الدور الطاهر
في المكتب الفرعي لمنظمة التحرير الفلسطينية في صيدا، اجتمع المدير بالضابط الفلسطيني الموفد من الرئاسة في بيروت، حيث أطلعه على تفاصيل حياة أمينة المفتي في محبسها الانفرادي بكهف السعرانة وكان الضابط يصغي اليه باهتمام ليستكمل النقاط التي يريدها فمهمته كخبير في الشؤون المعنوية تتطلب منه ذلك خاصة .. و الوقت يمضي سريعاً بعدما وافقت المنظمة على الموعد المحدد في لارناكا. و بعد الاجتماع انطلقت السيارة الجيب العسكرية تقل الضابط الى كهف السعرانة.
كان الطريق المتعرج الضيق قد نحتت أجزاء منه من الجبل، فيستقيم منحدراً أحياناً ثم يلتوي فجأة في صعود والتفاف حول الجبل. و من بعيد .. بدا الكهف الموحش كنقطة سوداء في بطن الجبل السامق، وكلما اقتربت السيارة شوهد جنود الحراسة المشددة بأسلحتهم الأوتوماتيكية في حالة التأهب. وكانت الأكمنة المتحركة تزيد الأمر حساسية واهتماماً، حتى يخال للبعض أن بالمنطقة مفاعلاً نووياً سرياً. و عندما دلف الضابط الى الكهف، كانت الإضاءة القوية تكشف دهليز الفوهة وتظهر ملامح الوحشة وغموض الطبيعة. و في نهاية أحد الممرات .. تكورت كومة من عظام .. شدت أطرافها الأربعة بالجنازير. اقترب منها الضابط متفحصاً، فرمقته بنظرات تفيض رعباً .. لكن وجهه الهادئ سكّن بعض الخوف لديها، وحاولت أن تستقرئ ما جاء لأجله ففشلت .. و تملكها ألف هاجس وهاجس .. و أطرقت الى الأرض ثم همدت أنفاسها قليلاً وقالت في صوت خفيض كأنه جاء من قرار:
هل حان وقت الإعدام ..؟
اقترب منها الضابط أكثر وأكثر، لكي تصلها كل كلماته وقال:
سنطلق سراحك بعد أيام .. و ستعودين الى إسرائيل مرة أخرى.
ارتعدت أطرافها المقيدة فارتج بدنها كله، وجحظت عيناها الغائرتان في تحفز لما يقوله الضابط الذي أردف:
بعد عشرة أيام من الآن ستكونين حرة في إسرائيل، ويجب أن تكوني على يقين من أننا لم نعاقبك ولم نؤذك بقدر ما أذيتنا. فنحن أناس مسالمون سعدنا بوجودك ذات يوم بيننا، ووثقنا بك بلا حدود على اعتبار أنك عربية .. مخلصة، وعن حب فتحنا لك قلوبنا .. وكل أبوابنا الموصدة في وجه الآخرين، وما تطرق إلينا الشك فتسببت بفعلتك في مقتل عشرات الأبرياء من شبابنا .. و انخلعت على يدك قلوب أمهات ثكالى .. فقدت الابن والزوج .. و البسمة.
انهمرت دموع أمينة المفتي ، ولم يدر الضابط أهي دموع الحسرة والندم، أم أنها دموع الفرح بنجاتها.
وأكمل الضابط: هذه الأرض التي أنت عليها الآن سيدتي أرض عربية، وتلك الأرض التي ولدت فوق ترابها أرض عربية، وكذلك الأرض التي بعت دينك و وطنك وأهلك لأجلها .. أيضاً .. عربية، عربية مغتصبة .. سليبة، ستعود حتماً ذات يوم لأصحابها، ربما يتحقق ذلك بعد جيل .. أو جيلين .. أو ثلاثة، أو أقل من ذلك بكثير.. و نحن هنا الآن لنجاهد بدماء أبنائنا، ولن نكف عن الجهاد حتى نموت دونها .. و أنت .. ما جئت الى هنا سيدتي إلا لقتلنا دونما ذنب بحقك اقترفناه. فلا تظنين أن الأرض التي ستعودين إليها سترحب بك .. لكن تأكدي أن في القدس وحيفا ويافا وبيت لحم ونابلس .. في كل فلسطين ستبصق عليك الأرض مع كل خطوة، حتى وإن متّ فستلفظك قرفاً في قبرك .. وسيأبى دودها الطاهر أن يرعى بجثمانك ..
وعندها .. ازداد نحيبها قسوة .. و علا نشيجها مع صعود صدرها الضامر وهبوطه، وانعقد لسانها فلم تقو على الكلام لاصطكاك أسنانها، ورعشة شفتيها التي غزت الوجه المتقلص الشاحب. و قال الضابط آمراً جنوده قبلما ينصرف:
فكوا قيود ضيفتنا وقدموا لها الشراب وأشهى الطعام
الحلقة الأخيرة قريباُ