المقامة التاريخية
بهجت عبدالغني الرشيد
باقة من المختارات التاريخية ، أهديها لقلوكم النقية ، فاقبلوها مني ، واغفروا لي خطئي وزللي ..
كان عبدالوهاب بن نصر المالكي ، الفقيه القاضي الألمعي ، من أعيان المالكية في بغداد الرشيد ، صاحبة المجد التليد ، وكان وافر المحصول ، له تصانيف في الفروع والأصول ، لكن ضاقت بغداد به ، لإملاق ألمّ بحاله ، فخلع أهلها ، وودع ترابها وماءها ، فعندما أيقن أهل بغداد أنه ذاهب عنهم لا محالة ، خرجوا يشيعونه ، فقال لهم ، كأنه ينعى لهم حالهم : لو وجدت بين ظهرانيكم رغيفين كل غداة وعشية ، ما عدلت ببلدكم بلوغ أمنية ، وأنشد يقول:
بغداد دار لأهل المال واسعة ... وللصعاليك دار الضنك والضيق
ظللت حيران أمشي في أزقتها ... كأنني مصحف في بيت زنديق
وفي طريقة إلى مصر ، زينة كل عصر ، اجتاز بمعرة النعمان ، فاستضافة أبو العلاء المعري صاحب الشعر والبيان ، وفي ذلك يقول:
والمالكي ابن نصر زار في سفر ... بلادنا فحمدنا النأي والسفرا
إذا تفقه أحيا مالكاً جدلاً ... وينشر الملك الضليل إن شعرا
وعندما وصل إلى مصر حمل لواءها ، وملأ أرضها وسماءها ، تناهت إليه الغرائب ، وانثالت في يده الرغائب ، فحسنت حاله ، وحصل له سعة في عيشه ، فسبحان من أقنى وأغنى ، وجعل بعد العسر يسرا ..
لكن ماء الشوق لبغداد عنده لم ينضب ، فصار يغالبه فلم يغلب ، كواه الحنين ، وأضناه البين ..
سلام على بغداد في كل موطن ... وحق لها مني سلام مضاعف
فوالله ما فارقتها عن قلى لها ... وإني بشطي جانبيها لعارف
ولكنها ضاقت علي بأسرها ... ولم تكن الأرزاق فيها تساعف
وكانت كخل كنت أهوى دنوه ... وأخلاقه تنأى به وتخالف
وإذا الأجل حضر ، لا مهرب منه ولا مفر ، وصاحبنا اشتهى طعاماً فأكله ، فبلغ الكتاب أجله ، إذ احدث به مرض الموت ، والموت لا يعرف باريس ولا حضرموت ، فكان يتقلب ويقول : لا إله إلا الله عندما عشنا متنا .
وذكر له العالم النحرير ، ابن كثير ، في موسوعته المفيدة ، البداية والنهاية ، شعراً رائقاً ، جميلاً مبدعاً ، يجمع فيه بين الفقه والغزل ، مما يدلّ على سعة علم وفضل .
ونائمة قبلتها فتنبهت ... فقالت تعالوا واطلبوا اللص بالحد
فقلت لها إني فديتك غاصب ... وما حكموا في غاصب بسوى الرد
خذيها وكفي عن أثيم طلابة ... وإن أنت لم ترضي فألفاً على العد
فقالت قصاص يشهد العقل أنه ... على كبد الجاني ألذ من الشهد
فباتت يمينيي وهي هميان خصرها ... وباتت يساري وهي واسطة العقد
فقالت ألم تخبر بأنك زاهد ... فقلت بلى ما زلت أزهد في الزهد
واليوم كم هجر بغداد من عقول ، عباقرة في المعقول والمنقول ، حفاظاً على النفوس ، وحتى لا ينخلع من الهام الرؤوس ، فالقتل وصل للعريس والعروس ، يوم الزفاف ، واجتماع الأحباب والأضياف ، ووصل للمساجد ، حيث العابد والساجد ، وصار يقطف طلاب المدارس والجامعات ، فلا حول ولا قوة إلا بالله رب الأرض والسماوات .
وذكر أن علي بن الجهم كان بدوياً جافياً ، قدم على المتوكل أول قدمة مادحاً ، فأنشده قصيدة من الخفيف ، لطيف !
أَنتَ كَالكَلبِ في حِفَاظِكَ لِلوُد ... د وَكَالتيسِ في قِرَاع الخطُوبِ
أَنتَ كَالدلو لاَ عَدِمتُكَ دَلوا ... مِن كِبَارِ الدلا كَثيِر الذنُوبِ
فعرف المتوكل قوته ، وحسن قصده ، وخشونة لفظه ، وانه لم يتكلم إلا بلسان حاله ، فهو رجلٌ من البادية ، حياته خيمة وبعير ، وخروف وحمير ، وكلب وحفنة شعير ، فأمر له المتوكل بدار في الرصافة ، على نهر دجلة ، من الجسر قريبة ، وإلى القلب حبيبة ، حيث الحدائق الغناء ، والبساتين الفيحاء ، والمياه الجارية ، والوجوه المليحة ..
ولما عاش في هذه الأجواء ، روضة خضراء ، وظل وماء ، لطف طبعه ، وتغير لغته ، ورقت حاشيته ، وانفتحت قريحته ، وصار ينسج المعاني البديعة ، وينشد الأشعار الرقيقة البليغة ..
عيون المها بين الرصافة والجسر ... جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
أعدن لي الشوق القديم ولم أكن ... سلوت ولكن زدن جمراً على جمر
سلمن وأسلمن القلوب كأنما ... تشك بأطراف المثقفة السمر
خليلي ما أحلى الهوى وأمره ... وأعرفني بالحلو منه وبالمر
كفى بالهوى شغلاً وبالشيب زاجراً ... لو أن الهوى مما ينهنه بالزجر
بما بيننا من حرمة هل علمتما ... أرق من الشكوى وأقسى من الهجر
وأفضح من عين المحب لسره ... ولا سيما إن أطلقت عبرة تجري
وما أنس بالأشياء لا أنس قولها ... لجارتها ما أولع الحب بالحر
فقالت لها الأخرى فما لصديقنا ... معنى وهل في قتله لك من عذر؟
فقالت أذود الناس عنه وقلما ... يطيب الهوى إلا لمنهتك الستر
وأيقنتا أني سمعت فقالتا ... من الطارق المصغي إلينا وما تدري
فقلت فتى إن شئتما كنتم الهوى ... وإلا فخلاع الأعنة والعذر
ويوم كنا نلتزم دين الله الحنيف ، أنجبنا كل عاقل حصيف ، فكان ابن جرير ، صاحب التفسير ، وأبو حنيفة ومالك والشافعي ، وجنيد وابن تيمية والغزالي ، وابن حنبل احمد ، صاحب المسند ، ضربنا خيامنا في كل الفنون ، والعالم يومئذٍ في الجهل مسجون ، ومما جاء في الأخبار ، في سيرة البطل المغوار ، كان يا ما كان ، في قديم الزمان ، يوم كنا نخاطب الغيوم ، ونسهر مع النجوم ، كان هناك خليفة اسمه هارون الرشيد ، صاحب رأي وملك شديد ، ولا تسمع ما جاء في ألف ليلة وليلة عنه ، من تشويه صورته وسمعته ، فهو كتاب قصص وخيالات ، وأوهام وخرافات ، ونحن أمة الأسانيد والتمحيص والتدقيق ، والفهم الدقيق ..
وعلى كل حال ، ولا أريد إطالة المقال ، أرسل هذا الخليفة إلى شارلمان بهدية ، وهي عبارة عن ساعة عجيبة ، وعندما وصلت عندهم ، صاروا في توهم وعدم فهم ، قالوا هي سحر ، وهذا يوم عسر ، ظنوا أن فيها شيطان يحركها ، وكانوا على جهل بعلم الميكانيكيا ، فلما جنّ الليل ، وبعد القال والقيل ، أتوا بالفأس والسكين ، فراغوا عليها ضرباً باليمين ، ليطردوا منها الجان ، ويناموا مطمئنين البال والوجدان ، فما وجدوا الجان ولا الشيطان ، بل آلات في غاية الإتقان ، فطلبوا من شارلمان ، أن يرسلها إلى الرشيد لإصلاحها ، فاستحى من صنيعهم فلم يرسلها .
فسبحان من غير الحال ، والأيام دول ، فانظر كيف كان الغربيون يقلدوننا ، منبهرين بحضارتنا ، حتى أن احدهم كان إذا أراد أن يبرز ثقافته ، وضع في كلامه بعض الكلمات العربية ، واليوم لا تفهم الكلام العربي ، إلا بمعجم مصطلحات غربي .
ولكن الفتى العربي فيها ... غريب الوجه واليد واللسان
لأننا صرنا نقلد الأمريكان والانكليز ، ( هاي و كود مورنينك و بليز ) ، وهجرنا لغة القرآن العظيم ، وسنة نبينا الكريم ، فضعنا في المتاهات ، وهيهات أن نخرج منها هيهات ، إلا بالرجوع إلى النبع الصافي ، والأصل النقي ، فنسأل الله تعالى التوفيق والسداد ، وأن يلهمنا الأمر الرشاد ..
وكان لأبي الحسن علي بن أحمد الفالي ، كما حكى ذلك التبريزي ، كتاب الجمهرة لابن دريد اللغوي ، فألمّ به حاجة ، فاضطر إلى بيعه ، وأشقّ شيء على العالم بيع كتبه ، فهو أنيسه ورفيقه ، وصديقه وخليله ، يقضي معها الليالي الطوال ، فيزيل عنه الجهل والضلال ، وبها يتعرف على البلاد وأحوال الرجال ، وبها يجد السحر الحلال ، وعلى كل حال ، باعه مكرها ، فاشتراه منه الشريف المرتضى ، بستين دينارا ، فلما فتحه ، وتصفحه ، وجد مكتوباً فيه بخط صاحبه ، أبياتاً يعبر فيها عن معاناته ، وأسفه على كتابه ..
أنست بها عشرين حولاً وبعتها ... لقد طال وجدي بعدها وحنيني
وما كان ظني أنني سأبيعها ... ولو خلدتني في السجون ديوني
ولكن لضعف وافتقار وصبية ... صغار عليهم تستهل شؤوني
وقد تخرج الحاجات يا أم مالك ... كرائم من رب بهن ضنين
هؤلاء كانوا يعرفون قيمة الكتاب ، وحالنا من أعجب العجاب ، أحدنا لا يستطيع دخول الباب ، من كثرة أكله للكباب ، والعقل فارغ ، والقلب زائغ ، وإذا رأيته تعجبك جسمه وقامته ، وإذا تكلم زهدت به ، ورثيت حاله ، نسأل الله العفو والعافية ، في الدنيا والآخرة . ومن أشعاره :
تصدر للتدريس كل مهوس ... بليد يسمى بالفقيه المدرس
فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ... ببيت قديم شاع في كل مجلس
لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتى سامها كل مفلس
ونحن إذ نتكلم عن التاريخ الماضي ، لا ننسى المستقبل الآتي ، ومن كان الغناء على أمجاد الماضي ديدنه ، وحاضره يرثى له ، فاقرأ عليه السلام ، أو أيقظه من الأحلام .
وخير الناس ذو حسب قديم ... أقام لنفسه حسباً جديدا
وشر العالمين ذو خمول ... إذا خاطبتهم ذكروا الجدودا
أيها الكرام ، لكم مني أجمل سلام ، افتح لكم هذه الصفحة ، لتكتبوا فيها قصة وعبرة ، وانسجوها كما نسجت ، فإني مما نسجت استفدت ، فاقطف لنا يا أخي ، وردة من البستان الزاهي ، وعطر بها الأجواء ، وأجرك على الله رب الأرض والسماء ..