إنعتـــــــــاق
ذات مساء توشح عباءة الرتابة و أُنتزعت فيه أخر أنفاس الخريف , سرت في هدأه السماء الضامرة على أنجمها الباهتة , جلجلة مدوية وجلبة أرعدت السنونوات الهاجعة حال احتكاك عجلات الأقدار النارية بمتعرجها اللامرئي لإيصال حمولتها من نـــذر ابتلاء يطـــرق بشرٍ مستطيرٍ باب أنثـــى حاجبــــها القمــــر المنيــــر.
جالسة فوق كرسي من طمأنينة تهدهد أبنتها البالغة أربعة فصول ربيعية , تحوكان أحلامهما في غدٍ أردنه مشرقـــاً باهـــراً لا يفضه كــدر ولا يعتري مســــلكه المنثور بالورود أدنى خطر.
ترهبنت في محراب العنوسة دافنة كنوز أنوثتها الطاغية في أروع فداء , وتجلت في عطائها اللامتناه بإلقــــــامهــ ـا ثـــدي الحنان ترشف منه أحلى دلال , متجسدة في كل تلك العناوين التي تحتاجها طفلة من نقاء, فهي الأم والأب وهي الأخت والصديقة .
توقفت عربة الأقدار أمام المنزل وترجل منها ملكين أثنين ذوا بأس شديد , فما أن أخذا بمجامع حلقة منحوتة كــقلـــب فضي , حتى سمعـــا الطفلة تشدو
( أمي أمي أمـــــي نبـــــع الحيــــاة) تعانقها الأنثى بصدر يبعث جذوة الدفء في ليالي الانفصـــال.
قال أحدهما لـصاحبه : فلندع الطفلة تنهي أنشودتها حتى يغالبها النعاس ومن ثم نقذف بسهم البلاء في صـــدر الأنثى , فأومأ الأخر بالموافقة.
فجأة قاطعهما القمر مستفسراً : مابالكم ياقوم تتحلقون أمام باب سيدتي؟
رد أعظمهم رتبة: نحن رسل ربـــك أتينــــا بأمـــره لاقتطاع ثديها الأيمن ولسنا بمزحزين حتى نفعل لولا أن رأينا أبنتها تحول بيننا وبينه.
قال القمر : قد علمت من هيئتكم بأنها لا تألو على خير مطلقا و ويلاه من قدر قد قٌدر فلا حول ولا قوة إلا بالله المتعالي بعلياه القادر على كل شئ منقادين لأمره ومنصاعين لعظيم سلطانه .
سأله الأخر : وماذا تصنع هاهنا أيها القمر ؟
جاوبه والأسى يمتزج بعبراته: مذ سمعت بأعجوبتها وأنا أحرسها من غيلان الليل وأعكس ضيـــائهـــا الأبدي بنــوري , إذ أثرت على نفسي رفقتها والبقاء قاب قوسين أو أدنى من أسطورتها السرمدية.
أنظروا بربكم لها...أنثى مخلقة في رحم غمامة لم تشرب زبــد سيــل العــرم و لم يطمثها الودق الأرعن في جبال تهامة ,
أنثى مسكوبة في زلال الفرات ,مكسوة بعذوبة النيل , تلك المنزوع عنها نكــــتة الكراهية ونصيب السواد , أنثى السحاب وامرأة الفرح تلك التي ترحل فوق لجات البحار السبع باحثة عن ينابيع الصفاء في شمال مدى النقاء لتجد فيه مغتسلاً بارداً فتبرأ جراح الزمان الغائرة مع كل إشراقه صبح .
على الجانب المتاخم من باب قبله الرحمة , في حين تتدفق الأنثى بطوفان الأمومة الجارف على طفلتها الوحيدة , شعرت بألم مغولي يأسر رقبتها و بالكاد تقوى تحريكها , وأحست بأن بركان فيزوف على وشك قذف حممه الزاحفة ببطء صوب ذات المنطقة المتصلة بثديها الأيمن.
تنبهت الطفلة لما يعتري الأنثى فقالت بنبرة ملؤها البراءة:
( ماما أشبــــــك؟)
طمأنتها الأنثى : ( لاا يماما مافيا شي ,)
ردت الطفلة : ( ماما أنا خايفة لا تخليني لحالي )
ضمتها الأنثى متحاملة على ألمها المتقد والمفاجئ:
( أنا معاكي ياقلبي ومابتركك ياحياتي دقيقة..
يلا ا أقرأ لك قصة الأرنوبة الشاطرة قبل ماتنامي )
علت ثغر الطفلة بسمة تشي باستحسان الفكرة رغم بداية اجتياح بربري لسبات عميق بدأت طلائعه على رموشها الجميلة.
في حين رحل الملكين في صعودهما الخاطف صوب الملأ الأعلى , ودب في القمر الكسوف الكلي حزنــــاً , عرجت للسماء السابعة دعوة طفلة نائمة في أحضان المجهول اهتز لها الملكوت السماوي وتجافى عن مضاجعه فجــــــاء الــــــــــرد الآلهـــــــي قبيــــــــــل آخر ساعة لبزوغ الفجر , تنفس فيها الصبح طعم الشفاء وعتقت الأنثــــــــــ ى بواسع رحمه الــــــرب من أليــــــم أقدار الشقاء .
بقلم
تركي ناصر الحربي ( روميو)