نظر الصبيُ إلى صورته الفوتوغرافية التي تضمنتها أوراق التحاقه بالمدرسة..سأل أباه عن سبب "شرشرة" حوافها بينما صورة زواج أبيه بأمه مستقيمة الحواف..أجاب الأب بقصة فحواها أن أحد المصورين القدماء فقد إحدى الصور وعندما وجدها بالقرب من جُحر الجرذان اكتشف أن حوافها قد "تشرشرت" عندما همّ الجرذان بالتهامها، فأعجب بشكلها الجديد، وقرر "شرشرة" حواف كل صوره التي راقت لزبائنه بعد ذلك.
...
كان من عادة الصبي أن يقرض بأسنانه "كُم" كل "بيجاما" جديدة يرتديها، لذا أسماه والده "الفأر الكبير" تمييزاً له عن أخويه الأوسط والأصغر، من هنا اعتقد هذا "الكبير"!!! أنه يمكن في يوم ما أن يتحول إلى فـأر حقيقي.
...
خاف من الفئران..كان يضم ركبتيه إلى صدره وهو نائم خشية أن تقرض أصابع قدميه..وفي المدرسة ازداد رعباً منها عندما سمع مدرّسته تهدد أحد رفاقه بأنها ستدهن جسمه بالعسل وتحبسه في "حجرة الفئران" إذا لم يتوقف عن إيذاء رفاقه..بعدها عاقبه مدرّس الجغرافيا عندما رفض الذهاب إلى حجرة الخرائط لإحضار واحدة منها خشية أن يكون وراء كل خريطة منها فأرا.
...
عندما عرف أن القطط تأكل الفئران أحب القطط، وتمنى أكثر من مرة أن يتحول إلى قط حتى تخشاه الفئران..
...
في أحد الأعياد خرجت الأسرة كلها للتنزه..التقطت لها صورة فوتوغرافية جماعية أكد "الفأر الكبير" علي مصورّها أن تكون مستقيمة الحواف..هذه الصورة احتفظ بها الوالد فوق منضدة إلى جوار سريره، بعدما غادرت الأم الدنيا تاركة له أولاده الثلاثة.. يوم قرر ألا يتزوج حتى لا يحضر لهم زوجة أب.
...
من كَدّه استطاع أن يشترى منزلاً قديماً مكوناً من ثلاثة طوابق، في كل طابق شقة واحدة وغرفة متواضعة فوق سطحه..استقر في الطابق الأرضي..أفهم أبناءه أنهم عندما يكبرون سيكون لكل منهم شقة خاصة به..بعد أن بدأت تباشير أزمة السكن تلوح في الأفق .
...
كان أبا مثالياً..أمومة في أبوة، وأبوة فيها أمومة..وفي عمله اختير أكثر من مرة موظفاً مثالياً..أدخل أولاده الثلاثة كلية التجارة واحداً تلو الآخر..وفور تخرج "الفأر الكبير" بحث له عن زوجه..استبدل معاشه وجهز الشقة..ويوم زواجه فرح العجوز لأول مرة منذ وفاة زوجته.
...
مضت السنون ليتخرج ابنه الثاني فجمع الكهل كل مدخراته وكرر معه ما فعله مع ابنه الكبير..بعدها بسنوات قليلة غادر الابن الأصغر حياته الجامعية، فأخلي العجوز الطيب شقته وأقام في حجرة السطح .
...
انفتحت الأمور وتغيرت الأحوال، وأصبح كل شيء يقدر بالمال..والعجوز يتحمل مشقة الصعود والنزول في مقابل اطمئنانه علي أولاده...وأحفاده..وللصلاة جماعةً ..خاصة صلاة الفجر..أحب الصلوات إلى قلبه..فقد غادرت زوجته الحياة وصوت آذانها يجلجل في سماء المنطقة
...
لم يعد أحد من أبنائه الثلاثة يستيقظ فجراً ليصلي مع أبيه كما كان يفعل وهو صغير..لم يعد أحد منهم يكلف نفسه مشقة الصعود إلى حجرة والدهم للاطمئنان عليه مثلما كان يفعل من قبل..اكتفوا بالاتصال التليفوني.
...
كانت أول "مكافأة" تلقاها الوالد من أبنائه رغبة جماعية في بيع المنزل لاستخدام ثمن الأرض في عمل مشروع استثماري كبير..رفض العجوز اعتزازاً بذكرى أم أولاده..غضب الأولاد..انتقلوا إلى شقق انفتاحية فارهة..ظل الأب في حجرته المتواضعة فوق السطح ورفض الإقامة في شقة أي منهم.
...
أحيل إلى المعاش فاستقر في حجرته العلوية ..بعد أن رزقه الله بـ "مخلص" ..شاب يتيم الأبوين تعرف عليه في المسجد..كفاه مشقة النزول لقضاء حاجاته..اعتبره ابنه..واعتبره الشاب أباً له..وفي كل ليلة كان العجوز ينام محتضنا الصورة الفوتوغرافية المستقيمة الحواف..التى تضمه وزوجته وإلى يمينها أبناؤهما الثلاثة وتحت المنضدة تلهو مجموعة من.....الجرذان .
...
في فجر أحد الأيام ضربت المدينة هِزة أرضية شديدة..هرول الجميع للبحث عن سكان منزل قديم مكون من ثلاثة طوابق انهار عن آخره..اتصل مخلص بأبناء العجوز..حضر الثلاثة..سألوا مخلصا عن أباهم..تبدد قلقهم القليل عندما تذكروا أن أباهم يغادر مسكنه يوميا لأداء صلاة الفجر جماعة..غطت الفرحة العارمة وجوههم بعد انهيار المنزل لقرب تحقيق حلمهم الاستثماري الكبير.
...
أخبرهم مخلص أن أباهم لم يعد يصلي الفجر جماعة..بدأ "البلدوزر" في رفع أنقاض المنزل المنهار..فجأة صرخ المشرف علي عملية الإزالة آمرأ بالتوقف عن العمل..فقد ظهرت من بين الأنقاض يد رجل عجوز ممسكة بصورة فوتوغرافية..وعندما تمكن رجال الإسعاف من الحصول عليها من تلك اليد القابضة عليها بشدة، تبين أن الجرذان قد أكلتها كلها ....ماعدا الجزء الذي تشغله صورتا العجوز وزوجته.
--------------------
مهداة إلى الفاضلة:جورى