قَبْلَ الفَجْرِ بِقَليل
مَكَثَ عِنْدَها أكْبَرُ أَبْنَائِها إلى سَاعَةٍ متأخِّرَة من اللَّيل ، و ودّعها بَعْدَ أنْ كرَّرَ على مَسَامِعِهَا ذاتَ الأعْذَارِ مُبَرِّرًا
غيَابَ إخْوَتِهِ و أَخَواتِهِ عنْها .
بَدَأت الحَركة تَخِفّ شَيْئا فشيئا إلى أنْ عمّ الهُدوء .و انطفأت الأنوار، إلا خيْط نورٍ كان يَنْبَعِثُ من غرفَة المُداومة .
بينما أطلَقَتِ العَنان لفِكرها تُعيد تَرتِيبَ ما جَرى من أحداث في ذلك اليوم ، تُعطي حجْما أكبرَ لكل التَّفاصيل
كي لا تَشْعُرَ بفَراغ ليْلِها و طولِه ، إذ ِبهِ دَخَل الغُرْفَة و عَبَرَهَا ببطءٍ إلى أَنْ وَصَلَ إلى سريرها ،
و وَضَعَ يَمينَهُ على رأسِهَا و قَال :
كيْف حالُك ؟؟ هَلْ أَنْتِ بِخيْر ؟؟
نظرتْ إليْه بلَهْفَةٍ و رَدَّت :
الآن ، الآنَ أنا بخيْر ، لكِني بِمُجَرَّدِ انْصِرَافِكَ أَعُودُ كَما كُنْت .
ضمّ يديْهَا البارِدَتَيْنِ بيْنَ رَاحَتَيْهِ و قَال :
لا يَا حبيبَةَ عمْري ، هذه المَرَّة لَنْ أتْرُكَك .
كَأَنَّ ثوبَ العافيةِ أرخى أسْتَارَهُ عليْها و دَبَّتْ الحياة في وَجْنَتَيْها و سَرَتْ في عُروقها ، فأَعادتْ إليْها شبَاب رُوحِها ....
جَلَسَ بقُربِها يتَسامَران ، يَتَذَّكَران مَواقفا مِن حيَاتِهِما ، حدَّثَتْهُ عَنْ لُطْفِ المُمَرِّضَة و عِنَايتِها بِها ،
و حدّثَتْهُ أيْضا عن أولادِها و عَنْ زِيارَة ابْنِها تِلْكَ اللَّيْلة،
وعن الحَرَجِ الذِّي بَاتَتْ تَراهُ في أَعْيُنِهِمْ كلَّما تخَلَّفوا عنْ زِيَارَتِها ،،،
شَكَتْ إليْهِ الأَوْجاع التِّي تَنْتَابُها و اسْتَسْلَمَتْ للبُكاءِ ، كلُّ ذلكَ و هوَ يُنْصِتُ إليْها
مُنْتَبِهًا مواسِيا .
مَرَّتْ ساعاتُ اللَّيل بِسُرْعَة ، و قُبَيْلَ آذان الفَجْرِ نَهَضَ منْ مَكانِهِ
و مَدَّ يَدَهُ إليْها ليُسَاعِدَها :
هيّا ، يَجِبُ أنْ نَذْهَبَ الآنَ ، معًا
تَبَسَّمَتْ و تمَسَّكَتْ بيَدِهِ بكلِّ ما بَقي في جسَدِها النَّحيفِ مِنْ قوَّة .
في الوقْتِ المُعْتاد ، قدِمتِ المُمَرِّضَةُ كي تُوقِظَها لأداء الصَّلاة ، إقْتَرَبَتْ مِنْها ،
مَرَّرَتْ بِرِفْقٍ أَصَابِعَ يَدِها على عيْنَيْها ، و غادَرَتِ الغُرْفَةَ و دَمْعُها رَقْرَاق .