وقرأ همّام الرسالة!
في فترة الاستراحة الصباحية الوجيزة ومدتها نصف ساعة، يتدافع الطلاب نحو واجهة مقصف المدرسة، يتسابقون إلى المقدمة من الدور، لعلهم يتناولون حاجتهم من الساندويش وشراب العصير، أو الشوكولا و السكاكر، فيزدردونها ازدرادا أو يعُبُّون الشراب والماء عباً، حتى إذا فرغوا من أكلهم وشرابهم ، فزعوا إلى ألعابهم ، وما ينتظرهم من لعبٍ بالكرة، أو جري متلاحق مع زملائهم ورفاقهم، في دوران لا تكتمله الأيام إلا روعةً وإقبالا، روعة الطفولة تزدان المدارس بها كأشهى ما تكون.كان همام في طليعة المتسابقين إلى رأس الدور، يشتد في عدوه ،ويمضي منطلقاً كالسَّهم لا يلوي على شيء.
كاد همام أن يصل رأس الدور، لولا أن أعاقه جسم خفيف ارتطم به ، فردَّه حينا عن السَّبيل. فإذا وقف في الترتيب الخامس من الدور، وعزَّ عليه أن فاته ما سبقه إليه أقرانه إلى المركز الأول، يلهث بقوة، يتحلَّب فمه ريقا رطب اللعاب. بينا طبقتان رقيقتان من العرق كحبات اللؤلؤ، تلازمان خدَّين أحمرين، وأخريان تعانقان جانبي الجبين، وتفور الدماء أعلى أذنيه، وكأن النحل التسعهما..
أحسَّ همام شيئا من برودة العرق خلف الرقبة أسفل الرأس، مما اخضلَّ به الشَّعر عند نهاياته ..وتنهَّدْ ...ثمَّ تذكر الجِرْمَ الخفيف الثَّقيل الذي أعاقه في مهمته تلك...فارتد طرفه جُنُباَ جهة المكان من الحادث... فرأى زميله سامي، ذلك الطالب الهادئ ذا الجسم الرقيق، وهو يعالج أثر الصدمة من الرَّمل الملتصق بقوة في كفيه وركبتيه، فاكتنفه الأسى، وحزن لضعف صاحبه ورقَّته، وتمنى لو أنه لم يصطدم به هذا الاصطدام ، وتمنى لو لم يراه ضعيفا هذا الضعف، أو أنه اصطدم بطالبٍ آخر أشد بأسا واحتمالا. كماتمنى لو أنه قام من سقطته تلك، واحتمل لنفسه كما يحلو له هو أن يحتمل لو كان في مثل موقفه ذاك، وتسابق كما يتسابق الآخرون، فأحس بشوك من وخز الضَّمير، ففكَّرَ وقدَّرْ، والتمعت خطة في ذهنه... فالتفت إلى من كان خلفه في الدور، فكان ممن عرف، طالبا إليه أن يحفظ له الدور حتى حين ... انطلق همام نحو سامي مسرعا، قال: سامي.. سامي لا يهمُّك، هات أشتري لك..هات! تلاقت عيناهما ـ رغبة في الإقبال، ورغبة في الارتداد، رغبة في مد يد عون إلى يد، ورغبة مقابلة في انتزاعها.. فارتسمت طبقتان صافيتان رقيقتان من الدَّمع في عيني سامي ولم يُحر جوابا.. واستدار إلى حيث كان الظِّلُّ من المقصف.. واستدار همام في سرعةٍ إلى حيث المعمعة من الطابور، ورسالة سامي تلتمع في عينيه لا تبارح. قرأ همام الرسالة كما لم يقرأ درسا من دروسه من قبل. و فهمها في سرعة كما لم يفهم شيئا من مثله في سرعته من قبل.
عاد همام من المقصف، حاملا ما اشتراه بالثلاثين قرشا، هي مصروفه اليومي، من الساندويش والعصير...عاد إلى صاحبه يحمله خيلاءٌ من الانتصار ..فهل انتصر حقاً؟..شعور بنشوة انتصار غريب.. هو أحلى من أي انتصار حققه على أقرانه، سواء في مجال القوة في الملاعب ..أو المشاكل والنزاع بين الطلاب .. وأغلى من أي انتصار حققه في تحصيله للعلامات والنشاط الصفي... هناك تحت ظل بناء المقصف جلس إلى صاحبه.. وأصر عليه ليقاسمنَّهُ الطعام والشَّراب.. فاستجاب سامي على حياء ... وضحكا بعد ذلك، وتمازحا وتجاذبا أطراف الحديث ..في سعادة غامرة يشق ثوبها صوت الجرس الرهيب..صحوة من غفلة إلى ممارسة النظام والجلوس على مقاعد الدرس... عاد همام إلى بيته بعد أن قرع جرس الانصراف من المدرسة ... شاعرا بالجوع مختلطا بالسعادة و الانتشاء ... وكيف يسعد وينتشي وهو لم يأكل في الاستراحة إلا نصف بطن ... كيف .... وكان إذا جاع فإنه يقيم الدنيا ولا يقعدها حتى يأكل ...كبف وليس له على الجوع صبر؟ ...وحدَّث نفسه مستغربا: لماذا لم يعد الجوع أوّل آلامه؟...وفي البيت أراد أن يحدِّث أهله بما كان حال وصوله... لكنه لم يفعل، فنشوة الانتصار طغت على كل حديث...وجاء موعد الذهاب إلى الفراش ملبيا رجاء والديه.... فما إن استقرَّ في فراشه لم يطق صبراً حتى ناداهما: أن تعالَيا فلدي ما أقوله لكما...فأقبلا على قدم الاستغراب والظنون. حدث همام والديه من أمر ذلك اليوم وانتهى. فأشرقت عيون والديه بالحبور...فقبَّلاه وأسكناه الفراش.
وعلى مائدة الإفطار في الصباح، جلس همام حيث يجلس دائما ليتناول طعام الإفطار قبل ذهابه إلى المدرسة...خبز.. مارتديلا...جبن...كأس حليب...و ستون قرشا!! وتلاقت عيناه في عيني أمِّه تتساءلان... فقرأ الرِّسالة...