عشقتها مذ كنت صغيرة ..
مغرمة كنت و لا أزال بأبطالها ..
هم رجال في زمن قل فيه الرجال ..
فرسان إباء من عصر مروءة مضى ..
و بما أني لا أستطيع صبرا على أحلام اليقظة .. فقد حلمت ..
و تخليت .. و رغما عني .. أزعجت كثيرين و طلبت منهم أن يطلعوا على تخيلاتي مكتوبة ..
أمي رافقت مسيرة قلمي في هذه القصة .. شجعتني ..
حثتني على الاستمرار .. فكتبت أكثر ..
فلها كل الحب و العرفان
ثم عرضت ما كتبته على أستاذي الكريم الأندلسي ..
فلم يبخل علي بتشجيعه و توجيهه .. فله جزيل الشكر
و اليوم أود أن أعرف رأيكم فيها ..
×××××××××××××
الفصل الأول
و تمضي الريح .. تتراقص فوق الكثبان المتناثرة
تحمل بين ذراعيها ذرات رمال محرقة
تقتبس حرارتها من أشعة الشمس الذهبية
تحمل رائحة بئر جافة .. حقل محترق .. شجرة منتزعة .. بيت مهدوم ..
تنطلق ..
تدور في فضاء صحراء بلا نهاية .. أو هي تبدو كذلك
تعبر المسافات بسرعة مجنونة .. ترسم دوامات في الهواء ..
و بين التلال البعيدة شيئا فشيئا يبدو هيكل بناء رمادي ..
تزداد الرياح سرعة .. ترتطم بالجدران العارية
تزرع بين شقوقها نبعا ذهبيا من رمال .. و سرعان ما ينضب النبع
تصفع القضبان .. تهزأ بالأسوار العالية .. تعبر النوافذ الضيقة ..
تملأ الهواء داخلا بالغبار.. الرمال .. و رطوبة خانقة ..
تهدأ بين الجدران الأربعة .. ترتمي بتعب و تنسى ثورتها ..
تهوي ذرات الرمال على الأجساد المتكومة ..
يتحرك أحدهم .. يجيل بصره في الرمال متناثرة هنا و هناك ..
ينفض ثيابه بحركة متئدة ..
يمنح الأفق نظرة صبر طال .. و لا تبدو نهاية الصبر قريبة ..
يلحظ العتمة بدأت تزحف على المكان ..
يدفع جسده إلى الأعلى .. يرقب الشمس تهوي .. تكتسي بلون ذهبي محمر ..
و مع الغروب .. يعتدل الرجال ..
الرطوبة تزداد .. و الريح تعاودها نوبة جنون
تصرخ .. تهوي على الجدران بصفعاتها .. يسمع لها صوت كالعويل ..
لوهلة تبدو الرياح كأنها تحمل الكثبان إلى داخل زنازينهم الضيقة ..
لكنهم يتحملون .. قد تحملوا القهر و آلام الفقد و الفراق ..
قد صبروا على كبريائهم تغمد فيها الخناجر ..
تغلبوا على آلام الروح .. أتهزمهم آلام الجسد ؟
انتابت عادل نوبة سعال و احتقن وجهه ..
احتضنته العيون قلقة ملهوفة
كان أصغرهم .. أكثرهم ألما .. و أكثرهم صمتا
ربت محمود على كتفه برقة و حاول أن يجعله يرتشف قليلا من الماء
عاد الصمت يخيم حولهم ..
تابعت أنظارهم الظلام يعبر الفضاء و ينشر عباءته الواسعة الضيقة على المكان ..
رفع سالم عينيه إلى النافذة الوحيدة ..
حاول أن يخترق سحب الغبار بعينيه لعله يلمح نجمة تبرق ..
آلمه ألا يجتمع بنجمة يسائلها عن أهله الذين لم ير أحدهم مذ أتى هذا السجن ..
عبرت ذاكرته أغنية كان يتمتم بها شباب الحي في صغره ..
و شيئا فشيئا تدفق صوته الشجي إلى آذانهم حزينا متعبا :
( يا سجاني
يا عتم الزنزانة
عتمك رايح
ظلمك رايح
نسمة بكرة ما بتنساني )
صمت الرفاق .. خفتت أنفاسهم ..
دوما لصوت سالم العذب المليء بالعذاب تأثير السحر ..
قاطع إصغاءهم صوت اليهودي الدنيء حاييم يهتف عبر الباب :
اخرس .. مخرب .. سنقطع لسانك ..
التفت قاسم نحو الشاب ، أشار له بصرامة أن اصمت ..
رجته أعين رفاقه أن يهدأ .. لطالما تعرض للأذى بسبب ردوده الحانقة المليئة بكبرياء مجاهد أسير ..
ازدرد لعابه بصعوبة .. و عاد بوجهه إلى الرياح و ما تحمل من رمال ..
شعر بصفعاتها أهون عليه من ضحكات ذاك اللئيم و هو يبتعد ..
شعر بحرقة في عينيه .. مسحهما بكمه بهدوء
و عاد صوته يهمس :
( لو ما إني تركتا بعيد
لو ما اشتقت لضيعتنا
ما كنت اوقفت بشباك الزنزانة
و غنيتلها
يامه العسكر بيني و بينك
لو عجلتِ بيعلى جبينك
رضعتيني العزم و يمه الموت يهون
و ما تنهاني
هيه هيه )
ابتسم محمود .. هذه أنشودته المفضلة .. لطالما تغنت له أمه بها في صغره قبل أن يحرمها القهر حتى من الغناء .
دقائق و صمت سالم ..
سبحت أفكارهم في عوالم مختلفة
تحسس قاسم جبهة عادل بتوجس .. شعر بكثير من الألم .. قد زادت وطأة الحمى عليه .
بحث في العتمة عن مازن .. رآه في زاويته المعتادة ..
وحيدا ، شاردا ، تتحرك شفتاه بالتسبيح ..
انتقل قاسم إلى جواره .. همس : قد زادت الحمى .. هلا رقيته أو قرأت عليه شيئا من القرآن الكريم ؟
رغم الظلام .. رأى قاسم بريق الأسى في عيني مازن ..
لم يستطع كبت حزنه على ذاك الشاب الصغير .. فنقلت ارتجافة يده السريعة انفعاله إلى قاسم ، ربت مازن على يد صاحبه و نهض ..
تحرك بهدوء .. وحده من بينهم ظلت خطواته غير مسموعة و هو يسير ..
طافت الأفكار سريعة في عقل محمود و هو يتأمله عن بعد ..
تذكر المرة الوحيدة التي عمل فيها مع مازن .. و ذات المرة التي أسرا فيها .. تذكر فرارهما .. تسللهما بين البيوت .. إصابته هو التي منعت مازن من الحركة بسرعة أكبر .. أكان شؤما على صاحبه ؟؟ نفض الفكرة بسرعة .. استطاع مازن أن يثبت في أعماقهم معنى الإيمان بالقضاء و القدر .. ما أراده الله حدث
عاد يتطلع إلى مازن .. لحظ اقترابه من عادل فنهض نحوه
جلس مازن إلى جوار عادل .. أراح رأسه على ركبته و أحاطه بيده .. و بدأ الرقية بصوت خافت و حنو كبير .. أنصت محمود و شعر براحة كبيرة مع صوت مازن الخاشع الندي كما يشعر بالهدوء مع صوت سالم الشجي .. بعد أن عرف محمود مازنا ندم على أنه لم ينتهز الفرصة من قبل ليحفظ بعض القرآن الكريم لكنه يفعل الآن بمساعدة صاحبه ..
انساب صوت مازن في المكان ثم ارتفع بعض الشيء فغدا الجميع ينصتون له :
( بسم الله الرحمن الرحيم * قل أعوذ برب الناس * ملك الناس *
إله الناس * من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة و الناس )
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك ..
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك ..
أسأل الله العظيم رب ...
و كأنما لاحظ محمود لأول مرة أن الدعاء يقال سبع مرات .. إنه يتعلم كل يوم شيئا جديدا .. و دون أن يشعر تمتم : الحمد لله ..
تنهد مازن بعمق بعد أن أتم الرقية .. فتح عادل عينيه .. تلمس يد مازن بضعف و أحاط أصابعه بيده كأنما يود أن يشكره ..
ابتسم محمود .. حقا إن مازن أكثرهم اعتناء بالعبادة حتى أنهم أطلقوا عليه لقب شيخ الأسر تحببا .. فلا غرو أن يشعر الجميع خاصة عادل بالطمأنينة تغمرهم مع تلاوته للقرآن ..
غاصت ابتسامته فجأة وسط بحر قلق و حزن مع زفرة حرى ندت عن صدر عادل .. و تلتها نوبة سعال أخرى أشد من الماضية .. تمنى لو أنه يملك أن يخرج عادل من بين هذه الجدران .. كم غدا يشعر بالاختناق و كأنما هي تطبق عليهم شيئا فشيئا .. و عاد صوت مازن ينسيه همه بتلاوته العذبة .. أنصتت القلوب .. و خيم صمت حزين هادئ على المكان .
×××××××××××××
يتبع بإذن الله تعالى ..
خالص التحية
غموض