"النزق حالةٌ , وطبعٌ بالإنسان مقدرٌ , وليس بيدي تغييره ..هكذا خلقت !!!"
بهذه العبارات , يبرر أبو زكريا الرجل الكهل الأشقر , نزقه الزائد وثوراته الفريدة من نوعها,والمرافقة له منذ نعومة أظفاره .
كثرت المواقف , التي سبب له فيها هذا الطبع ولأسرته الإحراج الشديد . فتارةً ثورته على أطفال الحي , وشتمهم بأقذع الألفاظ ,وتارةً على سائق الحافلة العامة , وأخرى على طاقم إداريي المدرسة التي يدرس بها بعض أحفاده ,وغيرها .. وغيرها ..!! ناهيك عن ثورات الغضب الصاخبة , التي كان يعلنها في المنزل , في كل حين على أفراد الأسرة , كباراً وصغاراً , على السواء .
وتؤكد أم زكريا , أن حالة زوجها هذه تزداد مع التقدم بالعمر , لدرجةٍ أصبح وضعه فيها لا يطاق .
ومع ذلك فإنها تحاول قدر المستطاع التعايش سلمياً مع الحالة , ولكنها تبدو قلقةً دوماً , عندما يكون زوجها في الخارج , وتتوقع دائماً حدوث المشاكل , على الرغم من أنه وعد كثيرا (عندما تسنى له أن يكون هادئاً) أن يروض جموح أعصابه قدر استطاعته .
لكن مشكلته مع الخياط أبي عادلٍ ,والمشهود له بالكفاءة وحسن الخلق , تبقى عالقةً في أذهان العديدين , وعلى رأسهم أبو عادل بالطبع ...!! ففي موقفٍ غريبٍ واستثنائيٍ , ذهب أبو زكريا مرةً إليه , حاملاً كيساً مهترئاً يكسوه الغبار , أخرج منه قطعة قماشٍ , يبدو أنه يحتفظ بها منذ زمنٍ موغلٍ في القِدَم . ولأنه قد وعد أهله غير مرةٍ , بتغيير نمط تعامله مع الآخرين , فإنه بادر الرجل بابتسامةٍ مصطنعةٍ,وعباراتٍ متكلفةٍ تشبه التهذيب واللطف !!
وفرد العجوز قطعة القماش أمام أبي عادل , وقال : "لو سمحت ...!!! أريد أن تخيط لي هذه القطعة الغالية , (بدلة سفاري)" وقد كان هذا النمط من اللباس , شائعاً جداً .. وبدون أن يتيح الفرصة للرجل بالرد أو المبادرة إلى اتخاذ إجراءاته المعتادة من قياسٍ وغيره , تابع العجوز قائلا, وبلهجةٍ أكثر صرامةً :" أرجوك ... لا أريدها فضفاضة , وأيضاً لا أريدها ضيقة "
وبذات الظروف السابقة , لم يتسن لأبي عادل الرد , لأن العجوز عاجله بحدةٍ , وبأسلوبٍ أسرع في الحديث : "وانتبه جيداً , وفتِّح مخك ...!!! أنا لا أحب السحَّاب في البنطال , لأن منظره قبيحٌ لا يعجبني .. أريد أزرارا" . ثم تحولت لهجته إلى ما يشبه التهديد :" سأقولها مرةً واحدةً .. لا أريد أن تكون السترة طويلةً , والبنطال ضيقاً , كلباس المهرجين ! ولا أريد ممر الحزام عريضاً , كلباس الشبان المخنثين السفلة قبحهم الله , الذين يبدون كالراقصات " ...!!! وبدأت أوداج العجوز بالانتفاخ , ومالت بشرته للاحمرار , وشرع حاجباه بالرقص يمنةً ويسرةً , وتصاعدت اللهجة , والخياط يراقب مندهشاً فاغراً فاه فقط ...!!! وأصبح الوضع يوحي للمارة خارج المحل , بأن شجاراً في الداخل على وشك الحدوث . وتابع أبو زكريا حديثه ذارعاً المكان جيئةً وذهاباً , مرتعداً ,وأصبح يرعد ويزبد ...!!!! فقال :" أكيد سوف تجعل الكمَّ قصيرا كالعادة أو البنطال عريضاً من الأسفل .." والرجل لم ينبس ببنت شفةٍ . وتابع الحاج صائحاً :" كيف أفهِّم رجلاً غبياً , ما يجب أن يفهمه أصلاً , آهٍ على خياطي زمان , أنتم اليوم لا تجيدون إلا إفراغ جيوب الآخرين من المال , ستشوه لي قطعة القماش الثمينة هذه ومن المؤكد أنك ستجعل منظري مضحكاً أمام الناس , خسئت والله أيها الفاشل"
ثم وبشكل فجائي !! يهجم باتجاه الطاولة , هائجاً مائجاً كالنمر الجائع يهاجم فريسته , متناولاً قطعة القماش ويخرج صائحاً :" لعنك الله أنت كغيرك من الخياطين السفلة الجهلة , لا تعلمون شيئا , لعنكم الله , ولعن من علمكم الخياطة " ثم تفوه ببعض الشتائم التي يخجل القلم من ذكرها .....!!!! وغادر مقتحماً حشود المتجمّعين !!
في هذه اللحظات , ارتسم على محيّا أبي عادل , علاماتٍ من الدهشة , لو قُدِّر لرسامٍ أن ينقلها بحرفةٍ إلى لوحةٍ , لكانت لوحته أشهر من ( الموناليزا) ربما ..!!
وما زال الخياط أبو عادل , وحتى الساعة , كلما تذكر هذه الحادثة , ترتسم ذات القسمات على وجهه , إلى أن يجد تفسيراً منطقياً لما حدث ...!!!!!!!!!!!!!!!!!!!