أما بعد،
فهذا كتابي الثالث إليك يا ابن التراب! لستُ مهتما أن يكون بلغك ما قبله أم لم يبلغ، ولست منشغلا أن تكون قرأتَ أم حرقت، وإنما أكتب إليك لأمرين اثنين:
فأما الأول فأكتب بلاغا ومعذرة إلى الله. فإن يكنْ مَلَؤُك يمالئون، فلن تعدم ناطقا بالحق يلسعُك لسانه. وإن يكن أعجبك قول بعض ذوي العمائم فقولنا والله لن يعجبك.
وأكتب ثانيا لِعلمي أن الغلبة لكلمة الحق مهما استطال السوط، واستكبر الظالم وانتفخت أوداجه. أمَا علمتَ أن كلمات الصدق الطالعة من فمِ سقراط ما زالت محلقة مع النسيم؟ أما علمت أنها تحطُّ هنا وهنالك في كل حين؟ يا لِغُصَّتك أيها الشوكران! خِلْتَ سُمَّك سيُفني الحكيم، فإذا بكلماته المدوية أمام قضاة الجوْر وشهود الزور ما زالت تقرع الأسماع. مَن حكم أثينا؟ من قرر الإعدام؟ ومن نطق بالحكم؟ مُنكَرون، منكرون، لا أحد يَذكرهم.
أمَا بلغك قولُ سيد قطب: "لن أشتري الحياة بكذبة لن تزول"، حين ساومه المساومون قائلين "ولكنه الموت يا سيد"؟ أما علمتَ أنه ردَّ ردَّ الواثق بالله: "إن السبابة التى ترتفع لهامات السماء موحدةً لَتأبى أن تكتب رسالة تأييدٍ لطاغية"؟ فانظرْ كيف بقيَ "سيد" وزال "بدران" وأسياده! أما قطب فلم يكن له سيدٌ غير الله جل وعلا. واللهُ باق لا يموت، ولذلكم يبقى الحق، إذ بقاؤه من بقاء الله. أما الباطل فكان زهوقا. بقيَت "الظلال"، وبقيت "المعالم"، وبقيت الكلمات الطيبات التي أراد المجرم ألا تكون، لكنَّ قدرَ الله غلاَّب.
ألاَ ما أصدق تشي غيفارا وهو يقول: "لستَ مهزوما ما دمت تقاوم". ولقد كان كذلك فعلا، لم ينهزم، ولم تُخرجه الرصاصات التي تلقاها من قلوب الأحرار في العالم كله. فلئن غاب جسد تشي فقد بقيت روح المقاومة سارية، وكيف لا تبقى وتدوم وهي تسمع تشي يقول "أينما وجد الظلم فذاك هو وطني". إن كلمات الحق خالدة، تتجاوز الأوطان والألسن والألوان.
إنه موقف الصدق، ومقام الحق، إنها الكلمة الطيبة، كتلكم الشجرة الطيبة التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. ولذلكم نزيدك كلام الحق كلما زدتنا دما. نزيدك صدقا كلما زدتنا سفكا. ونزيدك جرأة في الحق وصلابة، كلما ازددتَ تجبرا وتكبرا. نزيدك تشبثا بالحق وإيمانا كلما ازددت ضراوة وتوحشا.
إننا نكتب للتاريخ، لك ولكل ظالم جبار، نكتب للغد المشرق، حيث لا بشار ولا القذافي ولا صالح ولا مبارك ولا زين ولا أشباههم. نكتب لليوم الذي تسطع فيه أنوار الحق، تثبيتا للسائرين على الحق، ونصرة لكل حر أبي، وخذْلاً لأعداء العدالة والكرامة، وكشفا لسوءة المُرجِفين، والزبانية والمُمالئين، وفضحا لكل من رَكَن أو نافق أوداهن. إننا نكتب ونحن متيقنون من نصر الله. "كتب الله لأغلبَنَّ أنا ورسُلي". ولكنك أيها الأسد لا ترى في هيجانك غير الباطل، لا ترى غير ما زين لك شيطانك، وما وسْوَسَت لك نفسُك الأمارة بالسوء. فما أجهلك يا من لم تتعظ بغيرك! وما أحقرك يا من أخذتك العزة بالإثم!
أما وقد مثَّلتَ وغدرتَ، وقتلتَ المرأة والصبي والشيخ الكبير، وأجهزت على الجريح، وقتلت أقواما في صوامعهم، وهدمت الصوامع ذاتها، ودهمت مجالس العزاء، ومنعت أن تمضي الجنائز إلى مثواها الأخير، فلا نراك إلا فاعلا ما فعل هرقل حين بلغه خبر الهزيمة، وقائلا ما قاله عند أبواب سوريا: "سلامٌ عليك يا سوريا، سلامَ من لا يراك بعد اليوم".
هذا وقد لاحت ألوية النصر، وأَذنَ الحقُّ للظفر بالسطوع، وللغمة أن تنكشف، وللجور أن يزول. نعوذ بك اللهم من سوء العاقبة وشر المنقلب.
والسلام على من اتبع الهدى.
08 غشت 2011