الله أم الكاميرا ؟ ..
جلست هناك في مقعد من مقاعد استعلامات إحدى عمادات الجامعة بعدما طلب مني الموظف الانتظار ربع ساعة لإنهاء المعاملة ، وبدأت ألاحظ المكان الذي أدخله أول مرة ، يميناً ويساراً ، واستوقفتني ( كاميرتا مراقبة ) منصوبتان عل السقف ، إحداها تراقب المدخل والثانية تراقب صالة الانتظار ..
أخرجت ( موبايلي ) ولعبت قليلاً لعبة ( الكولف ) ، ثم قفزت في ذهني إحدى مقالات الدكتور عمادالدين خليل قرأتها قبل أكثر من عشر سنوات في كتابه ( مؤشرات إسلامية في زمن السرعة ) حيث كانت المقالة تتحدث عن خطوط الدفاع الأربعة التي تعترض الإنسان إذا ما حاول أن يتجاوز المشروع ويمارس الظلم ، وأن أول خط من هذه الخطوط التي سوف تعترضه هو ( الضمير ) ..
الضمير .. المراقبة الذاتية .. استحضار مراقبة الله تعالى ..
كاميرات المراقبة باتت ظاهرة منتشرة بشكل ملحوظ وربما مقلق في الدول ، وخاصة الغربية منها ، حيث صار إنسان القرن الواحد والعشرين وتحت دعاوى الحريات ، أصبح مراقباً في حركاته وسكناته ، في الأسواق والمولات والسوبر ماركت والدوائر والمستشفيات والمدارس والشوارع .
وفي العراق تعرفنا على هذه الثقافة الدخيلة بعد سنوات من الاحتلال البغيض .
ولست هنا أريد إصدار فتوى جواز أو منع تلك الكاميرات ، فلست أهلاً لذلك ، كما لا أريد أن أعرض ايجابيات وجودها أو سلبياتها ، فلا شك من وجود دواعي وأسباب لاستخدام الكاميرات في اكتشاف الجريمة والمخالفات المرورية ومراقبة أداء الموظفين ، وكذلك لا شك في سلبيات قد تحملها إذا ما سُلطت على رقاب العباد بشكل تعسفي وجائر ، بحجة فوبيا الأمن ..
والسؤال الذي يبدو على جانب من الأهمية هنا ، لماذا تحول الناس من مراقبة الله تعالى إلى مراقبة الكاميرا ؟
وهل يمكن أن تحل تلك الكاميرات تلك الإشكاليات الدينية والفكرية والأخلاقية فعلاً ؟ وخاصة بتطور العلوم والتكنولوجيا وحتى آليات الجريمة .
وهل سيأتي اليوم الذي سنضع فيه كاميرات مراقبة في غرف بيوتنا على حساب تقلص فكرة المراقبة الإلهية ؟
وهل الأصل هو الحد من الممارسات المنحرفة بالتوعية والتثقيف أم بالكاميرات والمراقبة ؟
أسئلة تحتاج حقاً إلى أجوبة فعلية ..
حدثني جدي .. الذي تعلمت القرآن على يديه وكان يلوح بعكازته تأديباً لنا كأنها الدرّة العمرية .. حدثني أن صديقه كان نائماً في البرّ أيام الحصاد ويوم كان الناس على صلة وثيقة بالطبيعة ، وقد كان له ثلاثة أشهر لم يرَ أهله، أنه أحس بحركة في الجوار ، وإذا بامرأة في زينتها تسعى مع حمارها ، وقد كانت النسوة تخرج وقت الفجر لجمع الحطب ، لكنها أخطأت الوقت فخرجت في عتمة الليل على ضوء القمر ، وعندما استفسر منها قالت أنها عروس منذ ثلاثة أيام خرجت تحتطب ، فما كان من هذا الرجل الأمين إلا أن جهزها بالحطب ونصحها بأن لا تخرج قبل التأكد من وقت الاحتطاب ...
أظن الأمر لا يحتاج إلى تعليق ..
فأين كانت الكاميرات لحظتها ومخابرات CIA والانتربول العالمي ؟
كل ذلك لا يحتاج إذا كانت المتحسسات ( Sensors ) الإيمانية يقظة تستشعر رقابة الله تعالى من عليائه ..
ولكن ـ بالعودة إلى مقال الدكتور عمادالدين خليل ـ يوم يتجاوز المرء ضميره ، سيعترضه خط الدفاع الثاني ، الأنظمة والمؤسسات وكاميرات المراقبة ، وإذا تجاوزه سيعترضه خط الدفاع الثالث ، السنن الطبيعية التي ما تلبث أن تتحرك بأمر الله تعالى لكي تضرب ضربتها وتنزل قصاصها العادل ، وإذا ما أفلت الإنسان من آخر خطوط الدفاع الأرضية ، فإنه في الأخير لن يستطيع الإفلات من قبضة الله تعالى في اليوم الآخر ..
وتخبرنا الروايات أن المؤمنين الفاتحين أرسوا إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه كنوز كسرى وفارس ، فلما صارت بين يديه قال : إن قوماً أدوا هذه لأمناء .
فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه : يا أمير المؤمنين ، عففت فعفوا ، ولو رتعت لرتعوا .
قوم أمناء .. يقطعون النهر والفيافي والوديان .. ليلاً ونهاراً .. دون أن يخطر على بال أحدهم أن يمدّ يده على ما يغري غيرهم من لمعان الذهب .. قبل أن يكتشف الحسن بن الهيثم مبادئ اختراع الكاميرا بأكثر من 350 سنة .
سلام عليك يا عمر .. وسلام على درّتك .. اشتقنا لكما ..