هو في الحقيقة مشكل من فريقين غريبين عن بعضهما، وهذا واضح من اختلاف لوني ملابسهما، وعدتهما الحربية، مما يعني أنهما قد التقيا ببعضهما حديثا، وعلى الأرجح، كان كل واحد منهما يزمع الهجوم على الآخر، لكنهما تصاحبا بدل ذلك، واتحدا، وقرر الاستعانة ببعضها علينا، وللسبب ذاته الذي جعلهما يتحدان، جعل من حرب أن يتحد معهما، ثم لو استعملت بصرك الحاد لتأكد لديك السر الذي جعل هذا يحدث، فجميع فرسان الفريق لا يحملون قنينات الماء، وهذا لا يدل إلا على شيء واحد ، أن الأزمة التي لمت بنا قد أصابت القرى المجاورة أيضا..
فهل ترى بعد كل هذا لزوما للحرب؟!!
بقي (شجاع) مذهولا من تحليل شاكر المنطقي، قبل أن يقول في رعب وقد فهم خطورة الموقف:
- يا إلهي إن منطقك سليم تماما، ولو لم نشكل اتحادا كبيرا يستطيع بسط سيطرته على مجرى النهر الذي يمد المدينة المجاورة بالماء، لأصبح خبر هلاكنا تتداوله الأجيال اللاحقة لمئات السنين و..
وفجأة دوى الصوت عبر مكبرات المسجد المهجور، صوت يؤكد قائله أن الكارثة عامة في البلاد- حسب ما تم بثه قبل قليل عبر الإذاعة الرسمية- وأن
رئيس الدولة يهيب بمواطنيه العودة للمساجد حالا، للصلاة والتضرع إلى الله ليرفع الكارثة عن البلاد،ويأتي بالماء المعين..
وعشيا بينما القوم عاكفون في المساجد، اقتحم فجأة صبي مجلسهم صائحا:
- أبشروا.. هناك سحاب يتجه نحو بلدتنا..
وخارجا كان الجميع يهتفون مستبشرين:
- حمدا لله.. لقد استجاب الرب.. إنه سحاب لا شك ممطرنا..
أما (الحاج حمدون) فقد علت على وجهه سحابة من الحزن، وراح ينادي على فقراء القرية، ولما تجمعوا حوله صاح فيهم قائلا:
- إني أشهد الجميع أمامكم أن كل ما أملك من أراضي وخيرات فهو قسمة بينكم، وأنا أدعوا من هذا المنبر أن يحذو كل غني حذوي، فالخيط الذي يفصل في هذه اللحظات بين الموت بكرامة أوالحياة بسعادة، خيط رفيع للغاية..
وكان واضح من كلام (الحاج حمدون) أن ما سيحدث لا حقا سيغير شكل الحياة على الأرض..
بل الكون كله الآن على المحك..
******
تمت بحمد الله..
عبد الرحمان بن محمد