أنا دائم النبش في أوراقي القديمة ، حتى لَتستغيثُ منّي ! هي عادة أستمتع بها ، تُرجعني إلى الماضي بحلوه ومُرّه ، والغريب أنّ المُرّ من أيّامنا يُمسي حُلْواً متى صار من الماضي ! هل لأن الذكريات تُعيد لنا من سنوات عمرنا ما لا يعود ؟ ربما .
هذه رسالة حقيقية – تصوّروا – كتبتُها في آخر أيام خدمتي في الجيش ، إلى صديق حِمصيّ التحق بالخدمة حديثاً ، كان خريج كلية الفنون الجميلة فناناً فذّاً مُرهف الإحساس جداً ، وكان إلى ذلك دقيقَ الجسم ضئيل الحجم لو اتّكأتَ عليه لانْهَدَمَ ! وجد نفسه في خيمة وسط غُبار وطين ورياضة وتدريب وأوامر و... فكَرِهَ عُمُرَهُ ووصل إلى حافّة اليأس ! أحببتُهُ جداً وأشفقتُ عليه ، وأنا بالمناسبة أحب أهلَ حمص وأجدهم من أكثر الناس حلاوة معشر ، وألفة ، وطيبة .. وذكاء ، وهم – إلى ذلك – أعظم الناس رجولة وإباءً وكرامة . فأرسلتُ إليه هذه الرسالة ، أسلّيه بها ، وأروّح عنه بعض ما هو فيه ، أرجو أن تقعوا منها على فكرة تستحقّ التأمّل ، أو تجدوا فيها ما يُضحك سِنّكم .
رسالة إلى تَعيس !
صديقي العزيز أبا ماهر ، تحيّة تعيسٍ إلى أتعس ، وبعد :
فإنّي قد سبقتُكَ في البلوى ، وعشتُ شقاءكَ قبلَ أن تعيشه ، وذقتُ المرّ الذي تذوقه ، وتكدّرتُ وتعذّبتُ ويئستُ ما شاء لي اليأسُ ! وأنا الآن – بعدَ أن منّ الله علي ووصلتُ إلى برّ الراحة أو أوشكتُ – أخبرُكَ بِما يُفيدكَ في عيشتِكَ التعيسةِ هذه ، فخذها من طبيبٍ عانى هو من مرض مريضِه ، فعرف طبيعته وموطنَ الضعفِ فيه .. وهذه وصفتي إليك :
صديقي الأتعس :
الخيالَ الخيالَ ..فهو خيرُ دواءٍ لكلِّ ذي علّةٍ تُشبه عِلّتكَ ، وكلّ ذي نفسٍ شفيفةٍ مُرهفة كنفسِكَ تعيش في الأشواك . الخيالُ يا صاحبي ليس لأحدٍ عليه سُلطان ، فاغتنم هذا الطائرَ المُجنّح وطِرْ به إلى حيثُ تشاء ! إلى العالَم الذي تبغي .. اهرب به من كلّ أوساخ الواقع وأكداره وأتراحه .. وإذا أنتَ أحسنتَ ركوب خيالك لا تجد أحداً يستطيع أن يُثقلك بأمر ، أو يجرحكَ بحرف ..
فيا صديقي الأتعس :
حين تنظر إلى ما حولَكَ في الليل ، فترى هذه الخيمة المَقيتة : قطع قماش صفيق يلفّك من جهاتك الأربع كالقبر إلا قليلاً ! ويزيدها شبهاً به لونُها الذي يُشبه لونَ التراب ، وذلك العمود الذي يُشبه سيّدنا عزرائيل !! تخيّلْ نفسَكَ في بيتٍ أنتَ بنيتَهُ على عينك : بابه من خشب الأبنوس ، وقد حُفرت عليه مناظرُ تسرّ الناظرين وحُلّي بقبضةٍ أنيقةٍ من المرمر ، وينفتح على صالةٍ بهيّةٍ فسيحةٍ واسعةِ الأرجاء ، كلُّها بياض في بياض ، وعلى سقفها صُوّرت كل الملائكة ساجدةً بينَ يدي الله الجالسِ بكلّ هيبةٍ وجلال وبكلّ رأفة ورحمة وهو يُومي ببنانه للخليقةِ أن كُوني .. وعلى جُدرانها الأربعة عُلقت صور جميع القدّيسين والأنبياء وكلهم ينظرون بإعجابٍ وإكبارٍ وتقديسٍ إلى مريم العذراء تحنو على وليدها بوداعةٍ ورقّةٍ ساحرتين .. وأثّثتْ هذه الصالةُ بثريّا تتدلّى من سقفِها تُمثّل انبعاثَ الأمل الذي يهبط من السماء ! وبأرائكَ وثيرةٍ وطنافسَ ناعمةٍ إن جلسَ أحدٌ فوقها لم يشعر بها .. تلك هي الصالة . وغرفة النوم : حمراء الأجواء عابقة الأنفاس ، تضمّ جدرانها سريراً عريضاً رهوَ الفِراش ..! وخزانةً فيها ما غلا من ثياب النساء وخفّ ونَعُمَ وشَفّ ، وفيها من آنق الملابس الرجاليّة وأجملها . وفي الزاوية مشجبٌ رشيقُ القوام وإلى جانبه مرآةٌ بشكل قلب الحبيب ، بطاولة مُذهّبة عليها أنواع المساحيق اللطيفة الناعمة ..روائحها تشق القلوب لتستريحَ فيها !
والمطبخُ قد حوى ما لذّ وطاب من الطعام والفواكه والأفاويه ، وصنابيره كلّها من الفضّة الناصعة وتتسلل إليه بعضُ خيوطٍ من الشمس الساطعة ، وأرضه من الرخام الناعم اللماع الذي تشتهي المشيَ فوقه الأقدام الحافيات ..
صديقي الأتعس :
وإذا أفزعكَ من هذا الحلم المُخمليّ زوبعةٌ من رمال هذه الصحراء التي تخنقنا فلا تهتمّ ولا تغتمّ .. وتخيّلْ نفسَكَ جالساً عندَ شاطئ البحر الساجي ، وقتَ الغروب . تخيل البحرَ مُشتاقاً إلى الشمس ، وهي كذلك وأكثر .. هو يُباعد ذراعيه ليضمّها ، وهي تقتربُ منه خَجِلَةً محمرّةَ الوجنتين ، حتى إنّ احمرارها انعكسَ شَفقاً رائعاً بديعاً ، ثمّ لم يلبثا بعدَ قليلٍ أن غابا معاً وراءَ الأفق مخلّفين احمرار الخجل ، وحرارة اللقاء !
وأمّا إذا عكّرَ صفوكَ كلامٌ من هنا وهناك ، من أناسٍ لا يُقيمون وزناً لِما يقولون ، مع أن مقالهم أثقل من الجبال الراسيات ! فتخيّل أنك بين يديْ أمك الرؤوم ، تضمك بحنان ، وتقبّلك في جبينك فتطبع على قلبك الأمان !
عزيزي أبا ماهر :
الخيالُ كُنهٌ رقيق ناعم ، لكنه أقوى من الواقع ، والخيالُ حبيسُ الرأس ، لكنه أوسعُ من الحياة ، الخيالُ أعندُ من الأيّام ، هي تأبى الرجوع ، وهو يستطيع الرجوع إلى حيثُ يُريد ومتى شاء ! هي لا تستطيع أن أن تسبقَ دقّاتِ السّاعة دقّةً واحدة ، وهو يعدو أمام الزمن عَدْواً ! الخيالُ يا عزيزي يسخر من كل حقيرٍ وَضيع ، ويعلو على كلّ سافلٍ مُنحَطٍّ ، ليبلغَ بصاحبه أعلى السماوات !
فهلاّ أطعتني ، وجرّبتَ هذا الدواء ؟!
مع أطيبِ التمنيات
من أخيكَ التعيس الأقدم